"قبلة الموت" تعبير ورد في تقرير سوداوي عن واقع ألمانيا الاقتصادي ومآلاته المتوقّعة داخلياً وأوروبياً وعالمياً. وخلال أسابيع قليلة، تعدّدت فجأةً الأدبيات التي تصف ملامح الأزمة الاقتصادية الخطيرة في ألمانيا. وقبل أيام، انهار الائتلاف الألماني الحاكم في لحظة تبلغ الغاية في الحساسية داخلياً وأوروبياً، وشكّلت عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض آخرَ ملامح الكابوس الذي يوشك أن يهدّد مستقبل "الجنّة" الأوروبية. ومشكلات أوروبا خلال العقدَين الماضيَين كانت غالباً تأخذ طريقها إلى الحلّ عبر البوابة الألمانية، ولولا الفاتورة الكبيرة التي دفعتها إلى احتواء "الأزمة المالية العالمية" (2008) لما أمكن إنقاذ اليونان من هاوية الإفلاس بكل ما كان يعنيه من تداعيات على تماسك المشروع الأوروبي كلّه.
على المستوى الاقتصادي، يفقد المحرّك التاريخي للازدهار الألماني بريقه باضطراد، ويشير تباطؤ الاقتصاد الألماني إلى مخاطر مستقبلية محتملة تهدّد أوروبا، فتراجع الإنتاجية الألمانية يقوّض دورها قاطرةً لأوروبا، وهي بسبب هذا التراجع تواجه مستقبلاً ضبابياً. وأحد العوامل التي تكاد تشكّل مشتركاً عامّاً في سيل الكتابات عن هذه الأزمة؛ انخفاض معايير التعليم. وحتى وقت قريب، كانت الوصفة الألمانية للنجاح الاقتصادي تبدو غير قابلة للمنافسة، وكانت أهم أسس النجاح الألماني القوّة العاملة الماهرة والنمو التكنولوجي السريع، وأدت الفوائض التجارية الكبيرة لارتفاع معدّلات الادّخار، ما ولّد استثمارات عالمية النطاق. وخلال السنوات الخمس الماضية، فشلت الوصفة في تحقيق النتائج المتوقّعة، وأصبحت ألمانيا راكدةً، وأصبح عمّالها أقلَّ كفاءةً، مع تآكل ملحوظ في روح المبادرة، والمرجّح أن هذه العوامل جميعاً أسهمت في الأزمة.
ومؤشّرات الأداء الاقتصادي الألمانية مخيّبة للآمال، فمثلاً، أصبح معدّل النمو سلبياً (-0.2%) في مقابل نمو إيجابي في فرنسا (1.2%)، وإيطاليا (0.7%) والاتحاد الأوروبي (0.5%). ورغم أن السياق الاقتصادي الأوروبي سيظلّ خاضعاً للهيمنة الألمانية (نحو 24% من الناتج الأوروبي) فإن ألمانيا لن تظلّ الزعيمة. ومن شأن الأزمة القائمة أن تُفكِّك الاتحاد الأوروبي، إذ ستبحث دول أعضاء عن بديل خارج أوروبا يعوّض دور ألمانيا شريكاً تجارياً أساسياً، ومثل هذا الاتجاه ينذر بعواقب جيوسياسية مقلقة.
أصبحت ألمانيا راكدةً، وأصبح عمّالها أقلَّ كفاءةً، مع تآكل ملحوظ في روح المبادرة
لقد اعتمد نمو ألمانيا تقليدياً على قوة صناعتها التحويلية، وتطوّرت عبر نقل مرافق الإنتاج جزئياً إلى بلدان منخفضة التكلفة، مع إبقاء مراحل الإنتاج ذات القيمة المضافة العالية في الداخل. وتأثّرت الصناعة الألمانية أيضاً بارتفاع تكاليف الطاقة. وقد تستثمر روسيا، ومعها بعض قوى اليمين المتطرّف، هذه الحقيقة فرصةً لتأكيد صوابية موقفها. وما تكاد تجمع عليه دراسات وتقارير عديدة أن العولمة سهّلت لمنتجين آسيويين اللحاق بقادة التكنولوجيا الغربيين، فأصبحت شركات آسيوية تتفوّق أحياناً على شركات كانت رائدةً، وضمنها شركات ألمانية. وسيكون من العسير عكس هذه الظواهر كلّها في المستقبل القريب، حتى لو انخفضت تكلفة الطاقة. وفي الوقت نفسه، فإنّ تحصين "القلعة الأوروبية" لن ينقذ ألمانيا ولا أوروبا، ومن ناحية أخرى فإنه، باستثناءات قليلة، لن تظلّ ألمانيا راغبةً ولا قادرةً على استيعاب واردات أكبر من الداخل الأوروبي، وسيصبح المورّدون الأوروبيون أقلّ قدرة على المنافسة، وهناك منتجون آسيويون في وضع أفضل حالياً للتغلّب على المصنّعين الأوروبيين في قطاعات صناعية عديدة.
وهكذا، قد يصبح الانحدار الألماني (بحسب أحد التقارير) "قبلة الموت" للجهود الرامية لتعزيز دور أوروبا لاعباً رئيساً في عالم معولم، والتعافي لن يكون ممكناً إلا بزيادة الإنفاق الحكومي. وإذا فشلت الاقتصادات الأوروبية في تطوير نهج جديد، فإن اقتصادات أخرى ستفعل ذلك بدلاً منها، وبالتالي، تحلّ بلدان غير أوروبية محلّ القاطرة الألمانية (على الأرجح الهند والصين)، وفي العالم الآن منافسون أكثر إنتاجيةً ومهارةً ورشاقةً خارج أوروبا، ما قد يعزّز زيادة الإنفاق العام.
وهناك تداعيات دولية لهذا المنزلق على القاطرة الأوروبية، التي منحت "قبلة الحياة" لغيرها، ما يمنح "قبلة الموت" لأوروبا المتأزمة، وقد يكون من المبالغة الحديث عن تصدّع هذا الكيان الكبير، لكنّ الأزمة تتفاقم منذ سنوات، ووصولها إلى ألمانيا مؤشّر على ضخامتها، وأيّاً كانت الخصوصية الألمانية، فإن توابع الزلزال وارتداداته لن تصيب ألمانيا وحدها، وستمنح فرصةً ذهبيةً للصين وروسيا واليمين الأوروبي. وألمانيا متأزّمة منذ غزو أوكرانيا، وبخاصّة مع زيادة مهولة في الإنفاق العسكري، بل ربّما عسكرة شاملة، والقادم لا يبعث على التفاؤل.