يمكن تشبيه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بكائن مسعور يهاجم بشراسة وعدوانية كل من يقف في طريقه، أو يتجرأ على الانتقاد أو الاعتراض على حرب الإبادة التي يشنها مع حكومة الحرب الفاشية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في قطاع غزّة منذ أكثر من عام، والتي وسعها في نهاية سبتمبر/أيلول الماضي، لتطاول لبنان عبر استهداف قادة حزب الله وعناصره، وأماكن وجودهم في كل المناطق اللبنانية.
لا يقتصر تهجم نتنياهو على الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حين تخرج منه، أو تنسب إليه، تصريحات ينتقد فيها مواقف وأفعالاً إسرائيلية، بل طاول الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس ومعه مسؤولون أمميون عديدون، إضافة إلى رؤساء حكومات إسبانيا وبلجيكا، ومسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل. ولم يسلم من تهجّمه الرئيس الأميركي جو بايدن، على الرغم من الدعم منقطع النظير الذي تقدّمه إدارته لإسرائيل على كل المستويات السياسية والعسكرية اللوجستية والمالية.
السؤال هنا: ما الذي يُمكّن نتنياهو من الاستقواء والتهجم على العديد من قادة العالم الذين تجرأوا على انتقاد فظائع الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين؟ هل يستقوي بالدعم الأميركي له، أم أن الأمر متعلق بأن هذا الرجل يمثل تيار يمين فاشي وعنصري يحكم الدولة العبرية، ويتلقى دعماً غير محدود من رصفائه في دول الغرب الأطلسي، خاصة في الكونغرس ومجلس الشيوخ والمؤسّسات الأميركية الأخرى التي تهيمن على صانع القرار في الولايات المتحدة؟
فاشية حكومة نتنياهو واستنادها إلى قوى الهيمنة دفعاها إلى اعتبار غوتيريس شخصاً غير مرغوب فيه، أي أنها قرّرت منعه من دخول إسرائيل، على خلفية ما اعتبره وزير الخارجية الإسرائيلي يسرئيل كاتس "عدم إدانته الصريحة" للهجوم الصاروخي الذي شنته إيران مؤخراً على إسرائيل. وهي حجة فنّدها غوتيريس خلال جلسة عقدها مجلس الأمن بعد القرار الإسرائيلي، وأكد فيها تجديد إدانته "الهجوم الصاروخي الضخم الذي شنته إيران على إسرائيل". وليس خافياً أن التطاول الإسرائيلي على غوتيريس لم يتوقف منذ بداية حرب الإبادة التي تشنها على قطاع غزة، ثم تفاقم بعد دفاعه عن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، ثم اعتباره "الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة تهدد الشرق الأوسط"، إضافة إلى تأكيد التزامه بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي صدر في 19 سبتمبر/أيلول الماضي، ودعا إلى "إنهاء الاحتلال الإسرائيلي خلال 12 شهراً".
ليس التجاسر الإسرائيلي على غوتيريس الأول من نوعه حيال المسؤولين الأمميين، بل سبق أن منعت إسرائيل من الدخول إليها المقررة الخاصة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فرانشيسكا ألبانيز، ومنعت كذلك مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل من الدخول إليها منذ حربها على غزة، وذلك عقاباً على جملة مواقفه تجاه حربها، وليس فقط لأنه قال "ما من أحد قادر على لجم نتنياهو".
لعل تهجّم بنيامين نتنياهو المتكرّر على الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يقدّم مثالاً بارزاً على حجم الصلف الإسرائيلي، الذي يعمد إلى التحريف، ويضمر الابتزاز، فقد شنّ نتنياهو هجوماً لاذعاً على ماكرون، لأنه طالب إسرائيل بعدم التعرّض لقوات الأمم المتحدة العاملة في جنوب لبنان (يونيفيل)، وذكّر نتنياهو بألا ينسى أن بلاده نفسها "أُنشئت بقرار من الأمم المتحدة"، في إشارة إلى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في نوفمبر/تشرين الثاني 1947، الذي نصّ على خطّة لتقسيم فلسطين إلى دولة يهودية وأخرى عربية. لكن ماكرون سرعان ما تراجع عما قاله بعدما تهجم نتنياهو عليه، وندّد بما سمّاها "قلة المهنية" لدى بعض الوزراء والصحافيين الفرنسيين، الذين اتهمهم بتحريف تصريحاته عن إسرائيل. والمخجل أنه تحدّث بلغة اعتذارية عبر التذكير بأن فرنسا "لم تخذل أبداً "الدولة العبرية"، وأنه شخصياً وأعضاء الحكومات الفرنسية المتعاقبة "حاربوا على الدوام كل أشكال معاداة السامية"، وأن "فرنسا وقفت دوماً إلى جانب إسرائيل، وأنها شاركت "في الدفاع عنها والتصدّي لهجمات إيران".
ليست المرّة الأولى التي يتراجع فيها ماكرون أمام التهجّم الإسرائيلي عليه، فقد سبق أن تراجع عن تصريحات اتهم خلالها إسرائيل باستهداف المدنيين في غزّة، ليؤكد في اتصال مع رئيس إسرائيل إسحاق هرتسوغ، أنه لا يحمّل إسرائيل المسؤولية عن استهداف المدنيين الفلسطينيين بشكل متعمّد. ولم ينس تأكيد دعمه "بشكل لا لبس فيه حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها".
لم يتوقف نتنياهو عن التهجّم على تصريحات ماكرون المنتقدة، ولو لفظياً، إسرائيل، فضلاً عن انتقاده مواقف فرنسا التي تحاول أن تكون فيها متوازنة حيال ما يجري في المنطقة، وشمل ذلك انتقاد تصويت فرنسا والدول الأوروبية لمصلحة قرار الأمم المتحدة الذي يطالب بالانسحاب الإسرائيلي الكامل من الضفة الغربية والقدس الشرقية في غضون عام. إضافة انتقاد نتنياهو دعم باريس لدعوة المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لإصدار مذكرات اعتقال ضده، وضد وزير دفاعه يوآف غالانت، فضلاً عن أن نتنياهو لا تروقه دعوة ماكرون إلى عقد مؤتمر دولي لمساعدة لبنان في باريس في 24 أكتوبر/تشرين الأول الجاري.
المشكلة أن ماكرون لا يقوى على اتخاذ موقف حازم وواضح تجاه حرب الإبادة على قطاع غزّة، لذلك لم يذهب إلى اتخاذ مواقف نظرائه في إسبانيا وإيرلندا والنرويج وسلوفينيا حين اعترفت دولهم بالدولة الفلسطينية في مايو/أيار الماضي، ولم يشارك دعوة رئيسي وزراء إسبانيا وأيرلندا إلى إلغاء اتفاقيات الاتحاد الأوروبي التجارية مع إسرائيل، وفرض حظر شامل لتصدير السلاح إليها.
قد يكون الدعم الهائل الذي تقدّّمه الولايات المتحدة لإسرائيل العامل الأهم في تمكين نتنياهو من الاستمرار في مواقفه الفاشية حيال الفلسطينيين، وتهجّمه على كل مسؤول غربي يحاول اتخاذ موقف متوازن من جرائم الحرب الإسرائيلية. ويصعب التصديق أن الولايات المتحدة لا تستطيع التأثير على مواقف إسرائيل، لكن المشكلة أن معظم المواقف الأوروبية المسايرة والداعمة لإسرائيل سببها عدم إغضاب الإدارة الأميركية، إضافة إلى أن حكومات الدول الأوروبية ارتضت أن تضع نفسها في وضعية العاجز حيال عدوانية إسرائيل منذ سنوات طويلة.