منذ تدخّلها المباشر في المنطقة العربية عام 2015، عبر البوابة السورية، نجحت موسكو في إقامة توازن دقيق في علاقاتها مع القوى الرئيسة في الشرق الأوسط. تمكنت، مثلاً، من عقد تفاهمات مع تركيا (بشان سورية وليبيا) وزوّدتها بمنظومة صواريخ إس 400 رغم كونها عضواً في حلف الناتو. ورغم أنّ أنقرة ساهمت في إفشال الهجوم الروسي على كييف عام 2022، عندما زوّدت هذه الأخيرة بطائرات مُسيّرة من طراز "بيرقدار"، فإنّها رفضت في المقابل الالتزام بالعقوبات الغربية على روسيا. توصّلت موسكو أيضاً إلى تفاهمات مع السعودية في إطار تحالف "أوبك بلس" النفطي، وحيّدتها في إطار صراعها مع الغرب حول أوكرانيا، عندما رفضت الرياض ضغوطاً أميركية لزيادة الإنتاج والتعويض عن النفط الروسي لأوروبا، لكن نجاح موسكو الأكبر تمثّل في إقامة توازن في علاقتها بكلِّ من إيران وإسرائيل، فتحالفت مع الأولى لمنع إسقاط النظام السوري، لكنها سمحت، في الوقت نفسه، للثانية بحريّة الحركة في الأجواء السورية لمنع إيران من إقامة وجود عسكري دائم لها في سورية أو تهريب أسلحة "كاسرة للتوازن" إلى حزب الله.
ورغم أنّ التفاهمات بين موسكو وتل أبيب استمرّت بعد اندلاع الحرب الأوكرانية، إذ التزمت إسرائيل بعدم تزويد أوكرانيا بالسلاح، خشية التأثير في تفاهماتها مع موسكو حول سورية، إلا أنّ التقارب الكبير بين موسكو وطهران، منذ صيف عام 2022، وتجسّد في تزويد الثانية الأولى بطائرات مُسيّرة، شكّل تحدياً لقدرة موسكو على الاستمرار في لعبة الموازنة بين إسرائيل وإيران، خاصة بعد أن تقدّمت الأخيرة بطلب لشراء طائرات سوخوي 35 ومنظومة صواريخ إس 400 الروسية، فيما راجت أنباء عن تزويد روسيا إيران بتقنيات إضافية لتحسين قدراتها العسكرية، بما فيها إطلاق أقمار صناعية إلى الفضاء. ازداد الأمر صعوبة بعد عملية طوفان الأقصى. ورغم أنّ روسيا أعربت عن مواقف أقرب إلى حماس وإيران خلال الحرب، بما في ذلك تشبيه بوتين سلوك إسرائيل في غزّة بسلوك ألمانيا النازية في لينينغراد، فإنّ تفاهماتها مع إسرائيل حول سورية، وهجرة اليهود الروس إلى إسرائيل لم تتأثّر كثيراً. في المقابل لم يتغيّر الموقف الإسرائيلي من الحرب في أوكرانيا، وذلك رغم مزاعم إسرائيلية يومية بالعثور على أسلحة روسية في مخازن لحزب الله في جنوب لبنان، وانتشار تقارير غربية عن قيام روسيا بتزويد الحوثيين بأسلحة ومعلومات استخباراتية لضرب السفن في البحر الأحمر، إذ ظلّت إسرائيل تقرأ الخطوة الروسية بأنها موجّهة ضدّ واشنطن وليس ضدّها هي.
وبعيداً عن المواقف والتصريحات الإعلامية، يبدو أنّ الصراع بين إسرائيل وإيران يضع روسيا أمام فرص ومخاطر. لا شك أنّ السهولة التي نفذت بها إسرائيل هجومها الأخير على إيران، وتدميرها منظومة صواريخ إس 300، تسبّب بإحراج كبير لموسكو، وجعل بعض الإيرانيين يشكّكون في جدوى الاعتماد عليها في أي مواجهة أوسع مع إسرائيل. ولا شك أيضاً في أنّ روسيا باتت تخشى حصول احتكاك مع إسرائيل في سورية، خاصة أنّ القصف الإسرائيلي، الذي تصاعدت حدته، طاول مؤخراً مواقع ملاصقة لقاعدة حميميم. لكن من جهة أخرى، يمكن أن يحقّق اتساع نطاق المواجهة بين إيران وإسرائيل (خاصة إذا تورطت الولايات المتحدة) مكاسب لروسيا. فمثل تلك المواجهة سترفع أسعار النفط، وتزيح النفط الإيراني المنافس من السوق الصينية. ستفيد هذه المواجهة أيضاً، من وجهة نظر موسكو، في توجيه الموارد الأميركية بعيداً عن المسرح الأوكراني، كما فعلت حربا غزّة ولبنان. ومن مصلحة موسكو بالتأكيد ضرب أي فرصة لتحسين العلاقة بين طهران والغرب، أو العودة إلى الاتفاق النووي الذي لم تتحمّس روسيا له كثيراً، بشهادة جواد ظريف عن المشادة الكلامية التي وقعت بينه وبين سيرغي لافروف في المراحل الأخيرة من المفاوضات حول الاتفاق النووي. وقد لوحظ أيضاً أنّ روسيا باتت، أخيراً، تعتمد أكثر على الدعم العسكري من كوريا الشمالية، خاصة بعد أن صارت تنتج الطائرات المُسيّرة الإيرانية على أراضيها، وهي لن تتأثر كثيراً بخسارة تجارتها مع إيران (1% من إجمالي تجارتها الخارجية). كل هذا يوضّح لنا أين تقف روسيا في الصراع الدائر حالياً بين إسرائيل وإيران.