تجاوزت إسرائيل وجيشها كل الخطوط الحمراء، وخرقت بممارساتها كل القوانين الدولية، وكل المواثيق المتعلقة بما هو محرّم في الحروب. ولم يقتصر التجاوز على الانخراط في جرائم حرب، بدءاً بالإبادة الجماعية، ومروراً بالعقوبات الجماعية بما في ذلك التجويع ونشر الأمراض، وانتهاء بجريمة التطهير العرقي والترحيل الجارية في قطاع غزّة، بل تعدّى الأمر إلى شنّ حروبٍ على دول عديدة في المنطقة والانخراط في محاولة احتلال أراضيها. فمن فلسطين، إلى لبنان وسورية، إلى اليمن والعراق وإيران، تتصرّف إسرائيل كبلطجي أزعر يرتكب الجرائم، ويفتعل الحروب، ويعتدي على أجواء الآخرين وأراضيهم.
كان من الممكن تجنّب ذلك كله بسهولة، لو قبلت إسرائيل وقف إطلاق النار على غزّة، وتنفيذ تبادل للأسرى، ولكنها لم تفعل، لأن وقف إطلاق النار يتناقض مع نهجها ومخطّطاتها، وطموحاتها غير المشروعة، لفرض سيطرتها وهيمنتها العسكرية، والسياسية والاقتصادية والاستخبارية، على المنطقة بأسرها.
ولم يكن بإمكان إسرائيل أن تواصل حروبها العدوانية لولا الدعم الأميركي المطلق الذي وصل إلى حد التورط في جرائمها، ولولا مواصلة العديد من الدول الغربية تزويدها بالسلاح والقنابل وأدوات القتل، وتجنيد القدرات الاستخبارية والقواعد العسكرية لخدمة عملياتها العسكرية.
لم يتخيل أحد أن نتنياهو يستطيع إطالة أمد هذه الحرب العدوانية إلى أكثر من عام، ولم يصدّق كثيرون في الغرب ما قلناه منذ الشهر الأول للعدوان عن أن نتنياهو لا يعبأ بحياة الأسرى الإسرائيليين، وسيوسّع الحرب لتشمل لبنان، وسيواصل الاستفزاز تلو الاستفزاز لافتعال حربٍ مع إيران وجرّ الولايات المتحدة إلى الاشتباك العسكري معها. ولكن هذا بالضبط ما حصل ويحصل على مرأى العالم ومسمعه.
تتصاعد حركات المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على إسرائيل في دول عديدة
إسرائيل ليست كلية القدرة، وهي تعاني بفعل الخسائر البشرية التي تتلقاها، ويترنح اقتصادها وهو يدخل أعمق أزمة في تاريخه مع انكماش غير مسبوق وتوقف للنمو، وتكاليف حرب ستتجاوز 70 مليار دولار، وهروب متصاعد للاستثمارات وبعضها بمليارات الدولارات، وانهيار كامل لقطاعي الزراعة والسياحة، وهروب ما لا يقل عن نصف مليون إسرائيلي، حسب وسائل الإعلام الإسرائيلية. وفي حين تواصل الولايات المتحدة ودول مثل ألمانيا تبرير الجرائم الإسرائيلية، تحدُث انعطافة غير مسبوقة، وإنْ غير كافية، في الاحتجاج العالمي على الجرائم الإسرائيلية، فإيطاليا قرّرت وقف تصدير السلاح إلى إسرائيل، ورئيسا وزراء إسبانيا وأيرلندا دعَوا إلى حظر شامل لتصدير السلاح إلى إسرائيل، وإلى إلغاء اتفاقيات إسرائيل التجارية مع الاتحاد الأوروبي، واصطدم ماكرون بنتنياهو عندما دعا إلى وقف تصدير السلاح إلى الشرق الأوسط، وهو مصعوق بحجم الدمار الذي سبّبته إسرائيل للبنان.
وتلقّت إسرائيل صفعة غير مسبوقة في اجتماعات التحالف التقدّمي الذي يضم 119 حزباً ديمقراطياً، بعضها أحزاب حاكمة في بلدانها، كألمانيا وإسبانيا وكثير من دول أميركا اللاتينية، والتي جرت في سانتياغو عاصمة تشيلي. إذ نجحنا في ذلك الاجتماع، لأول مرة، في تمرير مشروع قرارٍ يدين الاحتلال الإسرائيلي والجرائم التي يرتكبها ويدعو إلى فرض العقوبات عليها، بالتصويت العلني، رغم معارضة بعض الأحزاب الأوروبية، ونجح القرار بأغلبية ساحقة، ولم تصوت ضدّه سوى ثلاثة أحزاب. أما الصاعقة الكبرى، فكانت إسقاط الحزب الإسرائيلي (الديمقراطيون)، الذي لم يحضر ممثلوه أصلاً، من قيادة التحالف الديمقراطي بالتصويت، وهذه سابقة لم تحدث في أي محفل مشابه. وجاء إسقاط إسرائيل نتيجة تعاون وثيق ومنظم بين الحركات والأحزاب الفلسطينية وأحزاب العالم العربي مع أحزاب دول أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا وعدد مهم من الأحزاب الأوروبية.
وقد قرّرت دول عديدة، مثل كولومبيا ونيكاراغوا، قطع علاقاتها نهائياً بإسرائيل، ووقف التعامل التجاري معها. وقطعت تركيا بعض علاقاتها الاقتصادية بإسرائيل، كما منعت فرنسا للمرّة الثانية إسرائيل من المشاركة في معرض للمنتجات العسكرية. وتتصاعد حركات المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على إسرائيل في دول عديدة، وإن كانت تجرى أساساً على مستوى الشعوب والنقابات العمّالية ومؤسّسات المجتمع المدني.
تعمل إسرائيل الآن على تنفيذ تطهير عرقي لشمال غزّة، تمهيداً لتطهير عرقي شامل للقطاع
لكن إسرائيل ترتكب حالياً في شمال قطاع غزّة واحدة من أبشع جرائمها، فلأكثر من 14 يوماً تفرض حصاراً كاملاً وتجويعاً لمئات آلاف الفلسطينيين، بل وتحرمهم من مياه الشرب، وتنفّذ خطّة معلنة سمّوها "خطّة الجنرالات" لتنفيذ تطهير عرقي لشمال غزّة، تمهيداً لتطهير عرقي شامل للقطاع، فشل على مدار عام بفضل بطولة (وصمود) أهالي غزّة الرافضين للرحيل، حتى لو كان الثمن الاستشهاد على أرض وطنهم.
وتنفذ الطائرات والدبابات والمدفعية الإسرائيلية جرائم حرب وحشية، بما في ذلك ما جرى في محيط مستشفى شهداء الأقصى بحرق الناس وهم أحياء، وما نفذته من مجازر وحشية تودي بحياة آلاف شهرياً. وتتصاعد في لبنان جرائم حربٍ جديدة، حيث جرى تهجير ما لا يقل عن مليون ومائتي ألف لبناني تعرّضوا لقصف وحشي، وتندفع الدبابات الإسرائيلية محاولة إعادة احتلال أجزاء واسعة من لبنان، وتهديد حياة كل سكانه، مصطدمة بمقاومة لبنانية بطولية.
وذلك كله يعني أن كل القوى المناصرة لحقوق الإنسان والقانون الدولي مطالبة اليوم بأوسع حملة عالمية للضغط على جميع الحكومات، لفرض المقاطعة والعقوبات فوراً على إسرائيل لإجبارها على وقف عدوانها. وهو يعني أن كل الدول العربية والإسلامية مطالبةٌ بأن تتقدّم الصفوف بقطع العلاقات وفرض العقوبات على كيان الاحتلال والإبادة الجماعية، وأن يصعّد الجميع ضغوطهم لإلغاء إتفاقيات التطبيع المشينة التي عقدتها ثلاث حكومات عربية مع كيانٍ يرتكب جرائم الحرب من دون حساب.
في كل يوم، تتلقّى الفاشية الإسرائيلية ضربات جديدة، وتواجه مقاومة عنيدة لجرائمها. أما المراهنون على انتصار إسرائيل وهزيمة المقاومين لمخططاتها، فستكون خيبة أملهم أكبر وأوسع من حجم حقدهم على الشعوب المناضلة من أجل حقوقها.