أخبار البلد - مقدمة:
في أعقاب اندلاع حرب الإبادة الجماعية التي ما زالت تشنّها "دولة إسرائيل" منذ 2023/10/7، ضدّ قطاع غزة، بدأ كثير من اليهود الإسرائيليين على المستوى الرسمي والشعبي التعبير العلني عن تخوفهم من التوقع بأن يؤدي انفجار الجبهة الجنوبية في قطاع غزة وارتفاع درجة التوتر والضربات المتبادلة على الجبهة الشمالية مع حزب الله إلى اشتعال جبهة ثالثة، وأكثر حساسية، وهي "الأقلية الفلسطينية داخل أراضي 48".
ومع أن السياسات الإسرائيلية المتبعة تجاه الفلسطينيين الذين يشكلون تلك الأقلية، ممن بقوا في وطنهم الأصلي بعد نكبة سنة 1948، لم تحمل تحولاً جوهرياً خلال الحرب على قطاع غزة، لكنها بلا شكّ حملت تصعيداً حاداً ومجاهرة في العداء تجاههم. ولكن وفي مقابل هذا التصعيد برزت حالة من عدم تناسب الفعل السياسي لهذه المجموعة من الفلسطينيين إزاء مجريات الحرب ضدّ قطاع غزة، والذي من غير الممكن فهمه بدون التوقف عند بعض الظروف والعوامل، منها الذاتي ومنها الموضوعي، والتي أسهمت في تشكيل هذه الحالة، حتى لحظة كتابة هذه السطور على الأقل.
في هذا الإطار، ستحاول هذه الورقة الإجابة على الإشكال الرئيسي الذي من الممكن صياغته على هيئة التساؤل التالي: لماذا جاء رد فعل فلسطينيو 48 على الحرب ضدّ قطاع غزة مخالف للتوقعات الإسرائيلية والفلسطينية على حدٍ سواء؟
وذلك من خلال تقسيمها على النحو التالي:
أولاً: تقديم قراءة حول معطيات تشكُل حالة عدم التناسب، (الواقع)، التي ميّزت الموقف الفعلي على الأرض للأقلية الفلسطينية داخل أراضي 48، خلال أكثر من سبعة أشهر من الحرب على غزة، حتى تاريخه.
ثانياً: رصد بعض السياسات التي شكّلت رد فعل المؤسسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين من حملة المواطنة الإسرائيلية خلال مدة الحرب، كإجراءات استباقية احترازية للحؤول مما هو (متوقع).
أولاً: قراءة حول معطيات تشكُل حالة عدم التناسب (الواقع)، التي ميّزت الموقف الفعلي على الأرض للأقلية الفلسطينية داخل أراضي 48:
تاريخياً مارست المؤسسة في "إسرائيل" العنصرية تجاه الفلسطينيين في الداخل بأشكال متعددة وخلال حقب زمنية مختلفة، بدءاً بالنكبة، ومروراً بفترة الحكم العسكري والانتفاضتين، ووصولاً إلى الحروب المتعددة التي خاضتها. فلم تنجح اللجان المختلفة والخطط الاقتصادية التي حاولت تعزيز المواطنة الإسرائيلية على حساب الهوية الوطنية للفلسطينيين في عملها حتى الآن. ولقد ازدادت في السنوات الأخيرة قوة المستوطنين واليمين المتطرف، خصوصاً في سدّة الحكم، وبدت العنصرية محدودة للمستوطنين المتواجدين في الأطراف، مثل "شباب التلال" وآخرين، الذين تسلّلوا إلى المدن الساحلية المختلطة عبر "مشروع استيطان القلوب". وبفضل الدعم من رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ، نجح قادتهم في دخول الحكومة، سعياً منهم أيضاً لتغيير هياكل النخب التقليدية في "إسرائيل".[2]
وبالنظر إلى أبرز سياسات الحكومة الإسرائيلية، التي سيتم التطرق لها فيما بعد، في تعاملها مع الأقلية الفلسطينية داخل أراضي 48 خلال أكثر من سبعة أشهر من الحرب على غزة، حتى الآن، يمكن الاستنتاج أن المؤسسة الإسرائيلية تنظر وتتعامل معهم في أوقات الأزمات الأمنية الحادة على أنهم يمثلون عدو حقيقي، أو على الأقل أنهم أعداء محتملون، إذ يمكن وصف ما يحدث مع الأقلية الفلسطينية بعودة غير معلنة إلى استخدام أدوات الحكم العسكري. حيث توضح الحرب الدائرة حالياً في قطاع غزة مدى هشاشة ما يعرف بالمواطنة الممنوحة للفلسطينيين في "إسرائيل" وخوائها، وخضوعها الكامل للدوافع والهواجس الأمنية، ولاحتياجات الإجماع الصهيوني وشروطه.[3]
لقد تزامنت حرب الإبادة على غزة سنة 2023، مع تفاقم معاناة فلسطينيي الداخل جراء حالة جماعية وفردية مأزومة للغاية، وذلك عقب سنوات طويلة من استهداف حكومات "إسرائيل" مكامن قوتهم الاجتماعية والسياسية، فشكّل هذا الظرف أرضية خصبة سهّلت استهدافهم وترهيبهم، وبالتالي تحجيم ردِّ فعلهم السياسي.
1. تفاقم المشكلات الاجتماعية وزيادة الضعف السياسي:
اجتماعياً، شهدت السنوات الأخيرة تصاعداً نوعياً في آفة الجريمة المنظمة، والتي تشكل تهديداً جدياً للأمن الفردي، وللنسيج الاجتماعي أيضاً، وقد سقط في الفترة 2023-2019 نحو ما يقارب الـ 693 قتيلاً، بينهم 247 قتيلاً في سنة 2023،[4] ويبدو أنه، وفي السنوات الأخيرة، وفي ظلّ غياب أي رادع حقيقي، تتجاوز هذه الجرائم الحدِّ الأدنى من الضوابط الأخلاقية، حتى تلك التي تميز منظمات الجريمة في أماكن أُخرى في العالم. ففي ظلّ تقاعس مؤسساتي صارخ، وفي ضوء عدم جدية "دولة إسرائيل" في مكافحة هذه الآفة، تمادت منظمات الإجرام ليستهدف السلاح الأطفال وبيوت العزاء، وأيضاً مراكز المدن والأحياء السكنية في التجمعات العربية.
ولم يكن المشهد السياسي أفضل حالاً من الحالة الاجتماعية، إذ تزامنت الحرب مع وجود الأحزاب السياسية في حالة من الهشاشة والوهن والتفكك، الأمر الذي انعكس في عدم قدرتها على التصدي للسياسات القمعية التي مورست بشراسة في حق فلسطينيي 48. ولطالما شكل التمثيل السياسي للفلسطينيين تحدياً كبيراً لـ"دولة إسرائيل" تماشياً مع تعاملها مع الفلسطينيين حاملي المواطنة الإسرائيلية كدخلاء غير مرغوب فيهم في "الدولة اليهودية".
إذ إنه، وفي ضوء تشكيل القائمة العربية المشتركة في سنة 2015، والالتفاف الجماهيري الكبير حولها، واحتمال تعاظم تأثير التمثيل السياسي للفلسطينيين من خلال إطار سياسي جامع، فقد مثلت تهديداً أكثر جدية لـ"الدولة اليهودية". لذلك، من ناحية، كثفت المؤسسة الإسرائيلية في العقد الأخير استهداف القيادة السياسية وملاحقتها، ومن ناحية أُخرى عززت من دور السلطات المحلية ورؤسائها، هادفة إلى التخفيف من قوة القيادة القطرية، وتحقيق سياسة تشتيت القوة السياسية الفلسطينية لتثبيت سياسة فرّق تسد.[5]
في المقابل، فإن عدم قدرة مختلف التيارات السياسية على التعالي على الخلافات السياسية والفكرية، وعلى تجاوز الصراع فيما بينها على ترؤس القائمة المشتركة وتقاسم الأدوار فيها، أضعف قدرة القيادة السياسية على التصدي لهذه المحاولات، الأمر الذي أفضى إلى تفكيك القائمة المشتركة، وتثبيت الصراعات والخلافات السياسية بين مركّباتها، ما أدى إلى إضعاف التمثيل السياسي الفلسطيني. ووصلت ذروة التفكك والخلافات بين التيارات المختلفة إلى زعزعة ثوابت قواعد انخراط الفلسطينيين في "إسرائيل" في السياسة الإسرائيلية، متمثلة، على سبيل المثال لا الحصر، في توصية الأحزاب العربية بمرشح لتشكيل الحكومة، ودخول حزب عربي (القائمة العربية الممثلة للحركة الإسلامية – الجناح الجنوبي) في الحكومة الإسرائيلية للمرة الأولى منذ النكبة. حيث أسهمت تلك التطورات في تعزيز الانقسام داخل المجتمع الفلسطيني في أراضي 48 من ناحية، وفي انكماش التفاعل مع السياسة التمثيلية من ناحية أُخرى.
بالإضافة إلى أن لجنة المتابعة، التي تُعدّ المظلة الجامعة لأطياف وتشكيلات المجال السياسي والتمثيلي الوطني في أراضي 48، لم تتطور تنظيمياً وسياسياً ومالياً في ظلّ رئاسة "محمد بركة" لها، والذي يشغل هذا المنصب منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2015، بل إن أداءها الجماعي شهد تراجعاً في ظلّ خلافات أطياف المجال السياسي من أحزاب ورؤساء بلديات، وعدم مأسستها بُنيوياً، بالإضافة إلى الملاحقة السياسية لمكونات مركزية فيها.
كما أتت عملية طوفان الأقصى، واندلاع الحرب بعدها، في ظلّ ضعف وتراجع الفعل الشبابي والطلابي في أراضي 48، والذي كان قد بلغ ذروتين خلال العقد الأخير: الأولى، كانت خلال "هبّة برافر" سنة 2013، والثانية خلال "هبّة الكرامة" سنة 2021، ولكن بشكل عام يمكن وصف الحركات والهيئات الطلابية في الجامعات، بأن وضعها يمثل انعكاساً للوضع التنظيمي والمؤسساتي العام.[6]
عموماً، يظهر بأن هذه الحالة المؤسساتية أسهمت إلى حدٍّ كبير في غياب متانة جماعية تمنح ظهيراً للجماهير، وتكون عنواناً احتجاجياً كما في محطات سابقة، وهو ما أسهم كذلك في تشكيل حالة عدم تناسب رد الفعل (الواقع) الراهنة. ويمكن وصف الأمر بأنه فقدان لمركز أو ثقل سياسي يمكن للناس أن يستندوا إليه ويروا فيه مرجعية تصنع لهم أملاً، وتُشعرهم ولو بالحدِّ الأدنى بالحماية والأمان النسبيين، وخصوصاً بعد اختبار مجتمع احتجاج "هبّة الكرامة" سنة 2021، لحالة فقدان المرجعية إلى حدّ اليتم، ذلك بأن مئات المعتقلين الموجهة إليهم لوائح اتهام، وجدوا أنفسهم، ومعهم عائلاتهم، وحيدين في مواجهة الممارسات والسياسات العقابية لأجهزة ومؤسسات النظام، ومن ضمنها الجهاز القضائي (المحاكم).[7]
2. رفع فاتورة مواجهة النظام:
عمد النظام الإسرائيلي إلى العمل عبر مختلف أجهزة الدولة وآلياتها، على تدفيع فلسطينيي 48 ثمناً باهظاً لأي خروج عليه أو مواجهة له، كعقاب على انخراطهم في الهبّات والانتفاضات الشعبية. وللإشارة إلى أبرز محطات تلك المواجهة، والتي كلّفت الفلسطينيين دفع فاتورة مرتفعة جداً، يمكن ذكر "الجريمة المنظمة" و"هبّة الكرامة" على سبيل المثال لا الحصر، على النحو التالي:
أ. الجريمة المنظمة:
مما لا شكّ فيه أن تصاعد منسوب الجريمة المنظمة داخل المجتمع الفلسطيني داخل أراضي 48 يعود إلى سياسة الحكومة الإسرائيلية المتقاعسة في مواجهة هذه الظاهرة، من جهة، وإلى سياسة التمييز العنصري التي تنتهجها هذه الحكومة إزاء المواطنين العرب الفلسطينيين، من جهة ثانية. فبحسب الصحفية الفرنسية "كلوتيلد مرافكو Clothilde Mraffko"، تزدهر الجريمة المنظمة "بسبب التهميش الاجتماعي والاقتصادي للمجتمعات الفلسطينية في إسرائيل بعد عقود من سياسات التمييز في الميزانيات، وفي تخصيص الأراضي، وفي الوصول إلى مجالات العمل، وفقاً لتقرير رسمي لسنة 2021، يعيش 39% من فلسطينيي إسرائيل تحت خط الفقر”. وتضيف الصحفية نفسها "أن الفجوة التي يتعين سدها بين البلديات العربية واليهودية سحيقة" ففي سنوات الألفيْن، كانت معظم البلديات الفلسطينية الإسرائيلية مدينة بالمال، وقد وُضع بعضها تحت مراقبة محاسب، وكان بعضها—مثل بلدة الطيبة—مُسيّراً مباشرة من طرف موظف تعيّنه الدولة.[8]
لقد مأسس النظام الإسرائيلي الجريمة المنظمة في صفوف فلسطينيي 48 الذين يسكنون في قرى وبلدات باتت بمثابة أحياء فقر، إلى درجة أن وسطاءه استطاعوا عبر شبكاتهم أن يراكموا رأس مال مادياً ورمزياً يحل محل، أو ينافس، بُنى مجتمعية وسياسية وثقافية تقليدية في تنظيم المجتمع وترسيم حدوده، مثل العائلة، والسلطات المحلية، والأحزاب، والمؤسسات الدينية ووسطائها، والنخب الثقافية، وغيرها. وقد تشكَّل ذلك تراكمياً من خلال لقاء سياسات الإفقار التي تعاني جرّاءها بالدرجة الأولى شريحة الشباب، والعمل الحثيث على ضرب منظومات القيم والانتماء الهوياتي لدى الناس، المرتبطة بفلسطينيتهم، الطبقة الأحدث من العروبة – الإسلام لدى سكان فلسطين المعاصرين، وذلك من خلال جهاز التربية والتعليم، والإعلام، ومنظومات العمل والتوظيف، الأمر الذي دفع الشباب المهمّشين إلى البحث عن أُطر انتماء توفر لهم مكانة اعتبارية في المجتمع في ظلّ إعاقة التقدم الفردي والجماعي للفلسطينيين ضمن مجالات النظام غير المتاحة لهم.[9]
وقد تمثل الجريمة أداة للترهيب السياسي والاغتيال على هذا الأساس. فقد استُهدف عدد من أعضاء لجان "إفشاء السلام" مثلاً، التي اضطلعت بدور الإصلاح والحدّ من تفشي الجريمة، بمبادرة من رئيس "الحركة الإسلامية الشمالية" المحظورة "رائد صلاح"، كما أُطلقت النيران في سياق الحرب على قطاع غزة على منازل المعتقلَين "أحمد خليفة" و"محمد طاهر جبارين"، الموجهة إليهما تهمة التحريض على "الإرهاب"، والتماثل مع تنظيم إرهابي، بسبب مشاركتهما في تظاهرة ضدّ الحرب.[10]
هذا، وقد أشارت بعض التقارير إلى أن قسماً كبيراً من السلاح مصدره السرقة من قواعد ومعسكرات جيش الاحتلال الإسرائيلي، من دون أن تسعى أجهزة النظام لوقف هذه الظاهرة، مع أن تقديرات الأجهزة الأمنية تقول إن هناك نصف مليون قطعة سلاح في السوق السوداء. كما أن هناك آراء وتقارير تذهب إلى أن الجريمة المنظمة، بوسطائها وشبكاتها المعروفة للأجهزة الأمنية، تمثّل أداة في يد النظام الإسرائيلي من أجل إنهاك المجتمع الأقلية الفلسطينية في أراضي 48 وتفتيته وإفقاده حصانته، وشغله بالتالي عن صناعة جماعيته الوطنية وتمتينها، وذلك عبر بثّ العداوات بين مكوناته الاجتماعية، وإشاعة الإحساس بفقدان الأمان لدى أفراده وشرائحه، وبثّ الإحباط وفقدان الأمل.
يظهر جلياً بأن قضية تفشي الجريمة المنظمة قد يوجد أولوية واحدة ووحيدة، وهي الأمان الفردي، حيث إن من يكون جلّ انشغاله في أمانه الشخصي، فلا يتضامن مع غيره ولا يتحمل مسؤولية تجاه أحد، فيذهب غالباً إلى الحلول الفردية. على سبيل المثال، فإن الهجرة السنوية الداخلية إلى مدينة حيفا تصل إلى ألف مواطن عربي، وذلك غالباً ما يكون سعياً وراء الأمان وهرباً من "الرصاصة الطائشة". ويجدر ألا يغيب عن البال بأنه حتى ولو كان المجتمع أكثر تماسكاً لما تخلّص من آفة الجريمة، لأن أدوات التخلص منها في أيدي الدولة وليس المجتمع، كما هو الحال في كل مكان في العالم، وكما حدث مع المدن الإسرائيلية حين رأت الدولة بانتشار الجريمة المنظمة فيها مسألة أمن قومي وهاجساً ديموجرافياً، تؤدي إلى هجرة اليهود وإلى حلول العرب في أمكنتهم ليتغير الطابع السكاني لهذه المدن، مما قد يؤدي لاختلال نقاء العِرق. لقد تخلصت المؤسسة الاسرائيلية من المافيا بقرارات حكومية، وباتت معظم قياداتها في السجن وحطموا بنيتها واقتصادها، فيما الجريمة هي المجال الوحيد الذي يميزون فيه لصالح المافيا العربية وعلى حساب الجماهير العربية.
يبدو أن رهان "دولة إسرائيل" على الجريمة قد نجح إلى حدٍّ غير قليل، إذ إن هناك معادلة تفيد بأنه طالما كان القمع من قبل الدولة وأجهزتها مباشراً، اشتد عود جماهير الشعب ومقاومتها الشعبية، في حين أن الجريمة تستنزفها من داخلها وتحبط كل أمل حين تصبح أولويات الناس هي التفتيش عن الأمان الشخصي والأُسري المفقود. ولا يجب أن يغيب للحظة مخطط الدولة في تفتيت المجتمع الفلسطيني كونه كان أحد أكثر مجموعات الشعب الفلسطيني تنظيماً وجهوزية لأخذ دوره والإسهام في قضية فلسطين بكل مركباتها.[11]
ب. هبّة الكرامة:
يُنظر إلى هبة الكرامة في أيار/ مايو 2021 وما بعدها على أنها تمثل ذروة العداء تجاه فلسطينيي 48، وقد تزامن هذا العداء مع تنامي قوة الصهيونية المتدينة وتوليها مناصب حكومية وفي مؤسسات الدولة، حيث تعاملت المؤسسة الإسرائيلية بعنف شديد إزاء التظاهرات الشعبية في أيار/ مايو 2021، في مقابل تسامحها ومساندتها للمستوطنين خلال اعتداءاتهم على بيوت وأحياء الفلسطينيين، وخصوصاً في المدن الفلسطينية التاريخية، والتي راح ضحيتها المواطن موسى حسونة برصاص المستوطنين في مدينة اللد، ولم يختلف تعامل الشرطة والمنظومة القضائية عموماً مع المعتقلين والمعتقلات في التُّهم التي وُجهت إليهم والأحكام التي تلتها.
لقد انطلقت شرارة الهبّة في أيار/ مايو 2021 نتيجة تراكم وامتداد وتطور ما سبقها من هبّات، وجاءت كردٍّ مباشر على محاولات التهجير القسري لأحياء في مدينة القدس، وعلى التصعيد في عنف المستوطنين في القدس والأراضي المحتلة سنة 1967، والاقتحامات المتكررة للمسجد الأقصى. وامتدت إلى كل أرجاء فلسطين، وشملت الداخل وقطاع غزة ومخيمات اللجوء والعديد من دول العالم.
حيث واجهت "إسرائيل" حدث جديد واستثنائي، تمثل في، مواجهات في القدس، صواريخ وعدوان على قطاع غزة، مواجهات في اللد وعكا ويافا وحيفا، طرقات غير صالحة لنقل الآليات العسكرية في النقب. وعلى الرغم من أن هذه المواجهة لم تكن الأولى، ولا الأخيرة، فإن ما جرى كان مختلفاً واستثنائياً على صعيدين أساسيين: أولاً، المواجهات حصلت في الشارع بين المجتمع الاستيطاني والفلسطيني بشكل مباشر، على عكس ما حصل في "هبّة أكتوبر" و"يوم الأرض"، حيث إن الجيش والشرطة النظاميين هما من قام بقمع الفلسطينيين، ثانياً، تعدد الجبهات الفلسطينية بالتزامن، وهو ما استنفد تقريباً قدرة الأجهزة النظامية، وردة فعلها بين القدس وغزة وأراضي 48.
إذ شهدت الهبّة 250 موقع مواجهة في أراضي 48، أدّت إلى 322 إصابة في صفوف الشرطة الإسرائيلية، وإلحاق الضرر بـ 297 سيارة تابعة لها، بينها 11 أُحرقت، كما هوجِم 23 مركزاً للشرطة. واستشهد خلال الهبّة: موسى حسونة من (اللد)، ومحمد كيوان من (أم الفحم)، بالإضافة إلى مئات الإصابات وآلاف حالات الملاحقة بمختلف أشكالها، من الاستجوابات في العمل أو التعليم، وصولاً إلى الاعتقال.[12]
وعدّت مؤسسات سياسية وحقوقية أحكام "هبّة الكرامة" محاولة لترسيخ نظام حكم عسكري جديد، وأن المنظومة القضائية في النظام الإسرائيلي تهرول نحو التطرف، وتتعامل بازدواجية وتنصاع للتوجيهات السياسية والأجواء التحريضية والعنصرية. وفي هذا السياق، أشار المركز القانوني لحقوق الأقلية العربية في "إسرائيل" – عدالة Adalah، في تقاريره المختلفة حول هبّة أيار/ مايو إلى تعرض الفلسطينيين في "إسرائيل"، إلى اعتداءات وحشية وانتهاكات حقوقية مهولة، تشمل الملاحقات السياسية والرقمية وفرض رقابة شديدة على المحتوى الفلسطيني، فقد فرضت السلطات الإسرائيلية وسائل قمع عسكرية، شاركت فيها قوات الشرطة، وحرس الحدود، ووحدات عسكرية خاصة، وجهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك) Israeli Security Agency—ISA (Shabak)، بالإضافة إلى المستوطنين. فعلاوة على القمع العنيف للوقفات والتظاهرات، بأدوات شديدة الخطورة ومميتة، من قنابل الصوت والغاز والرصاص الإسفنجي والحي، وعلى الانتهاكات خلال الاعتقالات، فُرض حظر التجول في مدينة اللد لمدة 8 أيام، وهو إجراء يُتّخذ لأول مرة في تاريخ بلدة أو مدينة في أراضي 48 منذ النكبة. كما استُهدفت بيوت الفلسطينيين وأملاكهم، ومساجدهم ومقابرهم وغيرها من الأوقاف، ولا سيّما في "المدن المختلطة"، على يد عصابات ومجموعات يمينية، مثل "لا فاميليا La Familia" وغيرها، التي تشير تقارير وأبحاث إلى أنها عملت بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية وضمن حمايتها.[13]
إجمالاً، وجد فلسطينيو 48، خلال هبة الكرامة وبعدها، أنفسهم وعائلاتهم وحيدين تقريباً في مواجهة ممارسات وسياسات أجهزة النظام العقابية، وعبّروا في أكثر من مناسبة عن أن مبادرات الدعم والمساندة محدودة وقليلة، وأن المشاركة في جلسات المحاكم من المجال السياسي، من أطر وأحزاب وناشطين، وكذلك المؤسسات الأهلية، هي مشاركة خافتة. وعلى الرغم من تجنّد عدد كبير من المحامين المتطوعين للدفاع عن معتقلي الهبّة، فإن هناك في المقابل محامين تخلوا عن ممثليهم في الطريق، وآخرين طالبوا بمبالغ ضخمة في مقابل التمثيل. كما ذهب عدد من داعمي خطاب الاستيعاب المعيشي إلى وصف هذه الفئة من المحتجين بـ"الزعرنة"، وبأنهم "أصحاب سوابق"، لتبرئة عموم المجتمع الفلسطيني في أراضي 48 أمام النظام ونخبه. ولا شكّ في أن الممارسات والسياسات العقابية في حقّ معتقلي الهبّة وعائلاتهم، بحجمها وتعقيدها غير المسبوقَين (رفع الفاتورة)، على الأقل منذ هبّة تشرين الأول/ أكتوبر سنة 2000 وإحساسهم بالتخلي عنهم، سياسياً واجتماعياً، ورؤية هذا كله من طرف جيل الهبّة الشبابي أحبطته وثبّطت من عزيمته، وجعلته يشعر باليأس والخوف والإنهاك، الأمر الذي أسهم في تشكّل حالة "عدم التناسب" هذه.
من هنا، يمكن القول إن ما جرى في أيار/ مايو 2021، كان قد أعاد سؤال علاقة الدولة، بـ"المواطنين" الفلسطينيين فيها إلى الواجهة، وكيفية التعامل مع هذه العلاقة، وبات سؤال ومصطلح "المدن المختلطة – الحيز المشترك للعرب واليهود" يُطرح في كل تحليل استراتيجي عسكري أو أمني، كما بات لا يغيب أسبوعياً عن مقالات اليمين وغير اليمين في صفحات الصحف الأسبوعية، والأهم أنه مثّل نقطة تحول في الفهم الاستراتيجي الإسرائيلي لفكرة وحدة "الجبهات" وامتدادها وعلاقاتها، كما قدرة الدولة على التعامل معها.[14]
ثانياً: موقف المؤسسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين من حملة المواطنة الإسرائيلية خلال مدة الحرب:
لم تنتظر المنظومة الإسرائيلية إلى حين صدور موقف أو أفعال معينة من قبل الأقلية الفلسطينية داخل الدولة حيال اندلاع حرب الإبادة الجماعية في 23023/10/7 ضدّ قطاع غزة، ومن ثم اتخاذ ردّ فعل مناسب مقابل ذلك، بل سارعت إلى اتخاذ حزمة من الإجراءات القمعية الاستباقية، فمنذ الأيام الأولى من الحرب، استهدفت المؤسسة الإسرائيلية، متسلحة بدعم مكثف وعلني من المجتمع الإسرائيلي، أي تعبير مرئي مصور أو مكتوب في مواقع التواصل الاجتماعي، أو في أماكن التعليم والعمل، أو في وقفات احتجاجية معارضة للحرب أو عن مواقف متضامنة مع غزة وأهلها.
1. شنّ حملة مكثفة لتكميم الأفواه:
تعرض فلسطينيو 48 منذ اليوم الأول للحرب ضدّ قطاع غزة لممارسات وإجراءات تكميم الأفواه بصورة مكثفة وعنيفة، شارك فيها مختلف أجهزة النظام، عسكرياً ومدنياً، عاماً وخاصاً، رسمياً وشعبياً، إذ لعب مَن يُفترض أنهم مواطنون عاديون ليس لديهم مواقع في أي جهاز رسمي، أدواراً لهم في ملاحقة الفلسطينيين ومعاقبتهم، وفي رصد حساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، والتجسس عليهم، والوشاية بهم، والتحريض عليهم، والتشهير بهم، وتهديدهم أو المسّ الفعلي بهم، كلامياً أو جسدياً، وتعريضهم للخطر، وغير ذلك.[15] وهؤلاء الفلسطينيون الملاحقون ربما يكونون زملاء لأولئك اليهود في التعليم أو العمل، أو جيراناً في الحي نفسه في حالات "المدن المختلطة"، أو أعضاء في نوادٍ رياضية أو أطر ثقافية وترفيهية، أو طلابهم في مؤسسات التعليم العالي، أو موظفين أو عمالاً مرؤوسين في مؤسساتهم وشركاتهم ومصالحهم.
وشملت تلك الممارسات تعرض الفلسطينيين من حملة المواطنة الإسرائيلية لملاحقات واسعة، سواء أكانت جنائية أم ملاحقات في أماكن العمل والتعليم. وتفاوتت هذه الإجراءات، بين اعتقال، واستدعاء إلى تحقيق، وتقديم لوائح اتهام وطلبات اعتقال، وغيرها من الإجراءات القانونية، بتهم خطرة مثل "دعم الإرهاب"، وذلك بحجة نشر تغريدات داعمة أو متعاطفة مع غزة. مسّت هذه الحملة جميع الشرائح، من الكوادر الطبية والمعلمات وأئمة الجوامع وموظفين في أماكن العمل. إذ تحولت كل مقولة أو تغريدة على وسائل التواصل الاجتماعي معبرة عن موقف معارض للقتل والدمار والحرب وأي تعاطف مع سكان غزة بشكل عام إلى موقف داعم لحماس، وقد تُرجم هذا بواسطة حملات توقيف لعدد من المواطنين العرب بتهمة دعم "الإرهاب" أو تأييد حماس، حيث اعتقلت الشرطة الإسرائيلية العشرات منهم بحجة نشر تغريدات داعمة لغزة أو متعاطفة مع أهلها. منهم على سبيل المثال لا الحصر، الدكتور "عامر الهزيل" المرشح لرئاسة بلدية رهط، وفنانون مثل الفنانة "دلال أبو آمنة"، والممثلة "ميساء عبد الهادي"، ومنهم أئمة مساجد، وأعضاء طواقم طبية ممن يعملون في المستشفيات الإسرائيلية.[16]
وقد كان المجتمع الطلابي الفلسطيني في مؤسسات التعليم الإسرائيلي من أكثر الشرائح تعرضاً لممارسات وسياسات الإسكات والترهيب، وتحديداً بسبب التفاعل عبر وسائل التواصل الاجتماعي مع تطورات الحرب. وفي هذا السياق، وصف تقرير موسع لمجلة "سيحاه ميكوميت Siha Mekomit" ممارسات إدارات تلك المؤسسات بأنها جرت حتى بالنسبة إلى منشورات بريئة للغاية، فيما يبدو أنه رضوخ للضغوط من أجسام يمينية وطلاب آخرين. والملاحقة لا تقتصر على متابعة المنشورات فحسب، بل تمتد أيضاً إلى الإعجاب، أو حتى متابعة صفحة تنشر منشورات تتعاطف مع القضية الفلسطينية، وقُدّمت في حق المئات من الطلاب شكاوى إلى اللجان التأديبية في مؤسسات التعليم، بدعم وتشجيع من "اتحاد الطالب" وتنظيمات متنوعة توصَف بـ"اليمينية". كما أعلنت إدارات عدة مؤسسات أنها لن تتسامح مع أي "منشورات تحريضية"، وطالب "رئيس مجلس التعليم العالي"، وزير التربية والتعليم يوآف كيش Yoav Kisch، رؤساء المؤسسات باتخاذ إجراءات تأديبية ضدّ هؤلاء الطلاب، بل طالبهم حتى بتقديم شكاوى إلى الشرطة في حقّهم.[17]
كما تمّ وضع طلبة الجامعات تحت المجهر، واتخذت الجامعات الإسرائيلية، بناء على وشايات من زملاء الدراسة، إجراءات تعسفية بحق الطلاب العرب، فقد عمدت هذه الجامعات، منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر، إلى فصل عشرات الطلبة، بشكل دائم أو موقت، بسبب منشورات لهم على وسائل التواصل الاجتماعي، وقامت بعض المؤسسات الأكاديمية بإصدار أوامر إخلاء فوري لبعض الطلاب والطالبات من مساكنهم. ووصلت درجة تواطؤ الجامعات الإسرائيلية إلى الوشاية بالطلاب للشرطة، وتزويدها بأدلة تمكّنها من التقدم في إجراءات قانونية بحق الطلبة بتهم دعم "الإرهاب" أو التعاطف مع تنظيمات إرهابية.[18]
وفي تقرير نشرته الهيئة المشتركة للكتل الطلابية التي تعمل تحت مظلة اللجنة العربية للطوارئ، ورد أن هناك أكثر من مئة طالب وطالبة في المؤسسات الأكاديمية جرى تحويلهم إلى لجان طاعة، بالإضافة إلى مئات المنشورات التحريضية على الطلبة. وقد تمّ الاعتداء على مساكن الطلبة في كلية نتانيا Netanya في 2023/10/28، إذ تجمهرت جماعات عنصرية بأعداد كبيرة محاولة اقتحام المبنى، صارخة بهتاف "الموت للعرب"، وبشعارات عنصرية أخرى، وطالبت بتفريغ مساكن الطلبة من الطلاب العرب.[19]
ووفقاً إلى بيانات ورصد الهيئة المشتركة للكتل الطلابية في المعاهد العليا، فإن العدد الإجمالي للطلاب الذين اتُّخذت ضدّهم إجراءات تأديبية بلغ نحو 160 طالباً، منهم 113 توجهوا إلى مركز "عدالة" لتمثيلهم قانونياً، مع أنهم ينتمون إلى 33 مؤسسة تعليم عالٍ. وقد تمّ فصل 8 طلاب من دراستهم فورياً ونهائياً من دون أي إجراء تأديبي، وفي 47% من الحالات أوقف الطلبة عن التعليم بشكل مؤقت قبل أي إجراء تأديبي. وبين 42 قراراً لما يسمى (لجنة الطاعة) في المؤسسات التعليمية، فإن 17 حالة انتهت ببراءة، بينما فُرضت في 5 منها عقوبة ذات طابع تعليمي، وصدرت في 11 منها عقوبة فصل مؤقت، في حين صدر في 9 منها قرارات فصل تام.[20]
إن معظم الشبهات، وفقاً إلى تقرير لمركز عدالة الحقوقي التي دارت حولها التحقيقات، تمحورت حول مخالفة قانون العقوبات، على نحو تصرف غير لائق قد يؤدي إلى الإخلال بالأمن العام، ومخالفة لقانون "مكافحة الإرهاب"، نحو التحريض على "الإرهاب"، والتماهي مع منظمة إرهابية. وقد أطلق سراح معظم الأشخاص الذين اعتقلوا أو تمّ التحقيق معهم بشكل فوري بعد التحقيق، ضمن وضع شرط احترازية معينة، تراوحت بين الحبس المنزلي، والإبعاد، والكفالات المالية. إلى جانب ذلك قُدمت 11 لائحة اتهام ضدّ بعض المواطنين من الفلسطينيين على خلفية منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، وقد شملت جميع لوائح الاتهام مخالفات بحسب قانون "مكافحة الإرهاب".[21]
كما شملت ممارسات تكميم الأفواه أيضاً، التضييقات والانتهاكات في حقّ الصحفيين والطواقم الإعلامية، حيث رصد المركز العربي للحريات الإعلامية والتنمية والبحوث/ إعلام، حتى 2023/10/23، تضييقات وانتهاكات ارتكبتها قوات الجيش والشرطة في حق 13 صحفياً وطاقماً إعلامياً من فلسطينيي 48 في سياق الحرب. وتنوعت التضييقات والانتهاكات ما بين الانتهاك/ الضرر الفيزيائي، والكلامي، ومصادرة معدات، وإضرار بمعدات، واحتجاز، واعتقال، وتحقيق، وطرد، وغير ذلك.[22]
2. توسعة ممارسة سياسة الترهيب الصهيوني:
ليس خافياً بأن "إسرائيل" تصنف ساحة الداخل، أراضي 48 المحتل، في المكانة الأمنية الأخطر بين الساحات الأربع التي يمكن أن تواجهها خلال الظروف الأمنية الصعبة، بل وتقدمها أحياناً على الضفة والقطاع والخارج، لأنها تقع في قلبها وتشارك في صلب نسيجها السكاني ولا يمكن تسييجها بالأسوار والجدران أو عزلها كما فعلت في المناطق الأخرى. لذا فقد تعاملت مع فلسطينيو 48 على أنهم حالة أمنية وطابور خامس وخطر استراتيجي. وفي السياق يقول الوزير الإسرائيلي نير بركات Nir Barkat: "إذا ثار ضدنا 1 في المئة فقط من السكان العرب (الذين يتجاوز عددهم مليونين)، فإن ذلك يعني 20 ألف شخص، وسوف يصلون إلى كل مكان في البلاد". في إشارة إلى أن ذلك قد يؤدي إلى حالة انفلات تصبح أكثر خطراً في حالة تطور الصراع على الجبهتين الجنوبية والشمالية مع فوضى داخلية.[23]
ومن أجل مواجهة أي تطور من هذا النوع عمدت "إسرائيل" بعد انتفاضة الكرامة إلى تشريع جملة من القوانين المتشددة بهدف التضييق على عرب 48. ومنذ عملية طوفان الأقصى يتعرض فلسطينيو الداخل لسياسة الترهيب والترويع بغية منعهم من إسماع صرخة الغضب والتظاهر والاحتجاج ضدّ الحرب أو حتى مجرد التضامن مع إخوانهم الفلسطينيين في غزة. وفي هذا السياق، أشار المفتش العام للشرطة يعقوب شبتاي Yaakov Shabtai إلى أن: "أي شخص يريد أن يكون مواطناً في دولة إسرائيل فأهلاً وسهلاً، وأي شخص يريد التماهي مع غزة فسأضعه الآن في الحافلات المتجهة إلى هناك"، ويضيف قائلاً: "نحن في حالة حرب ولن نتسامح أبداً مع أي حادث، ولا يوجد تصريح للقيام بالاحتجاجات. وكل من يتم توقيفه سنفعّل كل المكاتب الحكومية ضدّه كما نفعل مع المجرمين".[24]
وفي ظلّ استعراض قوة الصهيونية الدينية Religious Zionism والقوة اليهودية (عوتسما يهوديت) Jewish Power (Otzma Yehudit)، وكامتداد لتسلّمها وزارات مهمة في حكومة نتنياهو ومجاهرتها في التعبير عن العداء والكراهية للفلسطينيين، وبعودة ظهور ممارسات تذكر باعتداءات المستوطنين على الأحياء والبلدات العربية في أيار/ مايو 2021. مثّلت الحرب على غزة فرصة لتوسيع نطاق ممارسة الترهيب والعنف الصهيوني من خلال تنفيذ حملة ملاحقة ممنهجة للفلسطينيين، على وجه السرعة، إذ قامت المنظومة الأمنية التي تطورت بناء على استنتاجات لاحقة لأحداث هبة الكرامة في أيار/ مايو 2021، وعلى رأسها شرعنة متدحرجة لما يعرف بـ"الحرس القومي".[25]
حيث استغل الوزير المتطرف إيتمار بن جفير Itamar Ben-Gvir حالة الحرب والطوارئ لإنفاذ سياساته من دون عوائق. فمع بدايات الحرب، في 12 تشرين الأول/ أكتوبر، وأمام الكاميرات بثّ حزب "قوة يهودية" على قناته في يوتيوب YouTube.[26] فيديو يقوم فيه وزير الأمن القومي بتوزيع 10 آلاف بندقية رشاش على ما يسمى بــ"وحدات الحماية" في البلدات الإسرائيلية، كما قام بتعيين ضابط لتنظيم "وحدات محاربة مدنية".[27]
لقد شهد الداخل الفلسطيني منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر حالة حكم عسكري غير معلنة رسمياً، بحيث بدا ذلك واضحاً من خلال اعتبار أن الدولة في حالة حرب وحالة طوارئ، وهو ما يعني توظيف القوانين الانتدابية تحت ذريعة "مكافحة الإرهاب". وتشريع قوانين خصيصاً لملاحقة فلسطينيي الداخل ومحاكمتهم وإنزال أقصى العقوبات بهم لمجرد تضامنهم مع أبناء شعبهم الفلسطيني. بالإضافة إلى التلويح بسحب الجنسية الإسرائيلية من فلسطينيي الداخل الذين يثبت بأنهم يدعمون المقاومة الفلسطينية. إلى جانب التعرض لتهديدات يومية، سواء من المجموعات اليهودية المتطرفة أم من المؤسسة الإسرائيلية. ونشرت مجموعة إسرائيلية، تطلق على نفسها اسم "صيادي النازيين"، قائمة بأسماء ناشطين وصورهم وعناوين بيوتهم ليسهل الوصول إليهم لقتلهم.[28]
كذلك عملت الشرطة، مدعومة بالمؤسسة الإسرائيلية، على قمع أي تظاهرة أو تجمع في الحيز العام، كما حدث في التظاهرات في حيفا وأم الفحم والطيبة، حين قامت قوات الشرطة مصحوبة بقوات حرس الحدود بالاعتداء على المتظاهرين واعتقال العشرات منهم.[29]
تُظهر هذه الحالة فقداناً لسيطرة الإسرائيليين الصهاينة على النفس، إذ وكّل كثير منهم نفسه للدفاع عن الدولة وأجهزتها بشكل شخصي، بحيث يمكن وصف هذه الحالة بأن من يدعون أنهم مواطنون في دولة ديموقراطية ذات مؤسسات باتوا يتصرفون كأنهم قبيلة، ليس بمفهومها التقليدي القائم على علاقات الدم، وإنما القبيلة الإثنية حيث حدود المجتمع تتقلص من دولة إلى قبيلة سياسية لا خيار فيها سوى التماهي معها تماماً، واعتبار كل من هو خارجها عدواً لها في ظلّ الحرب، والأعداء الأقرب والأخطر لليهودي في هذا الوضع ليس أهل قطاع غزة أو الضفة الغربية مثلاً، وإنما الفلسطينيون في أراضي 48. ومما زاد من كثافة القمع والترهيب، أن الفلسطيني إذا حاول أن يتقدم بالشكوى إلى الشرطة الإسرائيلية، فإن الشرطة ذاتها قد تعتقله هو بدلاً من حمايته.[30]
وتجدر الإشارة إلى حالة الضعف السياسي الرسمي، إذ إن القوى السياسية للأقلية الفلسطينية في "إسرائيل" لم تكن، ولا سيّما تلك الممثلة في الكنيست Knesset، على موقف واحد مما يجري في غزة. وهو ما عمّق التباينات بينها، وأظهرها قوى خارج الحدث المفصلي الأهم في تاريخ الصراع، أو عديمة التأثير تجاهه. على الرغم من انعكاساته المباشرة على التفاصيل اليومية للمجموعة العربية خلف الخط الأخضر، لا بل على مصيرها السياسي برمته.
عموماً، يمكن القول بأن المؤسسة الإسرائيلية سعت من اتباع تلك الإجراءات والممارسات إلى تقليل التفاعل مع القضايا الوطنية، وإبعاد ساحة الداخل المحتل عن باقي الساحات الفلسطينية وتحقيق الفصل بينها، والعمل على تجزئة الشعب الفلسطيني. وعمّقت المواجهة القائمة أصلاً بين مظاهر "الفلسطنة" التي تؤكد أهمية الانتماء الوطني والالتحام مع الشعب الفلسطيني وقضيته وبين مشاريع الاندماج و"الأسرلة" التي تدعو إلى الانكفاء على الذات وتوسيع الاهتمام بقضايا الحقوق المدنية.
3. إقرار بعض خطوات الترغيب:
ولم تقتصر ممارسات وسياسات القمع على أساليب "الترهيب"، بل شملت أيضاً أسلوب "الترغيب”، ومن ذلك ما جاء في صحيفة "إسرائيل اليوم Israel Hayom" من أن حكومة "إسرائيل" خشيت من أفعال احتجاجية بين فلسطينيي 48، ولا سيّما فيما يُعرف بـالمدن المختلطة، بعد 2023/10/7. وانطلاقاً من ذلك، عملت وزارة الشتات ومكافحة اللا سامية، وعلى رأسها الوزير عميحاي شيقلي Amichai Chikli من الليكود Likud على منع الاضطرابات في المجتمع العربي، ليس فقط عبر اعتقالات واسعة النطاق وسريعة عقب أنشطة داعمة لـ"حماس" في شبكات التواصل الاجتماعي، بل أيضاً عبر حملة توعوية رُفع فيها عنوان "المصير المشترك" لمواطني "دولة إسرائيل"، عرباً ويهوداً، وشملت لافتات إعلانية، وفيديوهات، وتعاوناً مع رؤساء السلطات المحلية، بتكلفة بلغت 1.5 مليون شيكل (نحو 400 ألف دولار) حتى 23023/11/27. والهدف من هذه الحملة كان بحسب الصحيفة هو تهدئة الخطاب العام والتحذير من المخاطر، عبر بثِّ مضامين من نوع "نحن معاً في هذه الحرب"، و"هذه الحرب ضدنا جميعاً"، و"معاً سننتصر". ومن المتوقع إنشاء استوديو بثّ في الوزارة ضمن الحملة، وكذلك موقع إلكتروني بالعربية مرتبط بسياق الحرب. وتزعم الوزارة أن هذه الحملة أسهمت في منع تكرار مشاهد هبّة الكرامة سنة 2021.[31]
إن ممارسات وسياسات القمع، التي منها ما هو ليس معروفاً بعد، تأتي في ظلّ استخلاص نتائج الأجهزة الأمنية للنظام الإسرائيلي من هبّة الكرامة تحديداً، والتي عدّت الأفعال الاحتجاجية لفلسطينيي 48 آنذاك، فتحاً لجبهة داخلية خلال الحرب؛ "سيف القدس" فلسطينياً، و"حارس الأسوار" إسرائيلياً، الأمر الذي جعلها تطور مفهوم "الحرب الهجينة"، ومن أهدافها تفتيت المجتمع الفلسطيني في أراضي 48، عبر ضرب بُنيته الداخلية واستنزافه وترويعه، بحيث يفقد تماسكه، ومن ثم قدرته على المشاركة في أي أفعال احتجاجية ضدّ الممارسات والسياسات الاستعمارية الصهيونية، وبالتالي تحييد خطره الحقيقي على الجبهة الداخلية الإسرائيلية وقت الحروب.
الخاتمة:
لقد سارعت المنظومة الإسرائيلية إلى اتخاذ موقف حاسم في تعاملها مع الأقلية الفلسطينية داخل أراضي 48 منذ اليوم الأول للحرب ضدّ قطاع غزة، كإجراء استباقي احترازي للحؤول مما هو (متوقع) لرد فعل هذا الجزء من أبناء الشعب الفلسطيني ممن بقوا في أراضيهم الأصلية بعد النكبة سنة 1948، تجاه ما ترتكبه آلة الحرب الصهيونية من فظائع بحق فلسطيني قطاع غزة في ظلّ حرب الإبادة الدائرة حالياً. حيث جاء هذا الموقف في ظلّ محددين اثنين: الأول تجارب حكومات "إسرائيل" الصعبة السابقة مع هذه الأقلية في إطار ما يتعلق بالحالة الوطنية والقضية الفلسطينية، التي كان من أبرزها وأخطرها هبة الكرامة سنة 2021؛ التي مثّلت خطراً جدياً على تماسك واستقرار الداخل الإسرائيلي. أما المحدد الثاني يتعلق بطبيعة الحرب، التي تختلف عن سابقاتها من حيث مداها الجغرافي وتعدد جبهاتها؛ جنوب لبنان، وسورية، والعراق، واليمن، والضفة الغربية، التي تمّ فرضها مع انطلاق عملية طوفان الأقصى مباشرة من طرف محور المقاومة، مما رفع من مستوى التهديد هذه المرة على وجود الكيان الصهيوني، الذي وعلى لسان عديد من قياداته وساسته أعلن بأن حرب الإبادة على قطاع غزة إنما في حقيقتها هي "حرب البقاء" أو "الاستقلال الثاني".[32]
يبدو أن التوقعات لرد فعل فلسطينيو 48 قد أغفلت كثيراً من العوامل التي أثّرت بشكل جدي وملموس على قدرات وإمكانيات هذا الجزء من أبناء الشعب الفلسطيني في ممارسة الدور الوطني المعروف عنه تاريخياً، والذي كان متوقعاً أن يصدر عنهم في ظلّ اندلاع حرب الإبادة الجماعية على جزء آخر من الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، ومن ثم كان (واقع) رد الفعل فلسطينيو 48 مخالف لما كان متوقع، وذلك بفعل عدة عوامل وأسباب قامت الورقة بالتطرق لأبرزها. لكن، وعلى أي حال، لا بدّ من التنويه بأن هذه المعطيات ليست نهاية، بمعنى أن هذا الواقع لموقف فلسطينيو 48، حالة عدم التناسب، مفتوح بشكل كبير على احتمال التحول في أي لحظة، وذلك حسب سير الأحداث وكثير من المتغيرات الميدانية والسياسية.
فلسطينيو 48 وحرب الإبادة الإسرائيلية ضد قطاع غزة بين الواقع والمتوقع
هاني رمضان طالب