سامحني أبا كرمل .. أنا لم أنساك ولن أنساك !
غادرتنا إلى الرفيق الأعلى في الوقت الذي نودّع فيه كل يوم مئات الشهداء في كل مكان من أرض قطاع غزة المنكوب..سامحني فالشعب الفلسطيني الصابر المرابط يودع فلذات أكباده، عشرات الآلاف من الشهداء منذ أكثر من سبعة أشهر متواصلة.
سامحني ابا كرمل فلم أستطع أن أكتب عنك وأنا أشاهد الأمهات الغزاويات وهنّ يلملمن أشلاء أطفالهنّ.. سامحني يا عبدالله، فلم أستطع أن أودعك وأنا أرى الشيخ الكبير الذي يلملم جراحه النازفة وكل همّه البحث عن أحفاده وإخراج جثثهم من تحت أنقاض منزله الذي هدمه الاحتلال الصهيوني فوق رؤوس أبنائه وبناته وأزواجهن.
سامحني أيها العزيز وأنا أشاهد الجموع الهائمة على وجوهها لا تعرف أين تذهب بعد أن فقدت البيت والأهل والجيران. الجموع المذهولة المتسائلة عن الأمة وقادتها وجيوشها وهي تتفرج على مأساتهم.
سامحني يا رفيق الدرب وأنا أرى أطفال غزة يتزاحمون للحصول على وجبة طعام، الحصول على قليل من العدس وعلى رغيف خبز.
سامحني وأنا أرى الطفل المصاب وهو يرتعش من الخوف والدم يسيل من وجهه البريء، وعيونه زائغه مستغرباً مما يجري له وحوله.
سامحني وأنا أرى الأم الثكلى تحتضن جثمان طفلها الذي لم يتجاوز عمره أياماً معدودة ملفوفاً بقطعة قماش بيضاء يقال لها كفن ولا تريد مفارقته.
سامحني وأنا أشاهد حاضنات الأطفال الخدّج، وقد انقطع عنها التيار الكهربائي والأكسجين.
سامحني وأنا أرى الطبيب البطل الذي يجاهد لإنقاذ طفل يلفظ أنفاسه الأخيرة، ولكن لم يستطع أن ينقذه فيصاب بنوبة بكاء، وتلك الممرضة الهادئة رغم كل المصائب التي أمامها، إلا أنها تحاول المستحيل للتخفيف من الجرحى بما يتوفر لديها من إمكانات شحيحة.
سامحني وأنا أرى المسعف في الهلال الأحمر الفلسطيني وفي الدفاع المدني وهو يتعرض للقتل، عندما يلقي بنفسه في مكان الجريمة التي اقترفها جيش الاحتلال.
أبا كرمل ..
كان مشوارنا طويلاً عندما التقينا سوياً في مدينة البعوث الإسلامية التابعة لجامعة الأزهر في الستينات من القرن الماضي، ثم جمعتنا "فتح" فصوت "العاصفة" في العام ١٩٦٨ الذي انطلق في مثل هذه الأيام من شهر أيار "مايو "، إلى أن وصلنا إلى عضوية المجلس الثوري لحركة فتح بعد المؤتمر العام الخامس للحركة الذي انعقد وقتها في تونس، وبعدها توزعنا، فبقيت أنا في الإذاعة وفي الإعلام ثم التوجيه السياسي، وذهبت أنت سفيراً في هنغاريا ثم بولندا، وكم ساعدتني في طباعة ملصقات وإرسالها من أصدقائنا البولنديين عندما كنت مسؤولاً للإعلام الفلسطيني في الأردن.
وعدنا إلى الوطن، أنت وكيلاً لوزارة السياحة، وأنا نائباً للمفوض السياسي العام، مساعد القائد العام، وبعد تقاعدنا من السلطة ترأست أنت هيئة المتقاعدين المدنيين، ثم عضواً في المجلس الاستشاري لحركة فتح الذي جمعني وإياك مرة أخرى.
اذكر يا عبدالله يوم حضرت إلينا في الإذاعة في شارع الشريفين في القاهرة قادماً من عمان، وتحمل ما صنعته والدتك رحمها الله من أكلها الطيب وهو المسخن اللذيذ.
وكم كان برنامجك الإذاعي "مع المقاتلين في قواعدهم" بلهجتك الفلّاحية المحببة من صوت العاصفة، يحظى باهتمام، وينقل صورا من قواعد حركة فتح.
وداعاً أخي عبدالله.. نفتقد ابتسامتك وقفشاتك المضحكة التي لم تفارقك طيلة حياتك.. إلى جنات الخلد مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.