بدأت أمريكا عام 2023 بوضع اقتصادي غير مستقر، حيث انخفضت معدلات النمو من 6% في عام 2021 الى 3.5% في عام 2022، كما أنخفض مؤشر مديري المشتريات الصناعي من 55 نقطة الى 45 نقطة لنفس الفترة السابقة، ووصل العجز التجاري في أمريكا الى أرقام قياسية، وبالرغم من ارتفاع مؤشرات الأسهم الامريكية الرئيسية المدعومة من القطاع التكنولوجي والخدمات، الا أنها لم تسلم من التقلبات، حيث زاد تذبذب مؤشر Nasdaq للتكنولوجي 35%، ومؤشر 500 S&P حوالي 25%، ومؤشر Dow Jones الصناعي 20% في عام 2022، وتم تسريح الاف العمال وخاصة في قطاع التكنولوجيا، وبدأت تطل برأسها أزمة رفع سقف الدين الامريكي الذي وصل الى 31.4 تريليون دولار مع بداية عام 2023، وانخفض التصنيف الائتماني للحكومة الامريكية بناء على تصنيف Fitch من AAA الى AA+ وكذلك الأمر للشركات بناء على تصنيف Moody’s، والذي زاد الضغوطات على الحكومة والشركات والمواطنين.
جميع هذه الضغوطات والتراجعات السابقة والتقلبات الاقتصادية في أمريكا تعود الى عدة أسباب، أهمها السياسة المالية التوسعية نتيجة طباعة تريليونات الدولارات أثناء جائحة كورونا وزيادة الانفاق الحكومي والذي زاد من عرض النقد والتضخم في أمريكا الى مستويات قياسية 9.1% عام 2022، كما أن الصراع الروسي الاوكراني الذي أدى الى تعرقل الامدادات وخاصة في قطاع الطاقة والغذاء عام 2022، وتشديد السياسة النقدية من قبل الفيدرالي الأمريكي لنفس العام من خلال رفع معدلات الفائدة، وذلك لمحاربة معدلات التضخم واستطاع تخفيضها الى 6.5% مع بداية عام 2023.
تشديد السياسة النقدية أوصل نسب النمو في أمريكا في الربع الأول والثاني من عام 2023 الى حوالي 2%، اضافة الى حدوث بعض التصفيات في البنوك الامريكية وخاصة مع نهاية الربع الأول لنفس العام كبنك Silicon Valley وبنك Signature وبنك Silver gate، ومع نهاية الربع الثاني تم الاستحواذ على بنك First republic وتمت عمليات بيع وضغوط على بنك Pac West، وكل هذه كانت اشارات سلبية واضحة على أن الاقتصاد الأمريكي بدأ يواجه صعوبات وتحديات على مستويات مؤشرات الاقتصاد الجزئي والكلي.
ولكن القائمين على السياسة النقدية والمالية في امريكا قاموا باجراءات مع نهاية الربع الثاني أو منتصف العام 2023 واستطاعوا توجيه الاقتصاد الأمريكي الى بر الأمان وايقاف شبح انهيار البنوك الامريكية، وأولى هذه الإجراءات على مستوى السياسة النقدية هو قيام الفيدرالي الامريكي بفتح قناة للسيولة النقدية بينه وبين البنوك الامريكية، بحيث يتم دعم البنوك التي تعاني من نقص السيولة من خلال الفيدرالي الامريكي، اضافة الى التصريحات المتكررة من قبل السيد جيروم بأول محافظ الفيدرالي الامريكي بأن النظام المصرفي سليم، والسحوبات أكثر استقرار ومراقبة، والاشارة الى تأمين جميع الودائع في البنوك الامريكية للمحافظة على ثقة الجمهور، والتركيز ليس فقط على التشديد النقدي انما أيضا على الائتمان بتشديد شروط منح الائتمان.
وبالرغم من التأثيرات السلبية من تشديد السياسة النقدية على تباطؤ الاقتصاد الأمريكي، حيث تم رفع معدلات الفائدة الى 5.75% على الودائع، الا أن هذه السياسة انعكست بشكل ايجابي على قوة الدولار الأمريكي، وتعافى الدولار وأرتفع أكثر من 15% كعمله عالمية تجاوزت 104 نقطة مقابل سلة مكونة من ستة عملات رئيسية في العالم، حدوث التباطؤ الاقتصادي وزيادة قوة الدولار أدت بطبيعة الحال الى الضغط على سعر برميل النفط في العالم ليهبط الى ما دون 75 دولار لخام برنت في عام 2023، كما أن تشديد السياسة النقدية أدى الى تراجع معدلات التضخم من 9.1% الى 4.9% في منتصف عام 2023 من جهة، ودعم معدلات النمو في أمريكا في النصف الثاني في نفس الفترة من الجهة الأخرى، وهذا أدى بدورة الى الاستقرار النقدي في امريكا.
وعلى مستوى السياسة المالية، ففي منتصف عام 2023، ضغط الجمهوريين على الديمقراطيين لخفض الانفاق العام وترشيد النفقات الحكومية للموافقة على رفع سقف الدين الأمريكي من 31.4 ترليون ليصل الى 33 تريليون دولار، كما طالب الجمهوريين بتشديد متطلبات سوق العمل للمستفيدين من الإعانات لدفع العاطلين عن العمل في أمريكا للبحث عن فرص عمل وتوظيف وذلك للاستفادة من مهاراتهم، كما أوصى الجمهوريين بالإسراع في تنفيذ مشاريع الطاقة المتجددة، والاستفادة من الأموال التي لم تنفق وكانت مرصودة لمواجهة جائحة كورونا، وفي نهاية المطاف ومع نهاية عام 2023، استطاعت أمريكا بأن تخرج من ذلك العام بمعدلات نمو مقبولة نسبيا تصل الى 4.9% للربع الثالث و 3.2% للربع الرابع، وتمكنت من إضافة وظائف شهرية في القطاع الخاص تتجاوز التوقعات لتعطي اشارات ايجابية للأسواق وللاقتصاد الامريكي بأنه يتعافى نسبيا، والذي بدوره أدى الى الاستقرار النقدي والمالي في امريكا.
ولم يقتصر التحسن في الاقتصاد الامريكي على مستوى السياسة النقدية والمالية، انما تجاوز الى بعض القطاعات الحيوية، مثل قطاع صناعة السيارات الكهربائية، وخاصة في مجال الذكاء الاصطناعي والرقائق الالكترونية وأشباه الموصلات، حيث قامت أمريكا بالعمل على انشاء وانتاج هذه الرقائق وأشباه الموصلات، ووضعت عقوبات على قطاع صناعة السيارات الكهربائية في الصين، لينعكس ذلك بشكل ايجابي على قطاع صناعة السيارات الامريكي، اضافة الى تحسن قطاع الأدوية والصحة، والطيران، والقطاعات الحكومية، وقد ظهر ذلك جليا على مستوى مؤشر مديري المشتريات الصناعي الامريكي الذي تجاوز 50 نقطة مع الربع الأول العام 2024.
وبالرغم من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وانعكاس ذلك بشكل سلبي على حركة التجارة العالمية في الربع الرابع لعام 2023، وخاصة في الصين ومنطقة اليورو ومنطقة الشرق الأوسط من خلال زيادة تكاليف الشحن وتعرقل سلاسل التوريد، وتأثر الشرق الأوسط خاصة في قطاع السياحة نتيجة التوترات المتصاعدة في البحر الأحمر، كما أنعكس ذلك على أسعار الذهب حيث أرتفع سعر الاونصة لتكسر حاجز 2000 دولار، الا أن اقتصاد أمريكا حافظ على استقراره نسبيا، وقد شاهدنا كيف دخلت الأسواق المالية الامريكية عام 2024 بقوة، حيث ارتفعت جميع المؤشرات داخل امريكا في الربع الأول بشكل كبير، فعلى سبيل المثال ارتفع مؤشر Nasdaq للتكنولوجي تقريبا 12%، وارتفع مؤشر 500 S&P تقريبا 11%، وأرتفع مؤشر Dow Jones الصناعي حوالي 5%، وأستطاع الفيدرالي بتخفيض التضخم الى 3.4%.
في هذا السرد السريع للاقتصاد الأمريكي لعام 2022 وعام 2023، شاهدنا كيف كانت النسب والمؤشرات الاقتصادية متغيرة والأحداث متسارعة، ولاحظنا كيف كان تعامل المسؤولين عن السياسة النقدية والمالية في الاقتصاد الأمريكي بكفاءة كبيرة، وهو بكل تأكيد درس لكل المسؤولين عن السياسة المالية والنقدية بمتابعة صحة الاقتصاد، لأن صحة الاقتصاد تعكس صحة الاقتصاد للوطن والمواطن.
وبالنظر الى الاقتصاد الأردني، نجد أن المسؤولين عن السياسة المالية يقع عليهم مسؤولية ترشيد النفقات ومحاولة توجيهها بطريقة تخدم البنية التحتية لجذب الاستثمار المحلي والاجنبي ولزيادة التشغيل والتوظيف في قطاعات الاقتصاد الأردني، والإسراع في البحث عن مصادر دخل ومصادر دين أخرى، والاستفادة من الطاقة المتجددة، وبالمقابل على المسؤولين في البنك المركزي الأردني تقليص الفارق والفجوة بين معدلات الفائدة الموجودة على الودائع في البنوك الامريكية 5.75% والفائدة الموجودة على الودائع في البنوك الأردنية 7.35% في هذه الفترة الحساسة، لتنخفض الفائدة في البنوك الأردنية وتصبح 6%، لان تخفيض الفائدة سيؤدي الى تقليل التكاليف على جميع القطاعات وزيادة قدرتها على توفير السيولة في هذه الفترة الحرجة وخاصة في ظل الاحداث المخاطر الجيوسياسية المتزايدة في منطقة الشرق الأوسط، ومحاولة فتح قناة للسيولة بين البنك المركزي الأردني والبنوك الأردنية لضمان تماسك الجهاز المصرفي الأردني والمحافظة على قوة الدينار.