لما دخلت قريش على معاوية بن أبي سفيان، سلّم عليهم وقرَّبهم، قال: أتدرون يا أهل قريش لم أخّرت أهل اليمن وقرّبتكم؟ قالوا: لا والله يا أمير المؤمنين. قال: لأنهم لم يزالوا يتطاولون علينا بالفخار ويقولون ما ليس فيهم، وإني أريد إذا دخلوا غداً وأخذوا أماكنهم من الجلوس أن أقوم فيهم نذيراً وألقي عليهم من المسائل ما أُقل بهم إكرامهم وأُرخص به مقامهم. وكان المُقدَّم عليهم رجلاً يقال له الطرماح، فقال لهم: إذا دخلتم عليه وأخذتم أماكنكم من الجلوس وسألكم عن شيء فلا يجبه أحد غيري، فلمّا كان من الغد دخلوا عليه وأخذوا أماكنهم، فنهض معاوية قائماً على قدميه، وقال: أيها الناس مَن تكلَّم قبل العرب، وعلى من أُنزلت العربية؟
فقام الطرماح وقال: نحن يا معاوية، فقال: لماذا؟ فقال: لأنه لما نزلت العرب ببابل وكانت العبرانية لسان الناس كافة أرسل الله تعالى العربية على لسان يعرب بن قحطان الباهلي، وهو جدُّنا، فسكت معاوية ثم رفع رأسه وقال: أيها الناس، مَن أقوى العرب إيماناً، ومَن شهد له بذلك؟ فقال الطرماح: نحن يا معاوية، قال: ولمَ؟ قال: لأن الله بعث محمداً، صلى الله عليه وسلم، فكذبتموه وسفهّتموه وجعلتموه مجنوناً، فآويناه ونصرناه فأنزل الله: (والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً)
ثم رفع رأسه وقال: أيها الناس، مَن أنصح العرب لساناً، ومَن شهد له بذلك؟ قال الطرماح: نحن يا معاوية، قال: ولمَ ذلك؟ قال: لأن امرأ القيس بن حجر الكندي منّا قال في بعض قصائده:
يُطعمون الناس غباً/ في السنين الممحلات
في جفان كالخوابي/ وقدور راسياتي
وقد تكلم بألفاظ جاء مثلها في القرآن الكريم، وشهد له رسول الله بذلك، فسكت معاوية زماناً وقال: أيها الناس، مَن أقوى العرب شجاعة وذِكراً، ومن شهد له بذلك؟ قال الطرماح: نحن يا معاوية، قال: ولمَ ذلك؟ قال: لأنَّ منَّا عمرو بن معد يكرب الزبيدي، كان فارساً في الجاهلية وفارساً في الإسلام وشهد له بذلك النبي، فقال له معاوية: وأين أنت وقد أتى به مصفداً بالحديد؟ فقال له الطرماح: ومَن أتى به؟ قال معاوية: أتى به عليّ، قال الطرماح: والله لو عرفت مقداره لسلَّمت إليه الخلافة ولا طمعت فيها أبداً، فقال له معاوية: أتحجّني يا عجوز اليمن؟ قال: نعم أحجّك يا عجوز مُضر، لأن عجوز اليمن بلقيس آمنت بالله، وتزوجت نبيه سليمان بن داوود، عليهما السلام