أخبار البلد - تذكّرنا هذه الأيّام الدمويّة، بأيّام اجتياح لبنان وحصار بيروت في صيف عام 1982، ثمّ الاتّفاق برعاية دوليّة على إخراج منظّمة التحرير الفلسطينيّة من بيروت الغربيّة، تبع خروجها مجزرة صبرا وشاتيلا في ضواحي بيروت برعاية الاحتلال الإسرائيليّ وتنفيذ القوّات اللبنانيّة بقيادة سمير جعجع.
لقد وصل عدد ضحايا تلك الحرب حوالي 12 ألفًا وعشرات آلاف المعتقلين، ويبدو أنّ هذه الحرب على غزّة ستكون أم المجازر كلها، وسوف تتفوّق عليها منذ النكبة إلى يومنا مجتمعة.
بعد تلك الحملة عام 1982 قال مناحيم بيغن رئيس الحكومة الإسرائيليّة في حينه مقولة توراتيّة "وتصمت البلاد أربعين عامًا"، لكن لم تمض أربعون يومًا، حتّى بدأت المقاومة اللبنانيّة والفلسطينيّة في العمل ضدّ الاحتلال، كلّفت إسرائيل وأميركا وفرنسا آلاف القتلى والجرحى. حتّى انسحبت مدحورة نهائيًّا مع عميلها في الجنوب اللبنانيّ، الجنرال أنطوان لحدّ وذلك عام 2000، انسحبت من كلّ الأراضي اللبنانيّة، باستثناء مزارع شبعة، الّتي ما زالت تحتلّها حتّى يومنا.
خلال هذه الحقبة جرت انتفاضات، وعقدت اتّفاقات أوسلو الّتي التزمت فيها منظّمة التحرير، وجاء شارون، زعيم المعارضة في حينه، ليفجّرها من خلال دخوله الاستفزازيّ مع جنوده إلى المسجد الأقصى، فكانت شرارة الانتفاضة الثانية حتّى محاصرة عرفات في المقاطعة وتسميمه ورحيله عام 2004.
حرب أخرى وقعت عام 2006 على الجبهة اللبنانيّة، الّتي لم يكن للفلسطينيّين فيها أيّ دور، فقد كان سببها اختطاف إسرائيل لشخصيّات قريبة من المقاومة الإسلاميّة في لبنان، وجاء الردّ باختطاف جنود إسرائيليّين، واشتعال المواجهة الّتي أبرزت حزب اللّه كقوّة مؤثّرة في المنطقة والّتي توّجت بتبادل للأسرى.
كذلك فقد استولت حماس على السلطة في قطاع غزّة عام 2007، وواكب هذا اغتيالات وعمليّات فلسطينيّة وقتلى وجرحى وخسائر بشريّة من الطرفين، ولكن خلال هذه الفترة أنشأت حماس بنيّة عسكريّة قويّة فاعلة.
بيبي نتنياهو ومنذ استلم رئاسة الحكومة أوّل مرّة عام 1996، بدأ في تطبيق رؤيته بالتنكّر لاتّفاقات أوسلو، وبنى عليها شعبيّته، إلى أن أعلنها بصراحة ووضوح، بأنّه لن يسمح بقيام دولة فلسطينيّة في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، إذًا كيف يريد لهذه المعضلة أن تنتهي!
لقد أقنع بيبي نفسه وقطاعًا واسعًا من الشعب في إسرائيل، بأنّه قادر على صنع سلام مقابل السلام، وتطبيع مع الدول العربيّة بدون تقديم ما يسمّيه تنازلات، بل والضغط على الفلسطينيّين من خلال إطلاق يد المتطرّفين للاعتداءات عليهم، ومنعهم حتّى من قطف محاصيلهم الزراعيّة، بهدف السيطرة على أراضيهم وتخفيف أعدادهم وحثّهم على الهجرة.
في الوقت ذاته، سنّ قانون القوميّة ويهوديّة الدولة الّذي يختزل حقوق العرب الفلسطينيّين في إسرائيل كخطوة أوّليّة لمصادرة حقوقهم المدنيّة بعد حقوقهم القوميّة، ثمّ التهديد بسحب الجنسيّة منهم لأتفه الأسباب، وزيادة اللغط عن تسليم المثلّث ومدينة أمّ الفحم إلى سلطة رام اللّه.
يعتقد نتنياهو أنّ الفرصة قد لاحت لتنفيذ مخطّط ترحيل أعداد كبيرة من سكّان قطاع غزّة، من خلال دعشنة حماس مستغلًّا ما حدث في السابع من أكتوبر، وإطلاق يد الجيش وقوّته الناريّة بلا تمييز بين مدنيّ وعسكريّ لإيقاع أكبر عدد ممكن من الخسائر البشريّة.
ترافق هذا حملة إعلاميّة محلّيّة ودوليّة، والويل الويل لمن يشكّك بأيّ تفصيل في الرواية الرسميّة حول ما حدث في السابع من أكتوبر، وما جرى ويجري من بعده حتّى هذه اللحظة.
من لا يطبّل للرواية الرسميّة، فهو يخدم العدوّ وكاره لنفسه إذا كان إسرائيليًّا، وإذا كان من الأغيار، فهو معاد لليهود ولا ساميًا ومنكر للمحرقة، حتّى أهالي الرهائن والأسرى لم يسلموا من اتّهامهم بإضعاف الجبهة الداخليّة، لأنّهم طالبوا بهدنة إنسانيّة، تسمح بتبادل للأسرى والرهائن.
كلّ هذا لتثبيت قناعته مع حلفائه، بأنّ الفرصة قد لاحت لحلّ المشكلة المستعصية منذ عقود، على طريقة الإلغاء والمحو والإبادة والترحيل للشعب الفلسطينيّ.
خطر الترحيل قائم، ولم يفشل بعد، فما فعله عبد الفتّاح السيسي رئيس مصر هو إعلان رفض لدخول فلسطينيّين من غزّة إلى سيناء، ولكن ماذا مع حشر أكثر من مليوني مواطن جنوبيّ وادي غزّة! وإقامة مناطق عازلة في الشمال وحول القطاع من كلّ جهاته! هل هذا يعني أن يعيش أكثر من مليونين من سكّان قطاع غزّة في أقلّ من نصف مساحة القطاع المكتظّة بهم أصلًا، ثمّ مهاجمتها وعدم إبقاء أيّ مساحة آمنة لا في الشمال ولا في الجنوب، وعمليًّا دفع الفلسطينيّين إلى الموت، أو إلى الرحيل!
الإدارة الأمريكيّة تشجّع إسرائيل على التمسّك بعدم وقف إطلاق النار، بل وتحرج القيادة العسكريّة في إسرائيل، الّتي بات عليها أن تتحمّل الخسائر الباهظة مهما بلغت، والمخاطرة في أرواح الرهائن والأسرى.
نتائج هذه الحملة حتمًا ستكون عكسيّة، لأنّ الشعب الفلسطينيّ كلّه يعرف أسباب وعلّة ما حدث وما يحدث، وأنّه لم يبدأ بما حدث في السابع من أكتوبر من هذا العام.
الحلول العسكريّة مهما كانت نتائجها وقسوتها سيكتب لها الفشل، ولن تكون مصدرًا للأمن، بل لكوارث جديدة في الأفق القريب والبعيد، وعلى مدى عقود قادمة ووبالا على الشعبين وكلّ شعوب المنطقة، وصدق من قال، إنّ الغباء هو فعل الشيء نفسه، وتوقّع نتائج مختلفة، لم تصمت الأرض أربعين عامًا من قبل، ولن تصمت حتّى أربعين يومًا بعد هذه الحملة المجزرة. عن "عرب ٤٨"
لن تصمِت الأرضُ أربعين يومًا…
سهيل كيوان