في فورة الأحداث الدموية التي تشهدها غزة راهناً، ثمة عديد الضحايا، ومن بين تلك الضحايا قيمة الحياد الإعلامي؛ إذ يبدو أنه من الصعب جداً أن تتمسك وسيلة إعلامية أو صحافي أو كاتب بتلك القيمة في هذه الأجواء المشحونة.
فعدد كبير من الأطراف المنخرطة في هذا الصراع الدامي، أو أصحاب المصلحة، أو المتعاطفين والمؤيدين، ينظرون إلى الأحداث من زوايا محددة، تعكس مواقف معينة، وتنطلق من بُنى آيديولوجية، أو دينية، أو تجارب تاريخية وإنسانية، وربما أيضاً من مصالح عملية.
ولذلك، فإن رؤى الأطراف تتصادم، والأخطر أن كل طرف منها يعتقد أن ما يراه هو الصواب والحق والعدل، وأن من يتناول الموضوع بأي منطق مخالف أو متباين إنما هو «خائن» أو «عميل» أو «غير مهني» في أفضل الأحوال.
هذا الصراع الذي تختلط فيه الدعاوى الدينية والتاريخية، وتتراكم فيه الثارات والأحقاد، ويتعطل أمامه المستقبل، يعد محكّاً صعباً وحساساً لقياس مهنية وسائل الإعلام، وعنده تخفق مؤسسات كبرى كثيراً في تلبية الاشتراطات المهنية والتزام المعايير، وتتزايد قابليتها لتلقي الضغوط.
لا يتوقف الجدل، ولا تنقطع الأسئلة عن مهنية وسائل الإعلام الغربية أو الشرقية في تغطية وقائع الحرب في غزة، ومعها أيضاً طوفان من الاتهامات التي توجه لعديد الوسائل الإعلامية والكتاب والمحللين، لأن كثيرين من النقاد وأفراد الجمهور يريدون أن يسمعوا ويروا شيئاً محدداً، يؤمنون تماماً أنه الصواب، ويعتقدون أن كل ما عداه يجب أن يُحظر ويُدان.
ستضغط تلك الاعتبارات بقوة على أصحاب القرار في غُرف الأخبار، بل إن المدوّنين أيضاً سيراعون تلك المشاعر الملتهبة، وسيكون فصيل محدود بين كل هؤلاء قادراً على أن يذيع كل ما يصله من أخبار، وأن ينقل كل ما ورده من انطباعات، وأن يطرح كل ما لديه من هواجس، وستكون هناك تكلفة لبعض ما سيُنشر وسيُذاع.
لطالما تجدّد الجدل في المجال الإعلامي حول معنى الحياد، وما إذا كان «خرافة» أو «قيمة تستحق أن نعمل من أجلها». وفي مثل الحرب التي تطالنا شظاياها الآن، لا يسأل كثيرون عن وجود تلك القيمة في التغطيات والإفادات والصور والفيديوهات، بقدر ما يهيمن السؤال عن مواقف أصحابها، ومدى دعمهم لطرف ما، وشيطنتهم للطرف الآخر؛ وسيحدث هذا باطراد لدينا في الشرق «المُقيد» كما في الغرب «المنفتح والشفاف». سيتكرّس الجدل حول الحياد الإعلامي في مواكبة الحرب الملتهبة، وسيتّخذ شكلاً صدامياً أحياناً، إلى حد يعدُّ البعض فيه أن «الحياد خيانة»، فيما يرى آخرون أن التخلّي عن هذه القيمة المهنية يمكن أن يحوّل الأخبار إلى مجموعة من التشنّجات والتصوّرات الذهنية المتصادمة والمتحاربة.
لقد كانت القضية الفلسطينية، والعدوان الإسرائيلي على دول عربية عدة، سبباً رئيساً في زعزعة مكانة قيمة الحياد في العمل الصحافي والإعلامي؛ إذ كان من الصعب على إعلاميين كثيرين أن يتبنّوا مقاربة حيادية في تغطياتهم حين يتصل الأمر باحتلال دولة فلسطين وتشريد أهلها، أو ارتكاب مذابح بحق مواطنين عرب، أو اجتياح الأراضي والعواصم العربية، أو حرق الأطفال في قانا، وقتل آلاف المواطنين في غزة وغيرها.
وبسبب وقوع معظم المنظومات الإعلامية العربية على مدى العقود الأخيرة تحت هيمنة السلطة التنفيذية، كانت قيمة الحياد صعبة التحقق، ومستحيلة أحياناً، بالنظر إلى أن معظم السلطات العربية كانت تُسخِّر وسائل الإعلام العامة والخاصة كأبواق دعاية.
والحياد في العمل الإعلامي الإخباري هو وقوف الصحافي أو الوسيلة الإعلامية على مسافة متساوية من جميع أطراف الحدث، مع إتاحة الفرص المناسبة لتلك الأطراف، أو من يمثّلها، للتعبير عن مواقفها، دون التورط بتأييد أو معارضة أي من تلك المواقف. فهل سيتقبّل الجمهور العربي ممارسة مهنية تعتمد هذا المعيار في تلك الأوقات التي تنفلت فيها الأعصاب؟
والحياد يعدّ خطاً فاصلاً بين تقديم المعلومة المجردة وبين التحريض والحضّ على توجّه سياسي أو اجتماعي معيّن، بينما يفور الوسط الإعلامي الراهن بالمشاعر الملتهبة والحثّ والإلحاح. وعند إعداد التقارير الصحافية أو تقديم النشرات وبرامج الأحداث الجارية، يجب التأكد من أن الصحافي يحاول أن يفصل بين مشاعره وعواطفه وتوجّهاته وبين مهنيته، وهو الأمر الذي سيُقابل باتهامات؛ أخطرها «الخيانة»، وأقلها «البرود وتبلّد الإحساس». هل يقبل الجمهور العربي هذا النمط من الأداء الإعلامي بينما يتساقط الأطفال في غزة تحت القصف الإسرائيلي؟
وهل يقبل أن يستمع إلى تغطية تُبرز زوايا لا تقتصر على تبجيل هذه الدماء الزكيّة المسفوكة... مهما كانت تلك الزوايا منطقية وموضوعية وعامرة بالمهنية؟
فعدد كبير من الأطراف المنخرطة في هذا الصراع الدامي، أو أصحاب المصلحة، أو المتعاطفين والمؤيدين، ينظرون إلى الأحداث من زوايا محددة، تعكس مواقف معينة، وتنطلق من بُنى آيديولوجية، أو دينية، أو تجارب تاريخية وإنسانية، وربما أيضاً من مصالح عملية.
ولذلك، فإن رؤى الأطراف تتصادم، والأخطر أن كل طرف منها يعتقد أن ما يراه هو الصواب والحق والعدل، وأن من يتناول الموضوع بأي منطق مخالف أو متباين إنما هو «خائن» أو «عميل» أو «غير مهني» في أفضل الأحوال.
هذا الصراع الذي تختلط فيه الدعاوى الدينية والتاريخية، وتتراكم فيه الثارات والأحقاد، ويتعطل أمامه المستقبل، يعد محكّاً صعباً وحساساً لقياس مهنية وسائل الإعلام، وعنده تخفق مؤسسات كبرى كثيراً في تلبية الاشتراطات المهنية والتزام المعايير، وتتزايد قابليتها لتلقي الضغوط.
لا يتوقف الجدل، ولا تنقطع الأسئلة عن مهنية وسائل الإعلام الغربية أو الشرقية في تغطية وقائع الحرب في غزة، ومعها أيضاً طوفان من الاتهامات التي توجه لعديد الوسائل الإعلامية والكتاب والمحللين، لأن كثيرين من النقاد وأفراد الجمهور يريدون أن يسمعوا ويروا شيئاً محدداً، يؤمنون تماماً أنه الصواب، ويعتقدون أن كل ما عداه يجب أن يُحظر ويُدان.
ستضغط تلك الاعتبارات بقوة على أصحاب القرار في غُرف الأخبار، بل إن المدوّنين أيضاً سيراعون تلك المشاعر الملتهبة، وسيكون فصيل محدود بين كل هؤلاء قادراً على أن يذيع كل ما يصله من أخبار، وأن ينقل كل ما ورده من انطباعات، وأن يطرح كل ما لديه من هواجس، وستكون هناك تكلفة لبعض ما سيُنشر وسيُذاع.
لطالما تجدّد الجدل في المجال الإعلامي حول معنى الحياد، وما إذا كان «خرافة» أو «قيمة تستحق أن نعمل من أجلها». وفي مثل الحرب التي تطالنا شظاياها الآن، لا يسأل كثيرون عن وجود تلك القيمة في التغطيات والإفادات والصور والفيديوهات، بقدر ما يهيمن السؤال عن مواقف أصحابها، ومدى دعمهم لطرف ما، وشيطنتهم للطرف الآخر؛ وسيحدث هذا باطراد لدينا في الشرق «المُقيد» كما في الغرب «المنفتح والشفاف». سيتكرّس الجدل حول الحياد الإعلامي في مواكبة الحرب الملتهبة، وسيتّخذ شكلاً صدامياً أحياناً، إلى حد يعدُّ البعض فيه أن «الحياد خيانة»، فيما يرى آخرون أن التخلّي عن هذه القيمة المهنية يمكن أن يحوّل الأخبار إلى مجموعة من التشنّجات والتصوّرات الذهنية المتصادمة والمتحاربة.
لقد كانت القضية الفلسطينية، والعدوان الإسرائيلي على دول عربية عدة، سبباً رئيساً في زعزعة مكانة قيمة الحياد في العمل الصحافي والإعلامي؛ إذ كان من الصعب على إعلاميين كثيرين أن يتبنّوا مقاربة حيادية في تغطياتهم حين يتصل الأمر باحتلال دولة فلسطين وتشريد أهلها، أو ارتكاب مذابح بحق مواطنين عرب، أو اجتياح الأراضي والعواصم العربية، أو حرق الأطفال في قانا، وقتل آلاف المواطنين في غزة وغيرها.
وبسبب وقوع معظم المنظومات الإعلامية العربية على مدى العقود الأخيرة تحت هيمنة السلطة التنفيذية، كانت قيمة الحياد صعبة التحقق، ومستحيلة أحياناً، بالنظر إلى أن معظم السلطات العربية كانت تُسخِّر وسائل الإعلام العامة والخاصة كأبواق دعاية.
والحياد في العمل الإعلامي الإخباري هو وقوف الصحافي أو الوسيلة الإعلامية على مسافة متساوية من جميع أطراف الحدث، مع إتاحة الفرص المناسبة لتلك الأطراف، أو من يمثّلها، للتعبير عن مواقفها، دون التورط بتأييد أو معارضة أي من تلك المواقف. فهل سيتقبّل الجمهور العربي ممارسة مهنية تعتمد هذا المعيار في تلك الأوقات التي تنفلت فيها الأعصاب؟
والحياد يعدّ خطاً فاصلاً بين تقديم المعلومة المجردة وبين التحريض والحضّ على توجّه سياسي أو اجتماعي معيّن، بينما يفور الوسط الإعلامي الراهن بالمشاعر الملتهبة والحثّ والإلحاح. وعند إعداد التقارير الصحافية أو تقديم النشرات وبرامج الأحداث الجارية، يجب التأكد من أن الصحافي يحاول أن يفصل بين مشاعره وعواطفه وتوجّهاته وبين مهنيته، وهو الأمر الذي سيُقابل باتهامات؛ أخطرها «الخيانة»، وأقلها «البرود وتبلّد الإحساس». هل يقبل الجمهور العربي هذا النمط من الأداء الإعلامي بينما يتساقط الأطفال في غزة تحت القصف الإسرائيلي؟
وهل يقبل أن يستمع إلى تغطية تُبرز زوايا لا تقتصر على تبجيل هذه الدماء الزكيّة المسفوكة... مهما كانت تلك الزوايا منطقية وموضوعية وعامرة بالمهنية؟