في بعض البلدان يقاطَع الأديب المعارض للسلطة أو غير المتحيز لها، ويُحرم من المنصّات الأدبية، وقد يحارب في معيشته اليومية بهدف إذلاله، وقد توجّه له تهمة خطيرة ويودع في السّجن لسنوات، كما حدث لأحد المدونينالمغاربة
أكثر الأدباء والشُّعراء العرب أدلوا بدلائهم في السِّياسة، ولكن أولئك الذين انتقدوا السلطات بلادهم دفعوا الأثمان، بعضهم لم يستطيع أن يبقى في بلده وهاجر.
قد يرى أديب أنَّ من مسؤوليته بالذات كأديب أن يعطي رأيه في المواضيع السياسية، وأنّه لا حق له بأن يبقى محايدًا في الصراعات السياسية التي تحدد وجه وصورة بلده، وسيكون الأمر أكثر إلحاحا عندما يكون شعبه رازحًا تحت احتلال أجنبي ويتعرض إلى شتى أصناف المَحو.
الكتاب العالميون الكبار كتبوا في السّياسة، فقدموا السياسة بقوالب أدبية مشوّقة، مثل الكولومبي غابرئيل جارسيا ماركيز، الذي نجد في رواياته تفاصيل حياة مطعمة بالسّياسة في ظل أنظمة دكتاتورية حكمت مختلف دول أمريكا اللاتينية حقبة طويلة من الزمن، فنجد رواية "خريف البطريرك" التي تتحدث عن دكتاتور في آخر أيام حكمه، والدكتاتور في متاهته، و"ليس لدى الكولونيل من يكاتبه"، و"مئة عام من العزلة" والكثير من القصص القصيرة التي تتطرق إلى الفساد السِّياسي الذي تتبعه بالضرورة كلُّ ألوان الفساد.
كذلك نجد الشاعر بابلو نيرودا، والروائي الناقد ماريو فارغاس يوسا في حفلة التيس. في الأدب الفلسطيني عشرات الأسماء التي لمعت أدبيًا، ولكنها لم تنتقل إلى السياسة من الأدب بل كانت متورّطة منذ بداياتها في السياسة، ويمكن القول أن جميع الكتاب الفلسطينيين البارزين تورّطوا في السياسة، إذ لا يمكن لأديب حقيقي أن يتجاهل ما يجري أمام عينيه وسمعه لشعبه وله شخصيًا ثم يجلس كمراقب محايد، أو أن يتحدث بلغة مبهمة ذات تأويلات كثيرة أو أنها غامضة إلى درجة الإبهام والاستعصاء على التفسير.
الأديب الصدق هو ابن بيئته، والبيئة الفلسطينية غابة من السياسة اليومية المستمرّة منذ عقود، ولا مجال للتهرّب منها، لأن الهروب يعني الخروج من حياة شعبك، وهذا يعني الخروج من السّاحة الأدبية ، فلا أدب فلسطيني من غير سياسة، بغضّ النظر عن موقف الأديب من تفاصيل السياسة أو موقفه من هذا الفصيل أو ذاك أو رؤيته الأيديولوجية وقناعاته، إلا أنّه لا يستطيع الوقوف جانبًا والتظاهر بالعمى والصمم والحيادية وأن يبقى في الوقت ذاته أديبًا.
بلا شك أن الكتابة في الشأن السياسي تحمل بعض المتاعب، وهذا يختلف من بلد إلى آخر، قد تؤثّر على المستوى الأدبي للكاتب إذا ما لم يفصل بين الأجناس الأدبية، وخصوصًا بين التحقيقات الصحافية والرواية أو النوفيلا، أو بين القصة القصيرة والمقالة، أو عدم التوفيق بين الواقع وما يجنح به خياله الإبداعي.
وقد تؤثر عليه بما هو أشد وأقسى، ففي بعض البلدان يقاطَع الأديب المعارض للسلطة أو غير المتحيز لها، ويُحرم من المنصّات الأدبية، وقد يحارب في معيشته اليومية بهدف إذلاله، وقد توجّه له تهمة خطيرة ويودع في السّجن لسنوات، كما حدث لأحد المدونين المغاربة الذي استقبل في مطار الرباط في بلاده، وسيق إلى السجن لمدة خمس سنوات لأنه انتقد التطبيع مع إسرائيل.
فقد وُجهت للمدوّن المغربي سعيد بوكيوض تهمة تستند إلى قانون يعاقب على "الإساءة للإسلام أو للنظام الملكي ولوحدة تراب الوطن"، طبعا لا يوجد أي إساءة هنا للإسلام ولا يوجد أي مسّ بوحدة تراب الوطن، ولم يتعرّض الرجل لنظام بلاده، كل ما في الأمر أنّه تعرّض للتطبيع وهاجمه، فحُكم بالسجن الفعلي لخمس سنوات.
وما سجن المدوّن سعيد بوكيوض سوى نموذج واحد من عشرات آلاف النماذج في الوطن العربي. وهذا نموذج لأنظمة القمع التي لا تتحمل تدوينة تنتقد سياستها أو تتعارض مع معها.
من ناحية أخرى فإن هناك من يتسلقون الأدب من خلال التعبير عن موقف أو تبني موقف سياسي يعبرون عنه بما يسمى بفجاجة شعرًا أو قصّة، فيسيئون للشعر وللقصة وللموقف السياسي، ولهؤلاء يفضل أن يكتبوا المقالة المباشرة، فقد يبدعون فيها في التعبير عن مواقفهم السياسية دونما إساءة للأدب، كذلك يحق للأديب الفلسطيني أو غيره أن يكتب في مواضيع ليست سياسية ولكن أن يكون صادقا فيها دون تهرّب من سياسة قد يجدها في أبسط الأمور الحياتية.