منذ مِئة يومٍ وأكثر وأنا أحاول الوصول إلى عمق إحساس صديقي الخبير القانوني المحامي محمد قطيشات وهو يستسلم للقدر حينما اختار والديه للتجهّز لرحلة الموت..!
كيف لرجل مهما بلغت قوته أن يتهيّأ لوادع أبيه وأُمّه تباعًا والفرق بينهما شهر.؟! شهر واحد يتحوّل فيها «الخبير محمد» إلى «التائه» الذي لا يلوي على شيء ولولا إيمانه بحقّ الله في رجعة البشر إليه لضاع «الولدُ» الذي كان قبل قليل يدخل المطبخ يفتّش في طناجر أمّه أو يقف أمام أبيه طلبًا للمصروف ..!
يوم العيد الأوّل؛ لم يخطر ببالي إلّا «محمد قطيشات». لم يمرّ سوى شهر على وفاة أبيه ومن خلال تواصلي معه وصلتني شدّة لوعته؛ خصوصًا وأن أمّه تنتظر ذات الرحلة ولكن توقيتها بعلم الله.. قال لي: هي الآن بحاجة الدعاء فقط.. صوته متهدّج.. ليس ذلك «المحمّد» الضاحك المنطلق المتكلّم.. هناك فواصل ووقفات بين الجمل والكلمات.. هناك اليقين الذي ينتظره...!
قد تكون أقلّ من ساعة حتى قرأت النعي.. يا له من عيد ...! ماذا يفعل «محمد» بهذه اللحظة.. ولمن لا يعرف محمدًا عن قرب فهو كثير العاطفة وعاصفة إنسانية لا تهدأ.. لم أجرؤ على الاتصال به.. لا أريد صوتًا متهدجًا ولا دموعًا غالبة.. أريده أن يركن للصمت الآن ويعيش لحظته الفارقة.. وما أظنه فعل...!
حين قرأتُ رثاءه لأمّه.. لم أصدّق أنه كتب هذه القطعة الأدبية؛ هو خبير في كتابة المرافعات القانونية ولم أعهده يكتب أدبًا مليئًا بالكهرباء، لكنه «اليُتم على كِبَر» الذي هبط عليه وشعوره لحظتها أنه «ولد» يحتاج إلى حجر أمّه كي يضع رأسه هناك كي يرتاح بسهمدة أصابعها على شعره..! إنه الوجدان الذي فجّر في داخله كل هذا الرثاء الحزين وكتب عنه بالدموع الغارقات ذلك النصّ اليتيم مثله.
لله أنت يا صديقي.. ورحم الله أباك وأُمّك.. عش حزنك واستمتع به .. نعم استمتع بحزنك.. وتذكّر أن الاستمتاع بالحزن لا يكون بالانشغال فيه عمّن تحزن عليهما بل بأن تشعر أنّهما موجودان يريانك فتعمل ما كانا يريدانك أن تكونه.. وأن تفرحهما بإنجازاتك القادمة..!
أرجو من الجميع الترحّم على والدي محمد فهو لا يريد سوى الدعاء لهما.. قلبي يتفطّر معك وعليك. فانهض أيها الخبير.