" من أراد أن يفهمنا عليه أن يدرك أننا نفكر " ، نقش الحكيم هذه المقولة مبكراً بما يتقاطع مع مقولة لينين " تحليل ملموس للواقع الملموس " وأن " النظرية مرشد للعمل لا عقيدة جامدة " ...
فالحكيم الذي أثار أسئلة فكرية وسياسية مركبة مستوحاة من الظروف المعقدة والمركبة ، راح يبحث عن الإجابات كعملية عقلية طليقة وحوارية مع رفقائه والقوى الفاعلة وكمونولوج ذاتي ( يفضل أن تخلو بنفسك وتفكر أثناء المشي ولو داخل حجرة مغلقة " وكديالوج مع الواقع ومعطياته ومتغيراته ، فهو دائم التفكير " بعد تفكير بعمق " ينصهر فيها الذاتي والموضوعي " من المعرفة الحسية إلى المعرفة المنطقية " و " الإبداع ، يستخرج ( هذه مفردة يستخدمها كثيراً ) أستخلاصات وتحليلات ... ويحاور ويصغي بعمق للآخرين ، وفي أغلب الأحيان يتكلم بعد الأخرين. فسلاحه ، أولاً ، العقل ، لكن " حزب الطليعة يسترشد بنظرية الطليعة " لينين ، وعلينا أن نفهم " ما هو جوهري في الماركسية وما قيل في زمان ومكان محددين ,,, علاوة على أستيعاب المتغيرات " فديالكتيك النظريه يفرضه ديالكيتك الواقع " ، تنتقد نفسها وتطور نفسها دون توقف ، فهي ليست نصاً مقدساً ولا نهائياً ، وكل شيء في حركه ..." علينا أن نكون ديالكتيكيين " كاسترو . حيث درس الحكيم التجربة الكوبية والتقى بالرئيس الكوبي مرات ... فعقل الحكيم مرتبط بالممارسة ودروسها رغم دراساته المتنوعة وثقافته الغزيرة في مختلف الميادين ... ولأنه كذلك لم تستهوه الجمل الجاهزة ولا المواقف المستوحاة من الآخرين.
إذ رغم انتقاله إلى المواقع الفكرية اليسارية الماركسية – اللينينية ، ودعوته الثابتة للتحالف مع المعسكر الاشتراكي المناهض للامبريالية... كان على خلاف في عدة قضايا محورية مع الاتحاد السوفييتي:
1- الموقف من إسرائيل ، حيث كان الاتحاد السوفييتي الدولة الثانية التي تعترف بإسرائيل بعد الإعلان عنها عام 1948 ، خلافاً للموقف السوفييتي قبل عامين الذي اعتبر من المتعذر تقسيم فلسطين نظراً للتداخل الاقتصادي – الجغرافي بين المجتمعين العربي الفلسطيني الذي يشكل ثلثي السكان واليهودي الذي أصبح ثلث السكان ... فيما تحدث حبش عن " الجسم الغريب " "الكولونيالي والعنصري " الذي " استحدث المعضلة الفلسطينية " و " مصدر الحروب في المنطقة " الذي " لن يتعايش معه التاريخ " كما " نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا "... داعياً " لدولة ديموقراطية في فلسطين " وما تخلل ذلك من أشكال نضالية ...
2- الموقف من الأمة العربية والوحدة العربيه تشكل هذه المصطلحات ركنا ركينا وأهداف عظمى في مشروعه الفكري – السياسي ... وراح يتحدث لاحقا عن استنفاد المشروع القطري لطاقته التقدمية ، وأن لا مخرج من " التجزئه والتخلف " إلا بإقامة الدولة القومية... وثمة ثلاثة أبعاد :
أ – التدرج طالما أن الوحدة الفورية غير متاحة ، خليجية ، مشرقية، مغاربية .... في تجاه اتحادي أو وحدوي ، اقتصادي نحو " سوق مشتركة " وسياسي نحو سلطة مركزية.
ب- الديموقراطية ، فهي شرط لازم وضروة تاريخية ، ودونها لن تستمر أية صيغ وحدوية ، بما تعنيه الديموقراطية من مواطنة وتعددية وسلطة قانون وفصل سلطات ... وأيضا ديموقراطية اجتماعية.
ج – المضمون الطبقي ، فالقوى الاجتماعية التقليدية والبرجوازية القطرية عاجزة عن إقامة دولة الوحدة ناهيكم أن مصالحها الضيقة المحلية وارتباطاتها الخارجية تتناقض معها ، وبالتالي فالطبقات الشعبية من عمال وفلاحين ومثقفين وبرجوازيه صغيرة هي القادرة على تحقيقها كعملية نضالية مديدة.
3- التطور اللارأسمالي : فالاتحاد السوفييتي ابتكر هذه النظرية مسوغاً علاقاته مع العديد من البلدان في العالم الثالث ، بما في ذلك عدد من الأقطار العربية ، التي تنتهج سياسه ولا تدور في الفلك الإمبريالي ، كالهند ومصر و العراق .... وفي مرحله غورباتشوف دعا الأنظمه في العالم الثالث للتصالح مع الرأسماليه ( المركز الإمبريالي ) .
أما حبش فقال بأن لا خيار أمام العالم الثالث إلا التنميه بالاتجاه الاشتراكي بما يشترطه ذلك من قيادة طبقية ثورية على الطريقة الكوبية والفيتنامية، وبالتالي فالصراع مفتوح مع الإمبريالية والقوى الاجتماعية المحلية المرتبطة بها ( كراكيز الإمبرياليه ) أو ستنهج بلدان العالم الثالث الطريق الرأسمالي الممحوط، وبالتالي ستدور في الفلك الإمبريالي بما يعنيه ذلك من نهب لثرواتها وحجز لطريق تطورها.
وعليه ابتكر حبش قانون "التحالف والصراع" مع الأنظمه " البرجوازية القومية "، وقال بأن قانون تطور قوى الإنتاج سيقود هذه البلدان نحو الرأسمالية التابعة ، وليس التطور اللا رأسمالي ، في ضوء ما ستشهده القوى الاقتصادية – الاجتماعية من تحولات باتجاه كومبرادوري وبيروقراطي ... وجاءت التحولات في مصر مصداقاً لرؤيته وتتوجت في كامب ديفيد 1978.
الماركسية ، أساساً ، هي نظرية الصراع الطبقي في البلدان الرأسمالية ، دون نسيان إضافة لينين عن النضال الوطني ضد الاستعمار ، فتم تحويل شعار البيان الشيوعي " يا عمال العالم اتحدوا " على أيدي لينين إلى " يا عمال العمال وشعوبه المضطهده اتحدي". وكان للمنظرين الماركسيين إضافات وإبداعات أيضا، أي كيف حضر الصراع الطبقي؟ وكيف حضر النضال الوطني في بلدانهم؟ وكيف فهموا خصوصية أوضاعهم؟ هنا أضاف الحكيم.
دأباً على النهج التجديدي والاجتهادي بادر حبش في أواخر 1969 لتأسيس حزب العمل الاشتراكي العربي كحزب ماركسي – لينيني امتد في معظم البلدان العربيه ... متوافقاً في ذلك مع أطروحه لينين بإقامه حزب العمال الاشتراكي الديموقراطي في روسيا (وليس الروسي)، الذي قاد ثورة أكتوبر لاحقاً ، ومتقاطعاَ مع تنظيرات المفكر العربي الماركسي إلياس مرقص وهو صديق له في مؤلفه " الحزب البروليتاري العربي ".
وفي أواخر السبعينات راح يسعى لإقامه جبهه تقدمية عربية ، الشيء الذي وجد صداه في بند برنامجي صريح في قرارات مؤتمر الجبهه الشعبيه الرابع 1981 ، دون أن يقطع صلاته بالمؤتمرات القومية الشعبية التي تضم كافه ألوان الطيف السياسي والفكري والمدني .
أما على صعيد فلسطين فقاد الجبهة الشعبية كفصيلة يسارية ماركسية – لينينية فدائية ترفض القرار 242 وتسهم مع سواها من الفصائل المقاتلة في اجتراح المأثره الثورية المعاصرة ، وبقي أميناً ومؤتمناً على هذه المأثرة دون التهيب أو التردد في خوض كل المعارك الفكرية والسياسية والإعلامية مع النهج الذي أوصل المسيرة الفلسطينية إلى أوسلو ... بما نتج عن ذلك من حصار وعقوبات ماليه ... بل وأرسى قيماً حضاريه في إداره التناقضات الداخلية محرّماً اللجوء للسلاح مميزاً بين جملة التناقضات ( الأساس والرئيس والثانوي والعارض والمؤقت ..) في مقاربة حيوية لفهم الملموس وجدليته ... ولم يكن صدفه أن ينأى عن أية صراعات داخليه دمويه.
وللذود عن المسيره التحرريه وتكريس الهويه الوطنيه وتوحيد إراده الشعب جمع النقيضين :
أ – الذود عن م . ت . ف.
ب – السعي لحمايتها من الانزلاق والتصدي للهيمنه والقرار الفردي وشطب الميثاق. داعياً لإعادة بنائها كمرجعية شاملة تضم كافة المركبات على أسس ديموقراطية ... وفي حديثه عن قوى الإسلام السياسي ميّز بين " إسلام تقدمي " يتصادم مع الإمبرياليه وإسرائيل وبين " إسلام رجعي " معتبراً الإيمان مسألة ضميرية شخصية ، وإن كان علمانيا يسعى لدولة مرجعيتها القوانين التي تصنعها السلطات التشريعية وما هو راهن في الإرث الديني لا النص الجامد سواء كان دينياً أو غير ديني ... فالحياة متغيرة وكل شيء متغير.
من منطق الأشياء أن ينظر للحكيم كرمز لامع من رموز حركه التحرر العربية والفلسطينية ، رمز يحلق في سماء الأحلام الثورية ، فهو حالم كبير ، يبث الثقة بمن حوله ولا يعرف الاستسلام واليأس والتشاؤم ، دائم الانشغال بسؤال ما العمل؟ و ما يتصل بالغد . حتى أنه حينما أسس " مركز الغد العربي " وكنت أحد المشاركين في مجلس إدارته، كان باعثه الأساس الإجابه عن سؤال: لماذا أخفقنا وما العمل؟ بما يتطلبه ذلك من دراسات معمقة ... وفي هذا السياق صدر كتاب ( إسرائيل من الداخل ) كما نشرت عائلته كتاب ( الثوريون لا يموتون أبداً ) بما يشبه مذكرات مقتضبة يجيب فيها عن أسئلة صحافية محدودة، حيث تتجلى لغته الطبقية والوطنية والقومية وملامح من مشروعه السياسي – الفكري الذي ينأى عن النخبوية والتراخي والزئبقية والمراوغات البهلوانية و " يا وحدنا " والأذدناب للنظام الرسمي والمشروع الأمريكي.
لقد أصبحت مسيرة الحكيم صفحة في التاريخ العربي المعاصر ، وعامل في صناعة التاريخ .... وبرسوخه على أهدافه وأستشعاره لمسؤوليتة السياسية الممزوجة بأخلاقية الفضيلة، إنما أرسى قوة مثال محرضة ومرشدة لمن يدافع عن هويته الوطنية في إطار هويته القومية ، ولمن ينتمي لهويته الفكرية اليسارية المستندة لهويته الثقافية التاريخية.