اخبار البلد -
تاريخياً، في سجل رؤساء الحكومات البريطانيين السابقين ترك كلُ واحدٍ منهم أثراً يميّزه عن غيره، سلباً أو إيجاباً، وصار عَلماً عليه، ويُعرف به لدى المؤرخين والباحثين والعموم. على سبيل المثال، الزعيم ونستون تشرشل تمثَّل إرثُه أو ما يُسمى في الإنجليزية (Legacy) بهزيمة ألمانيا النازية. فما من مرةٍ يُؤتى على ذكر تلك الحرب المهلكة، إلا ويطفو اسمُه مضيئاً في الذاكرة، وفي الأحاديث. خلال الفترة الزمنية الحالية، والسكاكين تُشحذ وتُشهر علناً، في وضح النهار، للإجهاز نهائياً على حكم رئيس الوزراء الحالي السيد بوريس جونسون، حمدتُ الله أنني لست مؤرخاً معنياً بتتبُّع سِير رؤساء الحكومات. إذ لو كنت واحداً منهم لوقعت، بلا ريب، أسيراً للحيرة ورهيناً للارتباك، حول الإرث الذي من الممكن أن أصفَ به فترة حكم السيد جونسون، عقب إسدال الستار نهائياً عليه، وخروجه من المسرح.
هناك، بلا شكٍ، علاماتٌ في الطريق لا تخطئها العين. أكثرها وضوحاً أنَّه كان رئيس الحكومة التي أنجزت الطلاق النهائي مع الاتحاد الأوروبي، وحقَّقت «بريكست». وهو - بطبيعة الحال - أمرٌ يحسب له لدى البعض من أنصار الانفصال، ويسجل ضده لدى البعض الآخر من أنصار البقاء. لكنَّه، في هذا الأمر، حقَّق ما عجز عن تحقيقه اثنان من رؤساء الحكومات الذين سبقوه، وهما ديفيد كاميرون وتيريزا ماي. فهل سيعرف فيما بعد بهذا الإرث؟ أم أنَّه سيكون رئيس الحكومة الذي قاد المعركة ضد الوباء الفيروسي؟ أو رئيس الحكومة الذي بسذاجة أطلق النار على نفسه بخرق القانون، ثم تظاهر بالبراءة؟
لا أعتقد أنَّ الإجابة عن السؤال أعلاه ستكون بنعم قاطعة. لأنَّ المثل يقول الأعمال بخواتيمها. والخاتمة التي نراها، هذه الأيام، (ممثلة في خرق القانون) تلتف أنشوطتُها حول رقبة السيد جونسون، لا يمكن على مؤرخ تجاهلها مهما كان متعاطفاً مع السيد جونسون. بل ربما تجعله يفكر حتى في غض الطرف على ما حققه في إنجاز «بريكست».
في عالم السياسة البريطانية وأهلها فإنَّ الهامش المتاح لارتكاب أخطاء يعدّ صغيراً. والتسامح عُملة لا وجود لها. والقاعدة أنَّ من يخطئ يدفع الثمن، فورياً ونقداً.
الأثمان تتميَّز باختلاف الأخطاء. حين أخطأ السيد ديفيد كاميرون بالرضوخ لنواب حزبه المناوئين لوجود بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، ووعدهم طوعياً وكان ممكناً له تجاهلهم، بإجراء استفتاء في حالة الفوز بالانتخابات عام 2015. اضطر مرغماً لدفع الثمن بتقديم استقالته حالما ظهرت نتيجة الاستفتاء. وحين أخطأ الزعيم العمالي توني بلير بقراره الدخولَ في حرب ضد العراق، اضطر كذلك لدفع الثمن، وتنازل مكرهاً عن منصبه لمنافسه غوردن براون. السيدة ثاتشر أيضاً دفعت ثمناً باهظاً نتيجة عنادها على فرض ضريبة الرأس، فطارت رأسُها. وحالياً، فإن رأس رئيس الحكومة السيد جونسون عرضة لأن يطير. والسبب لم يعد خافياً على أحد. وتقرير السيدة سو جراي المتعلق بخرق القانون فيما يخص حظر الاجتماع، لوقاية من الوباء «كوفيد»، أدَّى إلى دخول الشرطة على الخط، وهي الآن من تتولى التحقيق في الخروقات القانونية التي تمَّت داخل مقر رئيس الوزراء وبعلمه، وبعضها بحضوره، بإقامة حفلات، في وقت حُرم فيه المواطنون من زيارة ذويهم ومرضاهم. وتدخل الشرطة في أمر لا يعدّ سهلاً حتى في أصغر المواضيع شأناً، فما بالك في أمر يتعلق بخرق رئيس حكومة لقانون من وضعه.
وها هي، حالياً، أنصال السكاكين تلمع براقة، وقد أُشهرتْ علناً في وجهه وليس خفية من وراء ظهره، وكلها على استعداد لإلحاق الضربة القاضية به، وهو يعلم ذلك، ولا ملجأ له يحميه منها. هناك مثل إنجليزي يقول إنَّ من يوجّه الطعنة القاتلة لا يرتدي التاج. وما نعرفه من التقارير الإعلامية أن من يسعون لوضع التاج على رؤوسهم لا يحملون سكاكين. لكنهم بطريقة ما يضعون مسافات بينهم وبين تصرفات السيد جونسون المخالفة للقانون، ويسيّجونها بتصريحات لوسائل الإعلام، تعدّ في العرف السياسي وقاموسه المتوارث قاتلة، لكنها تختلف على ضراوة الطعنات. بمعنى أنها دائماً تأتي مرفوقة بأسفٍ وابتسامات لا يصعب على أهل العلم تفسيرها.
وسواءٌ نجح السيد جونسون في الخروج من المعركة برأس سليمة أم لا، فإنَّ آثار هذه الأزمة سوف تظل عالقة في سيرة خروجه لدى تناولها مستقبلاً من قبل المؤرخين والباحثين. وأنَّ خروجه منها سالماً أمرٌ مشكوكٌ فيه، ومن المحتمل أن تكون الخاتمة. وحتى في حالة بقائه في 10 داوننغ ستريت، فإن مسألة إطاحته قادمة لا محالة. أولاً، لأنَّ خصومه اشتموا الدم. وثانياً، لأنَّه منحهم السيف الذي سيقطعونه به إرباً.
خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي، نشرت إحدى الصحف الرئيسية تقريراً على صفحتها الأولى ذكرت فيه أن السيد جونسون مصرٌّ على البقاء في منصبه لمواصلة القتال. وفي الحقيقة فإن السيد جونسون ليس بقوة السيدة ثاتشر، ومع ذلك، خسرت معركة البقاء، التي قادها، آنذاك، منافسها النائب سابقاً مايكل هيزلتاين، وأدَّت إلى خروجها من المسرح، لكن التاج حطَّ فوق رأس جون ميجر.