اخبار البلد -
كانت قد بدأت تشعرُ بالضّيق حين أسهبَ الرّجلُ أمامها في سردِ حكايةٍ طويلة مملّة … لتتصنّعَ الإنصاتَ وهي تتلفّتُ حولها بضجر بحثاً عن خلاص من البثّ المتواصل الذي بدا لها بلا نهاية!
صمتَ أخيراً، فلم تعلّق خشيةَ أن يجدَها فرصةً للاستطراد، استأذنته، ومضت مبتعدة، وهي تتبادلُ الابتساماتِ مع الآخرين، دون أن تجد وجهاً مألوفاً لها يجذبُها إلى التّوقّف، لتتساءل بحيْرة عن الجدوى من حفلات الاستقبال هذه، التي يغادرُها المرءُ مُنهكَاً من الوقوف، ومن المجاملات، ومتعباً من الإنصات إلى عشّاق الكلام… فقرّرت الانصراف، خاصّة حين لمحت الرّجلَ الأوّل يقتربُ من بعيد، إذ ارتعدت من إمكانية أن يفتحَ معها موضوعاً جديداً مثلَ السّابق!
في تلك الّلحظة، وصلها صوتٌ تعرفه… صوت أثيرٌ يموجُ صداه في ذاكرتها بين الحين والآخر!
تلفّتت حولها، فلمحته… كان منهمكاً في الحديث مع آخرين، دقَّ قلبُها بعنف، ولم تعلم ماذا عليها أن تفعل، هل تنسحبُ بهدوء؟ أم تشعرُه بوجودها؟
وحتى يُلهمَها عقلُها بالقرار الأصح، وحتى يكفَّ قلبُها عن التوثّب… شغلت نفسَها بمراقبته، كان الزّمنُ قد مرَّ على ملامحه برفق، فما تزال عيناه عميقتين حانيتين، وما تزال ابتسامتُه سريعةً مقتضبة، انحنى ظهرُه قليلاً، وزار الشّيبُ الجميلُ رأسَه، لكنَّ جبهتَه ما تزال وضّاءةً عالية، وما زال ساحراً… وطاغيَ الحضور!
أفاقت من تأمّلاتها على قرارٍ عقلاني حكيم يدعوها للمغادرة فوراً… فانطلقت مبتعدةً وهي تردّدُ بأسف: " خيراً فعلت، كيف يمكن أن أواجهَه بعد كلِّ تلك السّنين الطّويلة؟ كم كنتُ ساذجة، كيف أضعتُ أجملَ قصّة حبٍّ في مشاجرةٍ بلهاء، لمّا أعلنتُ عليه الغضبَ لسببٍ تافه ونحن على وشك الارتباط، حين حسبتُ أنّه فعلَ ما جرحَ كبريائي… هلا كبرياء… أفقتُ على حماقتي متأخّرة بعد أن قرّرَ هو تركَ البلد، وها أنا قد دفعتُ الثّمن، فلم أوفّق في أيّ علاقةٍ بعده، ولم يعدْ في العمر متّسعٌ لمحاولاتٍ جديدةٍ من أيّ نوع…”
كانت تسيرُ على غير هدى غيرَ آبهةٍ بلسعات البرد، لتضيف: " بدا لي سعيداً، من المؤكّد أنّه تزوّجَ وأنجبَ واستقرّ، ونسيَ حكايتَنا تماماً… إلهي ما أغباني… الآن أدركت، وبعد فوات الأوان، أنّي لم، ولن أحبَّ غيرَه!”
في لحظةٍ ما، أفاقت من شرودِها على حركةٍ وراءها، التفتت، فكان هو…
قال لاهثاً: " ما تزالين سريعةً في المشي، أرهقتيني!” سعلَ مرّتين ليضيف: " لمحتكِ هناك، ثمَّ اختفيتِ فجأة، والحمدُ لله أنّي وجدتكِ، لكن لمَ تبدين هاربةً من أمرٍ ما؟”
ابتسمت محاولةً إخفاءَ توتّرها، وتلعثمت بكلماتٍ لا معنى لها، في حين كان يستمعُ إليها ويقول لنفسه: " ما تزال جميلةً رغم تقدّمها في العمر، كم عشقتُ هاتين العينين… كم أسرتْني هذه اللفتات الخجولة، وهذه الابتسامةُ التي كانت تشرقُ في روحي… كلُّ ما أحببته فيها ما يزال موجوداً…”
ثمَّ أفاق على نفسِه ليستأذن بالمغادرة ويقول: " أحببتُ أن أسلّمَ عليكِ لا غير…”
وابتعد وعيناها متعلّقتان به، ابتعدَ وهو يشعرُ بقلبه طائراً عنيداً مصرّا على المكوث، والرّفرفة حولها، ليتمتمَ : " ما أغباني، كيف أضعتُها؟ كان عليّ أن أحتويَ غضبَها في شجارنا إيّاه، وأن أتخلّى عن كبريائي المزعوم… ها أنا أدفعُ الثّمن، فلم تنجح محاولاتي في خوض علاقةٍ بديلة بعد تجربتي معها، وحكمتُ على نفسي بالوحدة حتى آخرِ العمر…”
جلسَ مُطرقاً على أحد مقاعد الرّصيف ليهمس بأسى: " تبدو لي هانئةً مستقرّة، لابدَّ أنّها تزوّجت وأنجبت، وصارت أمّاً، وربّما جدّة… لن أفسدَ عليها استقرارَها، حسناً فعلتُ أنّي ابتعدت، لكنّي أعرفُ تماماً أنّي لم، ولن أحبَّ غيرَها!