دخلت بالفعل هذه المحادثات جولتها الثامنة ولم تظهر بعد أي بوادر اتفاق بين الأطراف المتفاوضة. بينما يمكث الوفد الأمريكي في فندق في الشارع المقابل، يتفاوض الأوروبيون من أجل التوصل إلى صفقة سريعة على أساس رفع جزئي للعقوبات وتجميد تخصيب اليورانيوم والسماح للوكالة الدولية للطاقة الذرية بالتفتيش الكامل للمواقع النووية الإيرانية المشتبه بها.
من جانبهم، يريد الإيرانيون عودة كاملة إلى الصفقة المبرمة في عام 2015 ورفع جميع العقوبات المفروضة عليهم وضمانة أنَّ الولايات المتحدة لن تنسحب مُجدَّداً من الاتفاق في المستقبل ونظاماً للتحقّق يكفل الامتثال بالمسار المتفق عليه.
لكن أصعب ما يمكن تحقيقه من بين كل هذه الشروط هو نظام التحقّق. ترى الحكومة الإيرانية الحالية أنَّ الفشل الرئيسي للصفقة النووية الأصلية يعود بالأساس إلى عدم وجود نظام تحقّق، وهو ما سمح لإدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما بمواصلة العقوبات.
ثم جاء دونالد ترامب وقرر الانسحاب من الاتفاق النووي تحت ضغوط من رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك بنيامين نتنياهو، وبدأ سياسة "الضغط الأقصى" ضد إيران. وعلى الرغم من أنَّ جو بايدن تراجع عن الكثير من إجراءات ترامب خلال الأيام الأولى من تولّيه المنصب، لم يتراجع تماماً عن هذه السياسة المستمرة حتى يومنا هذا.
عصوان كبيرتان
يُلّوح الأوروبيون- بريطانيا وفرنسا وألمانيا والاتحاد الأوروبي- بما يتخيلون أنَّهما ورقتان ضغط كبيرتان في حال انهيار المحادثات. تتمثّل الورقة الأولى في العودة إلى عقوبات الأمم المتحدة، لأنَّه حينها لن تنهار محادثات فيينا فحسب، بل ستنهار أيضاً خطة العمل الشاملة المشتركة، المعروفة باسم "الاتفاق النووي الإيراني".
أما الورقة الثانية فهي "الخطة باء"، أي التهديد بشن ضربات جوية تنفذها إسرائيل بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية.
في الواقع، تُعتبر العقوبات المنصوص عليها من جانب الأمم المتحدة أضعف وأضيق نطاقاً، وهي قيد التنفيذ بالفعل في إطار العقوبات التي فرضها ترامب ضد إيران.
وبناءً عليه، لا تُشكّل عقوبات الأمم المتحدة ورقة ضغط بالنسبة لإيران. من ناحية أخرى، فإنَّ انهيار خطة العمل الشاملة المشتركة يعني طرد فرق التفتيش النووية التابعة للوكالة الدولية للطاقة الذرية من إيران.
كانت طهران قد علّقت حق الوكالة الدولية للطاقة الذرية بموجب الاتفاق النووي في إجراء عمليات تفتيش تدخُّلية على منشآتها النووية وأزالت أربع كاميرات تابعة للوكالة في مدينة كرج، حيث بُنيت أجهزة الطرد المركزي لتخصيب اليورانيوم، وذلك بعد عملية التخريب التي نفّذتها إسرائيل ضد الموقع في شهر يونيو/حزيران من العام الماضي. أعيد الآن تركيب هذه الكاميرات، لكنها لا ترسل أي بيانات إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
بينما يتعيَّن على إيران تسليم اللقطات المُصوّرة، التي خزَّنتها، إذا نجحت محادثات فيينا. لكن إذا انهار الاتفاق النووي الإيراني، فإنَّ الأدلة الحيوية الخاصة بتخصيب اليورانيوم سيجري تدميرها وسيعجز المفتشون النوويون الدوليون مرة أخرى عن معرفة أي شيء عن الأنشطة النووية الإيرانية.
ما هي الفائدة المرجوة من المواجهة؟
حرب أخرى؟
من المؤكد أنَّ خطوة تنفيذ ضربة جوية إسرائيلية على المنشآت النووية الإيرانية، وبالضرورة أيضاً على مراكز القيادة والتحكم والأنظمة الدفاعية التابعة لها، سوف تشعل نيران أكبر حرب إقليمية منذ غزو العراق في عام 2003. ستسفر هذه الحرب عن سقوط أعداد كبيرة من الضحايا المدنيين وتعطيل إنتاج النفط في منطقة الخليج وشن غارات جوية استباقية في جنوب لبنان وربما أيضاً في قطاع غزة.
ستطلق إيران ووكلاؤها مئات الصواريخ ضد منشآت نفطية في الخليج وكذلك ضد أهداف عسكرية في إسرائيل. لا ينبغي أبداً الاستهانة بخطر وقوع حرب أخرى في منطقة الشرق الأوسط، لأنَّ جزءاً كبيراً من تلك المنطقة قد بات بالفعل على وشك الانفجار. ولا أعتقد أنَّ الإدارة الإيرانية الجديدة بقيادة إبراهيم رئيسي تخادع حينما تقول إنَّها مستعدة لشن مثل هذه الضربات.
لذا، يتعيَّن على صقور حكومة إسرائيل قراءة الموقف قراءة متأنية واعية لتحليل التكلفة والعائد من توجيه ضربة عسكرية ضد إيران. لن تسمح أذربيجان للطائرات المقاتلة الإسرائيلية باستخدام مدارج مطاراتها لتنفيذ هجوم ضد إيران، على الرغم من أنَّ الطائرات الإسرائيلية بدون طيار كانت قد استخدمت تلك المدارج في مهمات تجسس داخل إيران.
هذا يترك الخيار مفتوحاً أمام توجيه ضربة مباشرة من داخل إسرائيل نفسها.
في تقرير نشرته صحيفةHa'aretzالإسرائيلية، يشير يوسي ميلمان، أحد الكُتّاب المساهمين في موقع Middle East Eye، إلى نقطة مهمة مفادها أنَّه حتى لو نجحت المقاتلات الإسرائيلية من طراز "إف-35" في التحليق فوق الأجواء العراقية والأردنية دون أن تُكتشف، وهذا احتمال يصعب تحقيقه، ستكون لديها فرصة واحدة فقط لتوجيه ضربة قاصمة ضد المنشآت النووية ومراكز القيادة والأنظمة الدفاعية التابعة لها.
وحتى لو نجحت تلك المهمة بنسبة 100%، فمن غير المرجح أن تسفر عن أي إنجاز بخلاف انتكاسة مؤقتة للبرنامج النووي الإيراني وستكون طهران قادرة على المضي قدماً فيه من جديد على نحوٍ أفضل، كما فعلت بعد كل عمل تخريبي أو حادثة اغتيال. كانت هذه هي النقطة الجوهرية التي أوضحتها إدارة بايدن لإسرائيل عندما استؤنفت المحادثات.
قالت الولايات المتحدة في ذلك الوقت إنَّ ضرب إيران يُمثّل انفراجة تكتيكية بالنسبة لإسرائيل، وليس انفراجة استراتيجية. علاوة على ذلك، سَيُنظر إلى رد إيران باعتباره استجابة انتقامية مشروعة لما واجهته من عمل عدائي من أعمال الحرب.
على الرغم من أنَّ طهران لم تعلن مسؤوليتها قط عن أي هجمات نفذتها، فقد أظهر الإيرانيون بالفعل حجم الضرر الكبير القادرين على إلحاقه بأي دولة عربية ساعدت في الهجوم عليهم، وذلك من خلال هجمات بطائرات بدون طيار وصواريخ كروز على منشأتي نفط تابعتين لشركة "أرامكو" السعودية وهجمات بألغام بحرية على ناقلات نفط قبالة السواحل الإماراتية في عام 2019.
يكفي معرفة أنَّ إنتاج النفط السعودي قد انخفض بمقدار النصف على مدار عدة أسابيع بعد هذا الهجوم. وهذا لا يتضمن ما يمكن أن تفعله الصواريخ الاستراتيجية الإيرانية والترسانة الصاروخية لحزب الله اللبناني إذا هاجمت أهداف داخل إسرائيل نفسها.
لا يوجد مَن يدرك مدى ضعف السعودية والإمارات أمام جارتهما الخليجية أكثر من الإماراتيين والسعوديين أنفسهم. منذ الهجمات الإيرانية على أهداف خليجية، تبذل أبوظبي والرياض كل ما في وسعهما ليكونا لطيفين مع إيران. تجدر الإشارة إلى أنَّ دولة الإمارات العربية المتحدة لم توجه إلى إيران اتهاماً رسمياً يخص الهجوم على ناقلات النفط قبالة سواحلها.
منذ ذلك الحين، وقّعت دولة الإمارات اتفاقاً مع إيران يسمح للإماراتيين بفتح طريق تجاري بري إلى أوروبا وتركيا عبر إيران يختصر زمن الرحلة من 20 يوماً إلى 7 أيام. في الوقت نفسه، تغيّرت النغمة العدائية السائدة في الرياض أيضاً.
براغماتية الخليج
قال وزير الخارجية السعودي، الأمير فيصل بن فرحان، في مؤتمر صحفي هذا الأسبوع إنَّ "العرب يَمدّون أيديهم إلى الإخوة في إيران في حال تجاوبهم مع معالجة الهموم العربية المُهدّدة لأمن المنطقة واستقرارها، من دعمها للميليشيات الإرهابية وسعيها لامتلاك السلاح النووي".
ثمة بعض التعجب من استخدام الوزير السعودي لكلمة "إخوة".
لا شك أنَّ هذه البراغماتية التي تظهرها أبوظبي، وبدرجة أقل الرياض، إزاء رغبتها في تطبيع العلاقات مع محور الدول التي سعت طوال العقدين الماضيين لسحقها- قطر وتركيا وإيران- قد قوَّضت إلى حدٍّ كبير الآمال بأن يؤدي التطبيع العربي مع إسرائيل إلى تشكيل محور نشط مناهض لإيران (الناتو العربي).
تتمثَّل إحدى الدلائل على تلك البراغماتية في نهج "خذ أو اترك" الذي تبنته دولة الإمارات إزاءصفقة خط أنابيب النفط مع إسرائيلالذي يُفترض أن ينقل النفط من إيلات إلى عسقلان. ثمة عدة أسباب لذلك- ليس أقلها التأثير السلبي لمثل هذه الصفقة على حركة المرور عبر قناة السويس، ولكن أيضاً العلاقات المتنامية بين أبوظبي مع طهران من ضمن هذه الأسباب.
كل هذا قبل أن نأتي إلى الرئيس جو بايدن.
فهل يمكن لأي رئيس دولة عصفت بها جائحة كوفيد-19، ولا تزال تعيش ذروة الأزمة، أن يبدأ طواعيةً حرباً في الشرق الأوسط ينجم عنها إطلاق صواريخ تحلّق في جميع أنحاء منطقة الخليج والشام؟ هل يستطيع أي رئيس أمريكي، يصب تركيزه على التعافي الاقتصادي الهش، أن يتحمّل ارتفاع أسعار النفط ضعفين إلى ثلاثة أضعاف نتيجة لذلك؟
الإجابة الواضحة على كلا السؤالين هي "لا". تتعرّض إيران للتهديد بأوراق ضغط تعلم تماماً أنَّه من غير المرجح أن تقرر واشنطن استخدامها.
نفاد أوراق الضغط
يتضح جلياً أنَّ الدبلوماسيين الأوروبيين والأمريكيين في فيينا قد خسروا جميع أوراق الضغط على إيران. لقد فرضوا على البلاد أسوأ ما يمكنهم فرضه من إجراءات عقابية. ومع ذلك، استطاعت إيران الصمود والنجاة، بل أصبحت أقوى. ولعل النقطة الأخطر التي ينبغي لصقور الحكومات الغربية الانتباه إليها هي رد الفعل المحتمل لروسيا والصين في حال انهيار محادثات فيينا. هذا هو أكبر اختلاف بين المحادثات النووية عام 2015 ومحادثات اليوم.
ويمتلك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الصيني شي جين بينغ مجموعة أسباب أخرى تمنعهما من الاصطفاف إلى جانب أوروبا وأمريكا. فقد تدهورت علاقتهما مع واشنطن إلى مستوى متدنٍّ يصعب عنده التعاون بشأن أي قضية.
فيما يطالب بوتين بانسحاب قوات حلف الناتو من شرق أوروبا بينما ينشر 90 ألف جندي روسي على أهبة الاستعداد لغزو أوكرانيا في منتصف الشتاء. يعتزم الرئيس الصيني إعادة توحيد تايوان مع البر الرئيسي. وكما اتّضح جلياً في محادثات فيينا، يحظى الوفد الإيراني بدعم واسع من كلتا القوتين.
على هذا النحو، غدت النزاعات الثلاثة مرتبطة ببعضها البعض ارتباطاً صريحاً.
سيتوجّه الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، إلى موسكو الشهر المقبل وسيسافر وزير خارجيته إلى الصين. هذا- على الأقل- يفتح الباب أمام احتمالية وجود رد من روسيا أو الصين- بطريقة ما- في حال شن هجوم ضد إيران. في غضون ذلك، نجد بايدن يوجه تهديدات لبوتين، مثل فصل روسيا عن نظام التعاملات المصرفية "سويفت" إذا غزت روسيا أوكرانيا، الأمر الذي قد يأتي بنتائج عكسية على أوروبا الغربية بأكملها. فكيف ستدفع ألمانيا ثمن الغاز الروسي، على افتراض أنَّها لا تزال تتلقاه؟ هل من خلال حمل حقائب مليئة بالدولارات عبر الحدود البولندية؟
في واقع الأمر، توجد أوراق الضغط الحقيقية في حوزة الزعيم الروسي، إذ يمتلك بوتين ونظيره الصيني القدرة على جعل الحياة عسيرة جداً على الصقور الغربيين. تدفع إجراءات الولايات المتحدة بروسيا والصين إلى أحضان بعضهما البعض، بدلاً من ترويضهما، ويخبرنا التاريخ أنَّهما ليسا حليفين طبيعيين. كانت الولايات المتحدة القائد المعترف به للمعسكر الذي دفع إيران لتقديم تنازلات في عام 2015. لكن هذا الوضع تغيّر الآن.
قال مصدر إيراني في فيينا لموقع Middle East Eye إنَّ "المشكلة تكمن في أنَّ الأوروبيين والأمريكيين يلعبون مع إيران لعبة الدجاجة، لكن لم يعد لديهم المزيد من أوراق اللعب. إذا كانت في جعبتهم عقوبات أشد من سياسة (الضغط الأقصى)، لكان ترامب قد فرضها. لقد نفدت منهم أوراق الضغط ".
ثمة حاجة إلى رئيس أمريكي حكيم وواثق من نفسه حتى يستطيع عكس المسار والتصرّف بذكاء مع إيران وروسيا والصين. لا يتمتع جو بايدن بأي من هذه الصفات، بالإضافة إلى أنَّ الإدارة الأمريكية الحالية تواجه سلسلة من التحديات المحلية التي تفوق قدراتها، ليس أقلها احتمالية عودة خصمها دونالد ترامب إلى السلطة في عام 2024.
وحتى لو قدّم فريق التفاوض الأمريكي في فيينا تنازلات بشأن العقوبات، فثمة شك في أنَّ يوافق الكونغرس على ذلك.
لا شك أنَّ الإصرار الإيراني على الضمانات والتحقّق إصراراً حقيقياً وليس مجرد كلام. ما لم تحدث معجزة في فيينا، لن تكون الولايات المتحدة قادرة على قبول الحد الأدنى من شروط إيران وستقرر إيران أنَّها قادرة على الصمود أمام العواقب. ونتيجة لذلك، سيشهد العالم ميتة طبيعية لعمل توافقي نادر استغرق إنجازه خمس سنوات من التفاوض، وهو الاتفاق النووي الإيراني.
خلاصة القول أنَّ كل ما يطالب به فريق رئيسي هو في الأصل ما وافقت عليه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي سابقاً. إذا فشلت محادثات فيينا وانهار الاتفاق النووي الإيراني، فلن تقع مسؤولية حدوث ذلك على حسن روحاني أو إبراهيم رئيسي، لكن على باراك أوباما ودونالد ترامب وجو بايدن، فكل واحد من هؤلاء الرؤساء الأمريكيين ساهم في ذلك.