وهذه الرواية من حقه، فهي تجربته وحياته، لكن عليه أن تكون صادقا مع نفسه ومع الآخرين، وأن تروي قصصا تحاكي الواقع دون أن ينسب للآخرين أقولا لم يقولوها، أو أن يخترع حكايات وأحداث لم تقع، لأنها ستكون رواية متحيزة ولا يمكن تصحيحها خصوصا إذا كان من شاركوه التفاصيل قد ماتوا، أو لم يعدوا ذي صلة بالواقع.
في مراجعة بعض كتب السيرة الذاتية، تبدو الذات متضخمة، وتوحي لك الصفحات بأن ثمة "أنا " كبيرة ونافرة في كل صفحة، وتبدو الصفحات مبهمة تنقصها رواية الآخرين عن صاحبها.
وبعض كتب السيرة الذاتية يضع أصحابها أنفسهم في مركز الحدث مع أنهم كانوا فقط جزء من مشهد ضم كثيرين غيرهم، وأحيانا الشخصية الرئيسة في الحدث تتحول إلى عامل مساعد أو صاحب البطل في السينما العربية.
مثلا، جميع الذين كتبوا عن علاقتهم بالملك الحسين بن طلال، كتبوا عن ذاتهم وعن نصائحهم للملك، وكأن الملك هو الرجل الثاني، كتبوا عن أنفسهم بوصفهم أبطال الرواية، فيما الملك يستمع إليهم ويطمئن عليهم ويشعل لهم السيجارة، لا تشعر بأن الملك كرمز للدولة موجود في مذكراتهم، لا تشعر بأنه هو البطل في بعض التفاصيل حين يتحدثون عن مرحلة كانوا فيها قريبين منه.
لم أعثر، في مذكرات كثيرين، على معلومة خاصة لا يعرفها عامة الناس، أو أسرارا خفيت عنا، كل ما يكتب هو تكرار وسرد لأحداث معروفة، أو صياغة جديدة للحدث من زاوية صاحب السيرة التي هو بطلها، والآخرون يقفون إلى جواره لأخذ الصور التذكارية حتى لو كان الملك نفسه.
هذا ليس تقليلا من أهمية كتب السيرة الذاتية، لكنه محاولة للقول إن كتب المذكرات ليست ساحة للبطولات فقط، ليست للترفيه فقط، ولا يجوز أن تظهر فيها وكأنك ملاك لا يخطئ، هناك هزائم وخسائر وانتكاسات وأزمات ولحظات ضعف وانحناء، الإنكار هو مقتل كتب السيرة، إنكار أنك ربما، لم تكن بطل الفيلم أبدا، وأن شخصا أخر، بلغة السينما، سرق الكاميرا منك، في أحد المشاهد المهمة.
ربما تكون أفضل كتب السيرة الذاتية هي التي سيكتبها الآخرون عن قصتك، وأحسب أن أهم كتب السيرة التي كتبت على مر التاريخ هي التي كتبها "الغير" عن غيرهم، لأن مساحة الذات والنرجسية فيها تكون مقبولة وضمن سياقها في الأحداث والسرد. واستثني بعض ما كتبه أدباء عن أنفسهم لأن مذكراتهم كانت جزء من أرثهم الأدبي والثقافي وبدت كما لو كانت سيرة القارئ نفسه.
ثم أنت لست ملزما بكتابة مذكراتك، هل تعتقد أن الناس متشوقة لقراءة سيرتك الذاتية، وماذا لو لم تكتب "كتاب حياتك" هل كانت المكتبة العربية ستبكي فراغ مكان كتابك على أرففها!!
أخيرا، لست ضد كتابة المذكرات لكني لا أجد قيمة ثقافية فيها لأنها تخص صاحب السيرة وحده.