إذ فيما تعتبر الجزائر أن إسرائيل تشكل تهديدا لأمنها ومصالحها ترى المغرب فيها حليف إستراتيجي، وفيما يعتدي الطيران الإسرائيلي على سوريا يوميا تقريبا، تجري الإمارات والبحرين معها مناورات بحرية عسكرية مشتركة، وفيما لا زالت تحتل إسرائيل أراضي عربية وترفض الإنسحاب منها كفلسطين وهضبة الجولان السورية بما في ذلك أولى القبلتين وثالث الحرمين (القدس الشريف والمسجد الأقصى) تتحالف معها دول عربية ضمن ما يعرف بتطبيع العلاقات وإتفاقية أبراهام على عكس ما توافق عليه العرب جميعا في مبادرة السلام العربية العام 2002، وفي الأثناء يعاقب لبنان الذي هزمت مقاومته الجيش الذي لا يقهر لمجرد إنتقاد أحد وزرائه الحرب على اليمن.
في الواقع غياب تعريف محدد للأمن القومي العربي لا يعيب النظام العربي أو الباحثين العرب، لا سيما وأن مفهوم لأمن القومي يعتبر من المفاهيم الإشكالية التي يصعب تعريفها، بدليل غياب تعريف واضح ومتفق عليه للمفهوم في الوسط الأكاديمي، إلا أن المقصود بالمفهوم والمراد منه أصبح واضحاً لدى صناع القرار في الدول، إذ أن جل غايات المفهوم هي حماية الوطن حدود الوطن من اي إعتداء خارجي، وتوفير الأمن للإنسان طالما يعترف العرف والقانون أنه ينتمي لهذا الوطن.
وتجدر الإشارة هنا الى أن مجلس جامعة الدول العربية كان قد قرر بتاريخ 13 آذا 1990، وعلى اثر إطلاق صاروخ إسرائيلي قبالة الساحل الليبي، تكليف الأمانة العامة بتطوير دراسة شمولية عن موضوع الأمن القومي العربي وعرضها على الدول الأعضاء لدراستها من قبل مجلس الجامعة في دورته العادية القادمة.
وفيما أظهر القرار أن إطلاق الصاروخ الإسرائيلي قبالة السواحل الليبية كان المحرك الأساس لصياغة دراسة شاملة للأمن القومي العربي، إلا أن نص القرار قد كشف في نفس الوقت غياب تعريف للمفهوم عن ميثاق الجامعة ومعاهدة الدفاع المشترك والتعاون الإقتصادي لعام 1950.
وتعتبر الورقة التي قدمتها الأمانة العامة للقمة العربية التي عقدت في بغداد بتاريخ 28/5/1990 هي الورقة الوحيدة التي وضعت تعريفا للأمن القومي العربي حيث حملت الورقة عنوان "الأمن القومي العربي.. عرض للتهديدات والتحديات”، وفي تطرقها للتهديدات إعتبرت الورقة أن الأخطار الخارجية تنبع من إستراتيجيات الدولتين العظميين في حينه الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد السوفيتي، ومن التغيرات الجذرية الجارية على النظام العالمي، وان التهديدت الإقليمية تتمثل في سياسات التوسع الإسرائيلي .
وبعد مرور ثلاثة عقود تقريباً على انعقاد قمة بغداد التي ناقشت ورقة الأمن القومي العربي والتي توافق عليها النظام العربي على تحديد مصادر التهديدات والتحديات، شهد العالم العربي تحولات جذرية كثيرة في المنطقة العربية، كان من أبرزها إنتقال إسرائيل من مصدر للتهديد الإقليمي للأمن القومي العربي إلى حليف وشريك إستراتيجي لبعض الدول العربية.
اللاقت هنا أن تحول إسرائيل من تهديد إلى شريك وحليف يجري في لحظة إقترن فيها إسم إسرائيل في ذهن الرأي العام العالمي بما في ذلك الرأي العام اليهودي بالتفرقة العنصرية والأبارتايد، الأمر الذي يجعل الدول العربية التي تحالفت مع إسرائيل وكأنها تتحالف وتتشارك مع الأبارتايد الذي يعتبر جريمة يعاقب عليها القانون.
صحيح أن الورقة التي قدمها مجلس الجامعة للأمانة العامة حول الأمن القومي في قمة بغداد قد تجنبت في مضمونها إثارة مواضيع تثير إعتراض الدول الأعضاء، لكنها قامت على إفتراض وحدة الشعوب ووحدة القيم واللغة والثقافة والجغرافيا والمعتقدات والآمال والطموحات والفكر، وجميعها قيم وحقائق ستبقى دائما أقوى وأصلب من رهان البعض على تحالفات ومعادلات تجارية وأمنية مع قوى دولية وإقليمية كانت ولا زالت هي مصادر التهديد الأساسي للوحدة والتنمية والإستقرار العربي، حيث لا زال الإفتراض الذي قامت عليه ورقة الأمن القومي المشار اليها أقوى وأصلب من كل الرهانات التي تغلب المصلحة الخاصة التي اعتقد البعض انها أقوى من الحقائق الجامعة، الأمر الذي يجعل من كل هذه التحالفات والمعاهدات قضايا عابرة لا مستقبل لهاتماما كما كان مصير تعهاهدات الممالك والإمارات الإسلامية مع مملكة القدس في وقت الحملات الصليبية.