هذا «بعض» ما كشفه مارتن إنديك, السفير الأميركي الأسبق في تل أبيب ومساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى, وخصوصاً المبعوث الخاصّ لباراك أوباما للمفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية 2013-2014، والتي انهارت منذ ذلك الحين حتّى الآن.. في كتابه الذي صدر قبل أسبوع والموسوم «سيّد اللّعبة». كتاب يدور حول كيسنجر الدبلوماسي والوزير وخاصةً دوره خلال وبعد حرب أكتوبر/73، ما دفع بإنديك إلى «إلقاء نظرة على مسيرة كيسنجر المِهنية، من خلال أبحاث أرشيفية مُوثّقة» على ما نقلت صحيفة جيروسالم بوست الإسرائيلية قبل يومين، في عرض لكتاب?إنديك الجديد الذي أجرى 12 مقابلة مع كيسنجر من أجل الكتب.
وإذ يكشف الدبلوماسي الأميركي/اليهودي الاسترالي الجنسية الذي حصل في وقت قياسي على الجنسية الأميركية وصعد في شكل غير مسبوق الى مناصب رسمية رفيعة, لم يحلم بها موظف أميركي طويل الخدمة، أنّه «اكتشف» على طول الطريق أنّ هناك «قدراً هائلاً من المواد في الأرشيف»، وأنّ كيسنجر وثّق كلّ شيء، كلّ مكالمة هاتفية، كلّ محادثة، كلّ اجتماع. وقد تمّ رفع السرّيّة عن 95% من ذلك. فإنّه/إنديك اعتبر أنّ «الكشف الكبير بالنسبة له هو أنّ كيسنجر, لم يكن يسعى في الواقع إلى السلام بين مصر وإسرائيل. كانت عملية السلام ــ يُضيف ــ التي بدأ?ا تهدف إلى تثبيت النظام الذي يُهيمِن عليه الأميركيون في المنطقة، والذي كان من وجهة نظره أكثر أهمية, لأنّه نظر إلى السلام بتشكك كبير من تجربته الخاصّة في الاسترضاء قبل الحرب العالمية الثانية.. لقد توصّل كيسنجر إلى الاعتقاد بأنّ السعي لتحقيق السلام مع الكثير من العاطفة، يمكن أن يُحققَ العكس تماماً، ويمكن أن يزعزع استقرار النظام في المنطقة، وهكذا بالنسبة له (كان السلام مشكلة وليس حلاً)، وكان يرى أنّ عملية السلام كانت ضرورية لتثبيت النظام».
لافتٌ أيضاً ما اكتشفه إنديك من وثائق الأرشيف الضخم الذي توفّر عليه, خاصّة الفرصة التي فوّتها كيسنجر في عام 1974، بعد أن تفاوَض على اتفاق فكّ الارتباط بين إسرائيل ومصر للتفاوض على فكّ الارتباط بين إسرائيل والأردن, والتي كانت ستعيد الأردن مرّة أخرى (والتعبير لإنديك) إلى الضفة الغربية، ما سيُوجِد إطار عمل لحلّ القضية الفلسطينية في سياق أردني.. مضيفاً «أنّ الكثير من الأردنيين حاولوا إقناعه بالانخراط، فقد قال للإسرائيليين مراراً وتكراراً.. الأمر متروكٌ لكم.. لن أضغطَ عليكم لكنّي لن أشارك، خاصّة -يستطرد إنديك- أ?ّه كان يُركّز على إخراج مصر من الصراع مع إسرائيل. مُفسِّراً.. أنّ تركيز كيسنجر على النظام المصري, كان بمثابة حجر الأساس في النظام الذي أنشأه بقيادة الولايات المتّحدة. معتبراً/كيسنجر.. خروج مصر من الصراع لن يُمكّن الدول العربية من أن تشنّ حرباً.
هنا يتوجّب التوقّف طويلاً وكثيراً أمام الحقائق التي تتكشف باضطراد, خاصة بعد رفع السرية عن الأرشيف الأميركي، الذي ظنّ كثيرون لفرط سذاجتهم أنّه سيبقى حبيس الخزائن والرفوف المعدنية، لنكتشف حجم المؤامرات التي لم تتوقف على القضية الفلسطينية تحديداً, وخاصةً على العرب في صراعهم مع العدو الصهيوني, عندما «تنبأ» كيسنجر أنّ الدول العربية ستقبل في النهاية بإسرائيل كما يقول إنديك، ليقول بعض العرب لاحقاً في تبريرهم للتطبيع مع العدو، إنّ الصراع أرهقهم وآن له أن ينتهي. أمّا كيف سينتهي؟ فإنهم لا يجيبون. ناهيك عن وقائع وملا?سات السلام المُنفرد الذي عقده السادات مع إسرائيل, في ظلّ ما كشفه إنديك بأنّ السادات أرسل مستشاره للأمن القومي إلى واشنطن لمقابلة وزير الخارجية كيسنجر في شباط 1973، قبل ثمانية أشهر فقط من حرب يوم الغفران (كما يصفها إنديك)، لافتاً إلى أنّ السادات أرسل مبعوثه بـ«مبادرة سلام بعيدة المدى وشعور بالإلحاح». إذ قال إنديك: لو كان كيسنجر قَبِل هذه الفكرة ودفع بها.. فمن المحتمل أنّه كان من الممكن تجنّب الحرب.
حان الوقت لإعادة كتابة تاريخ تلك الحقبة الخطيرة من الصراع, التي عمل كثيرون وخاصة دعاة التطبيع والترويج لفوائد السلام المزعوم مع العدو على الترويج لها, حتّى وجدت بيئة «رسمية» حاضنة لها، رغم ضخامة وحجم الرفض الشعبي لمسيرة بائسة.. كهذه.