وبصرف النظر عن الحرص الشديد الذي تبديه طواقم الأساطيل الروسية والأميركية في عدم الانزلاق إلى مواجهة ولو محدودة أو محسوبة بدقة، فإنّ من السذاجة الاعتقاد أنّ الوصول إلى مرحلة كهذه سيكون مُستبعَداً، خاصّة أنّ واشنطن وأصحاب الرؤوس الحامية في البنتاغون كما في بعض الدول الاطلسية/الأوروبية, أخذوا يطلقون تصريحات استفزازية. (برزت مؤخراً وزيرة الدفاع الألمانية انغريت كارنيباور التي أعلنت استعداد الناتو لاستخدام الأسلحة النووية ضد روسيا)..
ناهيك عمّا تتركه مساعي واشنطن الحثيثة لضمّ أوكرانيا إلى الناتو. ولم تغب بالطبع تصريحات وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن, الذي رفض أن تكون هناك دولة تمتلك «الفيتو» على حصول أوكرانيا على عضوية الناتو وهو هنا يقصد روسيا، ثمّ يأتي المقال الذي نشره كاتب العمود العسكري ديفيد إكس في العدد الأخير من مجلة «فوربس» الأميركية الذي تحدّث فيه عن أنّ «القاذفات الاستراتيجية للقوات الجوية الأميركية B-1B Lancer، على الرغم من عمرها البالغ أربعين عاماً, فيمكنها التعامل بسرعة وفاعلية مع مجموعة السفن الروسية. مُتنبئاً/الكاتب الأميركي لأسطول «بحر البلطيق» الروسي بمصير لا يُحسَد عليه.
صحيح أنّ خبراء روساً لم يتأخروا في الردّ على مزاعم وأوهام أميركية كهذه, وثمّة منهم من جزَم بأنّ «الأميركيين لن يتمكّنوا من تدمير نظام الدفاع الجويّ الروسي، وأنّ كلّ ما يطير نحو روسيا سيسقط حتّى قبل أن تصلَ القاذفات الأميركية إلى مواقعها»، مُذكِّرين كيف أسقطت أنظمة الدفاع الجوي الروسي (الموجودة بحوزة الجيش السوري) بنجاح صواريخ كروز الأميركية عام 2018، على الرغم -يُضيفون- أنّ ما لدى السوريين ليس سوى نسخة للتصدير، بينما أنظمة الدفاع المنشورة حالياً في روسيا أكثر حداثة وجودة. إلا أنّه صحيح أيضاً أنّ ما تقوم به واشنطن لا يستهدف فقط بثّ المزيد من «الدعاية» لإخافة روسيا, التي تعمل بلا كلل لكبح خطوات اميركا الرامية ضمّ أوكرانيا وتحويل البحر الأسود إلى بحيرة أطلسية. بعد أن كان طوال عقود سابقة بحيرة سوفياتية, أسهم تفكّك الاتحاد السوفياتي بانفراط عقد حلف وارسو, وانضمام معظم الدول المُشاطئة للبحر الأسود إلى حلف الناتو. بل غدت ذات مواقف عدائية لروسيا (مثل بلغاريا، رومانيا، تركيا، وثمة احتمال لانضمام جورجيا، إضافة للوعود المبذولة لأوكرانيا), وهو أمر تعارضه موسكو بشدة وترى فيه تهديداً استراتيجياً مباشراً للعاصمة الروسية, التي ستكون حينذاك في مرمى الصواريخ الأطلسية كونها غير بعيدة عن شواطئ أوكرانيا.
هي إذاً «سِتّ» دول تُشاطئ البحر الأسود، ثلاث منها ذات عضوية كاملة في الناتو (تركيا، رومانيا وبلغاريا), فيما تواصِل واشنطن الضغط لضمّ جورجيا وأوكرانيا، ما يُبقي على روسيا وحيدة، بل «مُطوّقة", بتحويل البحر الأسود إلى بحيرة أطلسية. ناهيك عن الطوق الذي يفرضه الأطالسة عليها في بحر البلطيق, حيث جمهوريات البلطيق الثلاث/السوفياتية السابقة (لاتفيا، أستونيا وليتوانيا), زِد على ذلك ما يفرضه التحالف الأميركي/الياباني وتحالف «أوكوس» الجديد الذي ضمّ أميركا وبريطانيا وأستراليا، والذي رأت فيه موسكو/كما الصين تهديداً استراتيجياً لها. ناهيك عن تحالف «كواد» الرباعي الذي يضمّ الولايات المتحدة واليابان وأستراليا والهند، ومن أبرز أهدافه احتواء الصين ومحاصرتها, وبالتأكيد ستصل «توابع» تأثيراته/وتداعياته العدوانية إلى روسيا, التي سيّرت هي والصين مؤخراً دورية بحرية مُشتركة لأولّ مرة في تاريخ العلاقات بين البلدين.
في السطر الأخير.. علاقات موسكو بحلف الناتو مقطوعة، بل هي في أسوأ مراحلها على ما يقولون في موسكو أغلقت تمثيليتها في بروكسل اعتباراً من اليوم الإثنين، وهو ما يؤكده القائد الأميركي السابق لقوات الناتو في أوروبا، الجنرال جيمس فريدسن بقوله: أنّ العلاقات بين الناتو والكرملين في أسوأ حالاتها منذ انتهاء الحرب الباردة.
فهل ثمّة شكوك في أنّ احتمالات اندلاع حرب -ولو بالخطأ- باتت واردة أكثر من أيّ وقتٍ مضى؟