في غطرسة محمولة على شعور بفائض قوة, إضافة إلى استهتار وازدراء لكل ما تمّ تقديمه لدولة العدو الصهيوني من تنازلات فلسطينية وأخرى عربية وثالثة دولية، بهدف «إقناعها» بالجنوح إلى السلم والتخلّي عن منطق القوة لصالح منطق السلام، الذي دائماً ما يتبعه الفلسطينيون ومعظم العرب بعبارات مُكررة.
في أجواء قاتمة كهذه، تواصلت منذ أزيد من ثلاثة عقود, وخصوصاً منذ مؤتمر مدريد (30/10/1991), يَخرج علينا أركان الائتلاف الحكومي الهجين في إسرائيل, بطروحات ومبادرات واقتراحات.. ظاهرها كما بين سطورها تروم تأبيد الاحتلال وابتلاع المزيد من الأراضي الفلسطينية، وتحويل صراع الوجود مع المشروع الصهيوني الاستيطاني/العنصري/الكولونيالي إلى مجرد نزاع على العقارات، يتمّ من خلال استدراج فلسطينيي الضفة/والقطاع إلى فخ تحسين أوضاعهم الاقتصادية, على النحو الفاضح/والمكشوف الذي أرادته صفقة القرن, والتي تحدَّثت بوضوح عن «كتلة سكانية» فلسطينية بلا حقوق سياسية، وعدم تمكينها من تقرير المصير, مترافقاً ذلك مع ضمّ 30% من أراضي الضفة المحتلة.
وبصرف النظر عمّا إذا كانا «رُكنا» هذه الحكومة، وهما على وجه التخصيص.. نفتالي بينيت رئيسا للائتلاف وزعيم حزب يمينا/الاستيطاني/الفاشيّ:7 مقاعد, وإنّما أيضاً الأكثر خطورة صاحب أكبر كتلة برلمانية في الكنيسيت (17 مقعداً), زعيم حزب يش عتيد/يوجد مستقبل.. يائير لبيد بما هو رئيس الحكومة البديل/وزير الخارجية, الذي استقطب الأضواء مؤخراً بعدما طرح مبادرة/مشروعَ تهدئة جديد, ينهض على مقولة الهدوء مقابل الهدوء، على غرار ما «نجح» به نتنياهو عندما قاد حملة نشطة/واسعة التأثير استقطبت دولاً وعواصم وشخصيات إقليمية ودولية, انتهت من بين أمور أخرى إلى إطلاق «صفقة القرن»، وانطلاق ماراثون تطبيع ينهض على مقولة» «السلام مقابل السلام»، وراح يتبجح لاحقاً بما كان قاله سابقاً وهي أنّ ما «تمّ إنجازه إنّما يدحض مقولة إن السلام في المنطقة لا يمكن أن يتحقق إلّا بعد حلّ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي». وها هي الأيام - يضيف نتنياهو- أكّدت خطأ تلك الأسطورة.
وإذ بدت لافتة تصريحات نفتالي بينيت عقب ترؤوسه الائتلاف القائم الآن، بأنّه «لن يقوم بعملية الضمّ التي نصّت عليها صفقة القرن»، على نحو سارع فيه بعض الواهمين والسُذّج للقول إنّه «غيّر قناعاته الاستيطانية», خاصة أنّه من أنصار نظرية إسرائيل الكبرى. فقد فات هؤلاء أنّه أحد «المُعجبين» بنظريات أستاذ التاريخ الصهيوني..ميخا غودمان، الذي تحوّل إلى «سوبر ستار» في السنتين الأخيرتين، حيث يقوم بينيت باستشارته باستمرار خاصة بعد تولّيه منصب رئيس الحكومة، وكان اقتبسَ عنه عبارته الشهيرة «تقليص الصراع», التي وردتْ في كتاب غودمان الأخير/2017 الذي حمل عنوان «مَصيدة 67».. عندما تحدّث بينيت في خطابه الأول بعد تولّيه رئاسة الحكومة، عن موقفه من القضية الفلسطينية قائلاً: على الفلسطينيين تحمُّل المسؤولية عن أفعالهم، والفهم أنّ العنف سيُواجَه بردٍّ حاسم، كما أنّ «الهدوء الأمني وانشغال الفلسطينيين بالشؤون المدنية», سيؤديان إلى تطورات في المجال الاقتصادي، وتقليل الاحتكاك مع الجيش الإسرائيلي وإلى... «تقليص الصراع».
هذا هو جوهر الفكرة الصهيونية منذ بدء الصراع قبل أزيد من مئة عام، ولم يتنازل الصهاينة منذ طرح هيرتزل رؤاه في كتابه «الدولة اليهودية»، ولاحقاً عندما انشقّ جابوتنسكي عن التيار الصهيوني السائد وأشهر حركته التنقيحية المتطرفة, إذ يقول: «عندما يفقد الفلسطينيون الأمل بالتغلّب على الصهيونية، سينشأ لديهم استعداد للتفاوض والتفاهم معنا، والاتفاق على صيغة التعايش..وهذا - يضيف جابوتنسكي- يجب أن يكون نتيجة واقع ملموس يُفرَض عليهم فرضاً ولا يَختارونه بإرادتهم».
فما الذي تغيّرَ منذ تلك «الأزمان»..حتى الآن؟
لا شيء.. بل غدت إسرائيل في وضع أكثر راحة, بعد كلّ الاختراقات التي أحدثتها في المشهدين العربي وخصوصا الفلسطيني الذي اعترفَ بشرعية إسرائيل على 78% من أرض فلسطين التاريخية، وترك القدس نهباً للتهويدَ، ومنحها صفة عاصمة إسرائيل الأبدية.
ليس علينا سوى المقارنة... إن كان ثمة فروق بين ما طرحه بيغن في «ملحق» اتفاقيات كامب ديفيد مع مصر، وصولاً إلى إعلان المبادئ/اتفاق أوسلو, وبين ما خرج علينا به يائير لبيد في مشروعه القائم على معادلة.. الهدوء مقابل الهدوء. دون إهمال النظرية التي يحاول بينيت تكريسها، والقائمة على «تقليص الصراع», بعدما واظب مَن سبقوه على مُجرّد.. «إدارة الصراع».
...للحديث صِلة.