وزير الثقافة السابق طلبَ من المثقفين أن يكونوا "وطنيين" لخدمة بلدهم والاحتفال بمئوية الدولة ..يعني ...أنه يعتبر المثقف جنديًا أو إعلاميا في الخندق الإعلامي للدولة، ويريد منه الوقوف مع وزارته وحكومته، كي يغزل غزلها، ويحطب حطبها، ويغرد باسمها، ويدافع عنها ببسالة، بل لا مانع لو كرَّس كل كتاباته للمناسبات الوطنية.
لم يتوقف الوزير لحظة ويسأل نفسه ماذا قدمت الوزارة والحكومات المتعاقبة للمثفين ولأعضاء رابطة الكتاب الأردنيين تحديدًا، ..عقب الجائزة الكبرى التي قدمت للإبداع في الأردن، زمن الأحكام العرفية حين تم إغلاق الرابطة بالشمع الأحمر، لا بل والعمل الدؤوب لإنشاء جسم نقابي بديل عنها، وكان ذلك بتشكيل إتحاد كتاب بالقوة، ما زال حتى اليوم يتلقى دعم الوزارة، وهذه التجربة غير موجودة إلا في الأردن، وليست موجودة إلا في هذه الحالة، فلم يتم تأسيس نقابة مهندسين أو محامين أو أطباء أو حتى نقابة عمالية بديلة عن النقابة الأم، كل ذلك كان لتهميش دور الرابطة ,ودور المثقف ولكي يكون الاتحاد بديلًا وطنيًا.
صحيح أنه تم التراجع عن القرار لاحقًا، بفضل موقف اتحادات الكتاب العرب وخاصة الاتحاد الرئيسي، وألغي المنع، لكن الاتحاد البديل لم يلغ، وظل شريكًا ومنافسًا ليس في الإبداع والكتابة بل في الرعاية والدعم الحكومي.
الكتاب أو المثقفون الذين وجَه لهم وزير الثقافة تعليماته، لم يحظوا بأي دعم أو خدمة لهم، إسوةً بشتى النقابات والمهن والقطاعات، وهي لا تحصى ولا تعد، فلم يمنحوا إسكانًا مثلًا، ولا امتيازًا ما، مثل بقية القطاعات، أو كما تفعل اتحادات أو نقابات الكتاب في الدول العربية، وعلى سبيل المثال فإن أعضاء اتحاد الكتاب العرب (ومن بينهم أردنيون وفلسطينيون وعرب) في سوريا، ومن قبلها في العراق، لهم خصومات عالية في العديد من المرافق والمؤسسات وشاليهات وفنادق الدولة، وكانت لهم وما زالت رغم الحرب إسكانات محترمة، وتأمنيات صحية ورواتب تقاعد، وحصص لطباعة كتبهم سنويًا، ومنافع كثيرة ومتعددة، كما أن لهم بطاقات توفر عليهم الكثير من النفقات، وذلك ليس رشوة لهم بل حق إنساني ووطني. تفعله كل الشعوب المتحضرة.
فما الذي يكسبه أعضاء رابطة الكتاب الأردنيين ..أو الكاتب الأردني والمثقف في الأردن عمومًا؟ الجواب لا شيء، سوى دفع الاشتراكات السنوية للرابطة، وشراء عدد من النسخ من كتب البعض، ونشر بعض المواد في مجلة أفكار، وعدا ذلك وحتى مكرمة رئيس الوزراء الأسبق بمنحهم تأمينًا صحيًا فئة 3 ثالثة، يعني أقل درجة تأمين صحي معمول بها.
ورغم ذلك فهي ليست مكافأة بل أشبه بالخديعة أو المقلب.
ستقولون كيف وإليكم الجواب؛ ثلثُ وربما أكثر من نصف أعضاء الرابطة وصلت أعمارهم إلى الستين سنة، وفي كل عام ينضم لجيل الستين العشرات من الكتاب، وتلك الهدية الصحية لهم ملغومة فهم مضطرون لدفع ما يصل إلى 140 دينارًا سنويًا كإشتراك، لم يستطع العديد منهم وبينهم من توفوا دفع هذا الاشتراك وهم أحياء، بينما يحصل المواطن العادي أي مواطن على بطاقة تأمين مجانية بسبب المكرمة الملكية وهي تأمين صحي لمن يصل الستين من العمر دون أن يدفع شيئًا، وحتى من لا يملك دخلًا أو يكون عاطلًا عن العمل يحصل على بطاقة التأمين الصحي هو وعائلته عن طريق وزارة التنمية الاجتماعية، أما أعضاء الرابطة حتى من زادوا على الستين فلا يمكن إلا أن يدفعوا الإشتراك السنوي كاملًا لأنهم (استفادوا) من المنحة، وحتى لو طلبوا وقفها وإلغاءَها فلا تقبل وزراة الصحة ذلك، بل تفرض غرامات تأخير حتى لو لم يجدد المشترك التأمين السنوي.
كيف؟ هل هذا معقول؟ نعم معقول ومطبق ومتبع حسب قانون الإعفاء الخاص بأعضاء رابطة الكتاب الذي أقرته رئاسة الوزراء سابقًا، حاول عدد من الكتاب رفضه ووقفه وقالوا لا نريد هذه الهدية الحكومية اعتبرونا مواطنين درجة رابعة أو عاشرة والرابطة قالت للحكومات حلوا لنا القضية وكان الجواب لا.... أنتم لكم تأمين صحي خاضع لقانون ولا بد من الإلتزام به، أي لا بد من الدفع وعدم الخلاص من ذلك.
...حاول كثير من الكتاب التخلص من هذه الهدية المسمومة، وحصلوا على كتب من الرابطة نفسها بوقف تأمينهم الصحي، ولكن لم يتم قبول هذه الكتب، ومنهم من توفوا ولم يتمكنوا من ذلك (لن أذكر أسماء احترامًا للموتى) ولم يستطيعوا التخلص من دفع الاشتراك الذي تترتب عليه غرامات في حالة عدم الدفع في الموعد.
وربما يقول قائل إن أمانة عمان بتوصية من الحكومة أهدت الرابطة بناية مستقلة في الدوار السابع، ولكن ليتها لم تفعل فقط تم تقديم بيت متهالك غير منظم، وغير مناسب، وقد احتاج ترميمه الى عشرات الآلاف من ميزانية الرابطة الشحيحة أصلًا، وهو في مكان بعيد لا يتمكن الكثيرون من الوصول إليه لأنهم لا يملكون سيارات خاصة.
يتم التعامل مع الرابطة بشكل مجحف، فالدعم السنوي محدود كان لا يكفي لدفع الأجرة، وتم إلغاء حتى المنح الجامعية التي كانت تقدم لأبناء الكتاب، مع أني مع إلغاء كافة المنح وإبقاء التنافس فقط هو المقياس، وبعدها يمكن مساعدة أبناء الفقراء (تحب الحكومة أن تسميهم ذوي الدخل المحدود) بدفع رسوم أبنائهم وليس على طريقة المنح والمكرمات التي صارت تأخذ حق الآخرين من المعدلات العالية.
..هل رأيتم ما تفعله الحكومات المتعاقبة بالكتاب، وما لا تفعله، ولم نذكر إلا القليل القليل، ولن نتحدث عن غياب الحرية ومحاولة فرض التدخل في انتخابات الرابطة واختراق هيئاتها الإدارية ولجانها ونشاطاتها.
ويأتي أحد وزراء الثقافة ويطالب المثقفين أن يكونوا وطنيين أو جنودًا، عليهم أن يحاربوا معه، ولا بأس أن يشتروا السلاح منهم، ويخوضوا معاركه ضد كورونا، ويمتدحوا تلك الدعايات التلفزيونية السطحية التي أنتجتها الوزارة لتوعية الناس بمخاطر كورونا، وكأن هذه إحدى مهام وزارة الثقافة! وعبقريتها.
نسي الوزراء أن المثقف سواء المنتمي أو غير المنتمي هو مثقف، له عقله وتفكيره ومبدأه وثقافته، وحتى لو عارض الحكومة والدولة، فهو ليس بيدقًا في يد وزير، وأغلبهم ليسوا موظفي دولة أو حكومة، وحتى لو كان موظفًا في أي مؤسسة حكومية، فوظيفته شيء وثقافته ملكه الشخصي، ومع ذلك يأتي وزير أي وزير، ودون أن يقدم شيئًا للثقافة والمثقفين، ويقرر من نفسه أن يصنّف المثقف بأنه وطني أو غير وطني.
هل ننسى أن المثقف مثقف سواء كان يساريًا أو يمينيًا أو مختلًا عقليًا وليس بالضرورة أن يكون مواليًا للوزراة أو حتى للحكومة أو للدولة ولا لأي جهة سياسية أو حتى لو كان مواليًا، ومؤمنا بما تفعله الدلولة، أو غير مقتنع، فهو حر وليس مطلوبًا منه أن يشيد بما لا يقتنع به، أم أن الحرية ليست شرطًا في عرف الوزير.
تخيلوا لو أن الدولة الفرنسية عاملت مثقفيها كما كان يريد أن يعاملهم الوزير السابق أو الحالي، فهل كان سيظهر بينهم سارتر وكامي وسيمون ديبفوار وفوكو وجيل دولوز ووووو كل من ظهر من كتاب وفلاسفة عالميين ..ولو أن دول العالم نظرت للفن والثقافة والفكر كما تنظر حكومتنا ووزيرها فما هو الفضاء الذي يمكن أن تصنع والنتاج الذي تقدم.
من البديهيات أن النظرة للثقافة والمثقفين ليست مثل التعامل مع موظفي الصناعة والتجارة أو الزراعة، مع احترامنا لهم، ولا حتى موظفي الاعلام، خاصة وأنهم ليسوا موظفين في الوزراة أساسًا،
فليست هناك وظيفة أو حرفة اسمها مثقف، لكن الدول الحقيقية تصنع مشاريع ثقافية،وتقدم آفاقًأ ثقافية وإنسانية، ولا تسعى لتجنيد مثقفيها وإذلالهم، خاصة وأن الدولة في الأردن ليست حزبًا شموليًا، وأننا تخطينا زمن الأحكام العرفية والتي رفضها المثقفون وقاوموها في الأيام الخوالي.
يبدو أن المشكلة في اختيار وزراء الثقافة، فلا يأتي ذلك في سياق تقدمي أو رؤيا معينة، حيث يقوم رئيس الحكومة المكلف باختيار
عشوائي ووضع من يشاء في وزراة الثقافة التي يعتبرها وزارة خدمات، فيتم اختيار أي مسؤول ينسجم معه، ويعين للثقافة، وهذا لا يجوز إن كنت تريد إحداث فرق في وزارة الثقافة، إن كنت تريد أن تكون الثقافة حقيقية ومتحضرة، إن كنت تريد أن يكون المثقف حرًا وليس ذليلًا ولا تابعًا، إن كنت تريد عمل بصمة في الثقافة وليس تزمتًا إداريًا جديدًا، ونظرة ضيقة تعتصر كل الفنون والآداب في خطاب سياسي باهت.
لا بد من اختيار مختلف عن أي وزير خدمات، وإن لم يستطع أن يفعل انجازات كبرى، فعلى الأقل لن يورط البلد في فضيحة مثل ذلك الوزير الذي قال للوفد الإسباني الذي جاء إلى مكتبه قبل سنوات لترتيب معرض للوحات الفنان العالمي بيكاسو (إذا كان بيكاسو نفسه يحب حضور المعرض فنرحب به)، لا بد أن يكون الوزير مثقفًا أولًا ويملك رؤيا واسعة وبعد نظر وفهمًا حقيقيًا لدور الوزارة وليس إداريا صارمًا.
والآن من يحل قضية التأمبن الصحي للكتاب هل يحلها وزير الداخلية أقصد وزير الصحة بالإنابة هل يمكن أن يحصل الكتاب على تأمين صحي لائق بهم، لا نريد أن نتوسع في طموحاتنا ونتحدث عن مشاريع إسكان ورواتب تقاعد وتخفيضات معينة، واعفاءات ما، لكن على الأقل نتمنى إلغاء هذه الهدية المسمومة وهي التأمين الصحي نهائيًا. أعني إلغاء المنحة المهزلة، ولا نتوقع أن يتم تكريم المثقفين وشمولهم بالتأمين الصحي اللائق بهم.
وفي هذا السياق لا بد من قول ملاحظة أخيرة، كي لا تظل غصة في الحلق، قام وزير الثقافة السابق بتضليل رئيس الحكومة الحالي وتم الزج بجملة غريبة في رد الحكومة على خطاب العرش حيث جاء فيه و(سندعم المثقفين الوطنيين) . نعرف أن خطاب الرد الحكومي على خطاب العرش (يطلب من كل وزارة تقديم نبذة مختصرة عما ستفعله) ويتم تجميعها في خطاب يلقيه رئيس الوزراء أمام مجلس النواب من أجل نيل الثقة.
وقد قالها الرئيس ومرت مرور الكرام حتى على الرئيس الذي كان أبوه مثقفًا ويعرف معنى الثقافة ولا يمكن أن يقول هذه الجملة.
ونسأل كيف سيتم الدعم للمثقف الوطني، وما هو البرهان المطلوب ومن هو المثقف الوطني واللاوطني، وكيف يتم تحديد ذلك؟ ولم يقل مثلًا سنفتح أفقًا أو نهجًا أو رؤية جديدة للثقافة وسنعطي الكتاب والمثقفين بعض حقوقهم، أو جزءًا منها، لأن الثقافة بالنسبة للحكومة ليست أولوية.
وزارات الثقافة وجدت لصياغة وبلورة رؤى ثقافية وليس لصناعة (مثقفين) أو موظفين تابعين أساسًا، المثقف التابع ليس مثقفًا حرًا ولا وطنيًا، الوطنية هي أن تكون حقيقيًا وأن تكون حرًا...
دعوا المثقف بعيدًا عن تفكيركم، (لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعف النطق إن لم يسعف الحال).