اخبار البلد ـ استقالة مذيع تلفزيوني، شبه الإجبارية، أثارت قضايا نختار منها اثنتين يقلقان الصحافيين والمبدعين؛ أولاهما الخطر على حرية التعبير، وثانيتهما تدني المستوى المهني وتهاون صحافيين في مسؤوليتهم أمام المجتمع.
الاستقالة شبه الإجبارية هي «إقالة» عندما لم يكن أمام بيريس مورغان، مقدم برنامج الصباح في التلفزيون البريطاني (آي تي في)، خياراً آخر بعدما حاولت إدارة القناة إجباره على الاعتذار علناً بشكل لا يمكن لأي صحافي يحترم نفسه ومهنته قبوله.
طريق تطور الصحافة عبر التاريخ مفروش بتضحيات آلاف الصحافيين في سبيل مبادئ أساسية، كحرية التعبير والرأي، والحصول على المعلومة وإيصالها للقراء والمستمعين والمشاهدين، ورفض الرقابة بأي شكل من الأشكال. مبادئ من يقبل المساومة عليها، أو تبرير تجاهلها، عليه أن يترك الصحافة إلى «شغلانة» أخرى، كالعلاقات العامة مثلاً.
مورغان في تعليقه على المقابلة التي أجريت في أحد البرامج التلفزيونية الأميركية مع دوق ودوقة ساسيكس (الألقاب الرسمية للأمير هاري وزوجته الممثلة الأميركية ميغان ماركل)، قال إنه لا يصدق كل ما أدلت به ميغان. ربما خطأ مورغان كان مغادرته الاستوديو غاضباً، ولكن واجهه موقف يصعب على معظم الناس التعامل معه. أحد زملائه في البرنامج، المذيع الرياضي، وهو ذو بشرة سمراء مثل ميغان، قام بـ«شخصنة» الأمر، مشيراً إلى أن مورغان يضمر كراهية شخصية لدوقة ساسيكس.
تهمة العنصرية (التي وجهتها ميغان للمؤسسة الملكية) أصبحت الآن قذيفة لا درع لردها، يطلقها بعضهم على خصومهم بشكل يؤدي بالفعل إلى حرمانهم من وسائل التعبير الصحافي ومنابر الحديث الأكاديمية، والفصل من عملهم (إلى جانب تهم المسيونجية؛ أي كراهية النساء والتشكيك في العقيدة الجديدة، وهي مسؤولية النشاط الرأسمالي عن التغيير المناخي). قول المذيع الرياضي لمورغان كان مبطناً بأنه عنصري وميسوجوني، وهو ما عقد لسانه، لأن أي رد سيفسر بشكل سلبي، فغادر الاستوديو قائلاً إنه لا يستطيع التحمل أكثر من ذلك.
ميغان نفسها وجهت شكوى رسمية إلى إدارة التلفزيون المستقل، وانهمرت آلاف الشكاوى على المؤسسة. شكاوى من جانب واحد فقط. وكما ذكرنا على هذا المنبر الحر من قبل، فإن الأغلبية الصامتة التي تدعم الديمقراطية وحرية الرأي لا تشتكي، لأنها تقبل أي رأي آخر حتى لو كان مناقضاً لها، من مبدأ القول المنسوب للشاعر الفرنسي فولتير (وإن كان بدوره اقتبسه من آخرين سبقوه): «قد أختلف معك في الرأي، ولكني مستعد أن أدفع حياتي ثمناً لحقك في التعبير عن رأيك».
عندما خيرت إدارة التلفزيون المستقل مورغان بين الاعتذار علناً والاستقالة، لم يتردد لحظة في الانحياز لمبدأ لا يتخلى عنه أي صحافي محترف، وهو التمسك بحقه في حرية التعبير، وقال للصحافيين بعدها إن من حق ميغان أو أي شخص أن يرد بحرية كاملة، من غير أن يحجر على رأي الآخرين، لكنه متمسك بمبدأ حرية التعبير الصحافي وحرية الرأي، بصفته أساساً للديمقراطية.
كثيرون، بمن فيهم أكثر منتقديه، دعموا موقفه. وربما المثال كان تغريدة توبياز إييللوود، وزير الدولة لشؤون الشرق الأوسط، قائلاً إن أسلوب مورغان استفزازي منافٍ للذوق، ويحب ألا يجري مقابلات معه، لكن من حقه التعبير بحرية كاملة عن رأيه، ولا يجب إجباره على الاعتذار، ومن لا يعجبه مورغان فليشاهد برنامجاً آخر، لأن هناك عشرات القنوات للاختيار بينها بحرية.
كانت الحكومة والوزراء قاطعوا برنامج مورغان منذ العام الماضي عندما شن عليهم حملة مستمرة بسبب تأخرهم في التعامل مع وباء كورونا عن البلدان الأخرى. أسهم مؤسسة «آي تي في» انخفضت خمسة في المائة نتيجة استقالة مورغان، وربما يتضح الأمر من أرقام المشاهدين في الأيام المقبلة، وإن كنت أعتقد من خبرتي أن القناة ستخسر كثيراً من المشاهدين برحيله لأنه الآن يبدو أنه المغلوب على أمره في سبيل المبدأ، والإنجليز بطبيعتهم ينتصرون للطرف الأضعف.
وعندما ترأس مورغان تحرير يومية «الديلي ميرور»، وهي تقليدياً تدعم حزب العمال، كان ضد دخول بريطانيا حرب العراق في 2003. والملاحظ وقتها أن توزيع الصحيفة ارتفع، رغم معارضته لقرار حكومة عمالية يرأسها توني بلير، لكن سهل على الشركة القابضة للصحيفة فصله من عمله في 2004 لأنه ارتكب خطأً مهنياً فادحاً عندما خدعه نصابان باعاه، بثلاثين ألف جنيه، صوراً مزيفة، بادعاء أن جنوداً بريطانيين عذبوا أسرى عراقيين. يومها، كان مورغان شاباً دون الثامنة والثلاثين، ولا شك أنه تعلم الكثير في عقدين.
منذ نعومة أقلامنا - الصحافيين - تعلمنا أن نجري البحث الكامل في خلفية أي موضع قبل تغطيته، وفي خلفية وتاريخ الشخص الذي نجري معه المقابلة. وعلى عكس المقابلة للصحيفة المطبوعة التي يتاح فيها للصحافي إضافة المعلومات إلى ما دونه في النوتة قبل النشر، فإن المقابلة الإذاعية والتلفزيونية الحية، أو المسجلة كبث حي (أي لن يتاح إعادة الضيف للاستوديو بعد التسجيل)، تحتاج أن تكون المعلومات في نوتة المذيع أو المذيعة، مع ضرورة اليقظة التامة، للاستماع إلى كل كلمة يقولها الضيف، وأيضاً مراقبة تعبيرات الوجه ولغة الأجسام، لمعرفة ما إذا كان صادقاً أو يخفي شيئاً.
ميغان وهاري ادعيا أن ابنهما (آرشي) حرم من الألقاب. والحقيقة أن لقبه الرسمي «إيرل - أوف - دنبرتون»، وهو مقابل لقب «كونت» أو أمير مقاطعة (دنبرتون مقاطعة في شمال غربي اسكوتلندا). كما تظاهرا بالاستياء لأن القصر لم يمنح ابنهما لقب أمير. والحقيقة أن الأمر خارج صلاحيات الملكة نفسها، حسب القوانين الدستورية منذ أن عدلها الملك جورج الخامس (1865 - 1936)، وكان تولى العرش من 1901 حتى وفاته، التي أعطت استقلالية أكبر للبرلمان، وحددت عدد الألقاب الملكية في عام 1917 حتى السادس في الترتيب لولاية العرش (حالياً الأمير هاري، وابنه آرشي ترتيبه السابع). فقط عندما يصبح الأمير تشارلز ملكاً، يصبح هاري الخامس في الترتيب، ويحمل آرشي تلقائياً لقب أمير ملكي.