اخبار البلد- بقلم فراس الور
(هذه الرواية بالكامل هي من وحي الخيال)
كانت السماء الملبدة بالغيوم منذ الصباح الباكر تنذر بيوم ماطر بإمتياز، فابتدأ الخريف يشعرهم بسلطانه خصوصا مع اشتداد الرياح الباردة المشبعة بقطرات اللغيث على الطبيعة من حولهم، فارتفع بالخلفية صوت ايقاعاتها و هي تنهمر بحنو على الارصفة و الشوارع و السيارات حيث كانوا بالأسبوع الأول من شهر نوفمبر، ابتلت الطبيعة من حولهم رويدا رويدا و الهبات تتوالى ان اصبح السير بسرعة على الشارع امرا مستحيلا، فابتدأت السيارات العابرة بالسير ببطئ تفاديا للإنزلاقات و الحوادث، داعبت الأمطار وجه لميس و ارتجف جسمها بشدة من البرد، فامسكت معطفها و احكمت اغلاقه على صدرها و نظرت من حولها الى بعض المارة بالشارع، فمنهم من فتح مظلته لتقيه من الأمطار القادمة ثم اكمل سيره و منهم من ابتدأ بإيقاف سيارات للإجرة لتفادي موجة البرد و الشتاء، ارتفعت داخل اسوار الحديقة فجأة بعض من اوراق الأشجار الملونة و اليابسة مع حركة الرياح النشطة فتطايرت بعض منها الى خارج اسوار الحديقة و ذهبت بعيدا الى ارجاء مختلفة بالحي السكني الذي كانوا به، فتوضح للميس ان هذه ليست اشجار خالية من الروح كما اعتقدت في بدائ الامر بل كانت مثمرة و تساقطت اوراقها عند قدوم فصل الخريف، و حملت الرياح بعض من الأوراق و نثرتها على جوانب مدخل الفيلا البعيد، نظرت لميس الى الأوراق اليابسة و هي تنتشر على ارض المدخل رويدا رويدا فابتسمت للمنظر فكان جميل جدا، و اشعرها ببعض الهدوء و الراحة خصوصا بعد ان انقبض قلبها حال وصولهم الى العقار من منظره القديم و المهمل، سارت نحو جانب من جوانب سور الفيلا و هي تفكر في ذاتها "و من الجافي يخلق حلاوة"، فالخريف بريشته المبدعة رسم امامها مشهد جميل اضفى على العقار بعض من الجمال، اقتربت من الحديقة قليلا لتمعن النظر بمنظر الأشجار و ارضها المليئة بالأوراق الملونة فكانت تحب الخريف جدا بما يجلب من جمال موسمي مفقود في فصل الصيف الحار و الجاف، سمعت تغاريد عصفور بدا لها و كأنه قريب منها، بحثت عنه فلم تجده فاستغربت لأن صوته كان عالٍ و جميل جدا، و فجاة شاهدت امرا تسبب لها بالصدمة، فكانت هنالك نوافذ كبيرة على يمين و يسار المدخل الرئيسي موزعة على الواجهة الأمامية للطابق الأرضي، و كانت احدى النوافذ مفتوحة، لهث لسانها و هي تنظر بإستغراب للخيال الذي فجأة مر بجانب النافذة من الداخل، ما الذي يجري فقد اخبرهم السمسار ان العقار لم يُسْكَنْ منذ فترة العشرينيات.
عاد تركيزها الى الحوار الدائر بين زوجها و عاصم نورالدين امام بوابة الفيلا الرئيسية، فاقتربت منهم من جديد و القلق يسيطر عليها بسبب ما قد رأته للتو، ادخل عاصم المفتاح الذي بيديه في القفل و هو يكمل عن الفيلا "مساحتها ممتازة و تتألف من طابقين مساحة كل منها اربعمائة متر مربع، الطابق العلوي به غرفة معيشة كبيرة و اربعة غرف للنوم مع حمامين و الطابق الأرضي يه مطبخ كبير و صالتين كبيرتين مناسبتين لحفلات الكوكتيل و للحفلات الإجتماعية مع حمامين، انها مناسبة لسكن عائلة من الطبقة النبيلة، تحتاج للتصليحات و لكن حالها ليس سيئا،"
فتح بوابة الفيلا فاصدرت ابوابها صريرا عاليا انتشر بالأجواء لثانية من الزمن، ثم لمعت صاعقة قوية فوقهم مباشرة جعلت قلب لميس ينقبض في صدرها من جديد، فالأجواء القاتمة التي جلبتها الغيوم الرمادية جعلت للصاعقة وهجا مميزا اضاء الأجواء لثانية من الزمان، و سرعان ما تبعها رعد جبار طغى على صوت عاصم قليلا و هو يقول لهم "هيا تفضلا بالدخول،" سبقهما الى ممر عريض للسيارات و طويل كان بطول ثلاثون متر بينما شدة لميس رشدي من كم معطفه و هي تهم بالدخول وراء عاصم، و قالت بصوت منخفض في اذنه "قل ما تشاء بي و لكن حدث امر مريب منذ قليل يجعلني ارفض من هذه اللحظة..."
قاطعها و انتهرها رشدي قائلا "اخفضي صوتك كي لا يسمعنا عاصم، و احتفظي بأيًة تعليقات لحين اتمامنا الجولة...ارجوكِ،"
دخلا الفيلا و تبعا عاصم بخطوات بطيئة، فراقبا وضع الحديقة التي كانت مليئة بألأشجار المتنوعة، فعلق عاصم قائلا "هذه اشجار للزينة ، فزرعها مكتبنا حديثا و هي اشجار غير مثمرة، حين تقرران الشراء تستطيعان تغيرها و زراعة ما تريدان، فالتربة جيدة جدا لأغراض الزراعة المختلفة،"
سارت لميس وراء رشدي و هي تنظر اليها بحذر شديد، فبالرغم من قلة خبرتها بالزراعة الا ان صديقتها الهام قد تساعدها، فكانت تمارس الزراعة كهواية كثيرا بالرغم من عملها كفنانة بالسينما منذ نعومة اضفارها، و لكن هذا كلام سابق لآوانه، وجب عليهم تفحص العقار جيدا قبل ان يقررا شراءه، وصلا بعد دقيقة الى مدخل الفيلا، فتح عاصم الباب فصرخت لميس حينما قفزة قطة من الداخل فجأة الى الخارج، سأل رشدي بإستياء و هو يضم زوجته "من اين اتت هذه القطة؟ اهدئي يا لميس،"
ارتسم بعض التوتر على وجه عاصم و هو يجيب "ربما نسي زميلي ان يغلق احدا النوافذ حينما زار المكان مع زبون لمكتبنا بالأمس،" توجه الى الداخل و اغلق النافذة التي رأت لميس الخيال يمر بجانبها منذ لحظات..." اكمل بثقة اكبر "دخلت القطة من هذه النافذة...هيا تفضلا..."
كانت فيلا ستيفنز ذات غرف و اروقة رحبة، فالصالونات كانت مفتوحة على بعض كنظام الفلل الغربية الفاخرة، شعرت لميس و هي تقف بوسط صالات الفيلا كأنها في قصر ملكي كالتي تراها في الأفلام السينمائية من حين لآخر، كانت الجدران مليئة بالرسومات التي كان بعض منها مازال بحالة جيدة...كانت الطبيعة الموضوع الابرز على معظم الجدران ما عدا جدار واحد احتوى على رسمة لغجر يرقصون و يسيرون بجانب تلال خضراء، علق عاصم بفخر "سيد رشدي هذه الرسومات تم تنفيذها بيد رسام معروف حين بناء الفيلا فدعاه ستفنز خصيصا من بريطانيا لإتمام ديكورات الفيلا، فاذا احببت ترميمها هذا حق لك، ربما قد نستطيع ترشيح لك بعض من الرسامين المحلين لاتمام هذه المهمة اذا احببت انت و لميس هانم العقار،"
نظر رشدي بإعجاب الى اللوحات من حوله فمن الواضح ان هذا المكان كان مليئا بالحياة و بالمناسبات الإجتماعية في يوم من الأيام..."من الواضح سيد عاصم ان هذه الفيلا لم تكلف الكثير فقط بل هي لمالك يتمتع بذوق رفيع...من الواضح ان ستيفنز كان رجل انيق المحضر و الثقافة و الأصول، و لكن ما الذي سيجعله يبني مصيف مكلف كهذا لقضاء العطل فقط...هنالك امر لا افهمه،"
اجاب عاصم "صدقا لا اعلم بالضبط و لكن ثق تماما ان عددا من الأمراء و نبلاء المجتمع المصري حضروا الحفلات في هذه الصالات، هذه الفيلا لها تاريخها...هيا بنا، سأريكم المطبخ..."
سار الجمع بإتجاه ممر فسيح، لكن فجأة التفتت لميس للوحة كبيرة كانت على جدار ادراج في الصالة تصعد الى طابق علوي، كانت لرجل انجيليزي يرتدي زي قديم تقليدي كالتي في القرون الوسطى، كان يرتدي قميص عسلي و قبعة بنية مع معطف مفتوح من الأمام لونه اسود، لاحظة لميس ان اللوحة كانت مرسومة بإتقان رائع فنظرت بإعجاب اليها و الى الوجه الذي كان بارز به اشد التفاصيل، كانت بشرته بيضاء و عيونه زرقاء و ذو شعر اشقر...و كانت التجاعيد حول عينيه و حول فمه واضحة و تدل على كبره بالسن، كانت عينيه تبرق لمعان و اشراقا و كأنها تراقبها حيثما اتجهت بالصالة، كان الرجل وسيما جدا و يقف بكل كبرياء و عزة في اللوحة و كأنه يخبر الناظر اليه بأنه سيد المكان، كان يمسك بيده كتاب مكتوب عليه عنوان بالإنجليزية، سألت عاصم "سيد عاصم من صاحب هذه الصورة..."
نظر عاصم الى الصورة و اجاب "نحن اشترينا هذه الفيلا من السفارة البريطانية من عامين، و قالت لنا مندوبتها ان اللوحة لصاحب القصر...اللورد جاك ستيفنز، فبناها لاسرته اولا حيث اعتاد زيارة مصر فكان من اصدقاء الأسرة الملكية المصرية حينها، و لكنها لم تبقى بعهدتهم طويلا، فحدث طارئ اجبرهم على بيعها للسفارة و مغادرة مصر،"
سأل رشدي و هو يتأمل عظمة المكان من حوله "ألم تعلم ماذا حدث معهم؟"
"لا اعلم فلم يخبرنا احد شيئ، هيا الى المطبخ،"
كان مطبخ فيلا ستيفنز عبارة عن صالة كبيرة مساحتها سبعون مترا مربعا، و كانت مليئة بخزائن جدارية سفلية و علوية بنية اللون موزعة على مساحة جدران المطبخ، كانت بعض من ابوابها مكسورة و ذات لون مهترئ تخبر الناظر اليها بقدمها، فكانت غير مصانة منذ رحيل اصحاب الفيلا في اوائل القرن الحالي، و كان في منتصف المطبخ طاولة كبيرة بنية اللون لإعداد الطعام محاطة بستة كراسي خشبية، كانت الكراسي قديمة جدا و مليئة بالغبار و لونها البنية مهترئ، اقترب رشدي من الطاولة ليتفحصها عن قرب بينما اكمل عاصم شرحه عن المطبخ..."المطبخ كبير جدا و يمكن اذا اردتم قسمه الى غرفتين للإستفادة من مساحته الكبيرة، و كما تلاحظون..."
نظر رشدي اليها بتمعن، لهث لسانه فجأة من مادة كانت تملأ سطحها، انتشرت بالأجواء من حوله رائحة نتنة اشعرته بالرغبة بالتقيؤ، توالت افكاره و هو يحلل ما يراه بالفيلا "اثاث المطبخ قديم يجب تغيره، هذه الطاولة مع كراسيها ربما عمرها من عمر المنزل كسائر الديكورات، فجأة لفت انتباهه الأصوات التي كانت تصدرها خطواته على الأرضية الخشب، كانت قديمة مثل سائر اثاث المطبخ، بل في مكان ما شعر من صوت خطواته بأن هنالك فجوة تحت الأرضية، مما يعني ان الأرضية قد تكون غير مستوية تحت الواح الخشب و بحاجة لترميم كلي، و على الأكيد هنالك الحشرات و الفئران و الجرذان التي قد تكون منتشرة بالطابق الأرضيي فالخشب خير ما تجده الحشرات دائما لبناء بيوتها فيه، و قد تكون كثيرة بمنزل مهجور كهذا،" شعر بخيبة امل كبيرة فكلفت صيانة المطبخ قد تكون غالية جدا...
"رشدي بيه! هل تحضرنا هنا انا و لميس،"
اقترب منهم رشدي فقرأ عاصم خيبة الأمل في عينيه فورا، فقال له "ربما حالة المطبخ ليست جيدة ، و لكن يا سيدي سنسدد لك خمسون بالمئة من كلفة صيانته، فهذه هدية من مكتب عقارنا لك...اختر انت ما تريد و من عند اجدع نجار موبيليا بالقاهرة و نحن سنكتب شيك بنصف مبلغ الصيانة، و يا سيدي سنغطي خمسون بالمئة من كلفة دهان جدران المطبخ ايضا..."
قاطعته لميس مصعوقة "شكرا لك عاصم بيه، هذا كرم منكم...!"
اجاب رشدي مجادلا "يا سيدي، لو تمت عملية بيع الفيلا انتم ايضا بالرغم من هذه الإكراميات ستربحون مبلغ و قدره..."
ضحك عاصم و قال "رجل بوليسي ذو نظرة ثاقبة...يا سيدي الدنيا أخذ و عطاء، و نحن ايضا نبحث عن مرابح حلال...و نريد خدمة لزبائننا،"
اكمل عصام "هيا يا جماعة...سنصعد الى الطابق العلوي..."
ذهبت لميس الى نافذة كبيرة تطل على جانب من الحديقة الفسيحة التي تحيط بالفيلا، و كان على مقربة منها باب كبير يؤدي الى الحديقة ايضا، نظرت الى الخارج فإذ بكوخ خشبي صغير الحجم موجود بزاوية بعيدة محاط بثلاثة اشجار كبيرة، فجأة سمعت نباح كلب قريب منها، شعرت و كأنه ينبح من داخل اسوار الفيلا، كانت لميس تحب الكلاب كثيرا و لكن بيتها التي كانت تسكن به صغير و كان غير مناسب لتربية الكلاب، ففجأة شعرت بالسرور للفكرة، نظرت الى رشدي و سألت مترجية كالطفة الصغيرة "الحديقة مناسبة لتربية الكلاب...و هنالك حتى كوخ خشبي يمكن تخصيصه كبيت لها...ارجوك يا رشدي لو قررنا شراء الفيلا..."
تغيرت ملامح رشدي و اجاب بإستياء "يا عاصم بيه، زوجتي تحب ثلاث حاجات بالحياة...المكياجات و الفساتين و الكلاب ...منزلي الحالي جميل و لكنه بالإيجار و صغير...و لكن منذ الآن فصاعدا...ربنا يستر..." ضرب كفا بكف و هو ينظر الى زوجته،
ضحك عاصم و قال "يا سيدي لو أخبرك عن زوجتي...انا اخصص ميزانية خاصة لكلاب الجِرْمِنْ شيبرد الاربع التي نمتلك في مزرعتي...تفضلوا بزيارتنا على الرحب و السعة قريبا بالمزرعة بالفيوم و سترى الهناء الذي انا به...يا سيدي انا تزوجت زوجتي على ضره اسمها الكلاب..."
خرجت لميس من المطبخ الى الحديقة و نظرت حولها لتبحث عن الكلب الذي كان ينبح، فلم تجد شيئ اطلاقا، تركت عاصم و رشدي يتكلمان بالمطبخ و سارت بين الأشجار و هي تتفقد مصدر الصوت لبضعة دقائق و لكن لتتفاجئ بأن صوت النباح الذي يملأ حديقة الفيلا لا مصدر واضح له...نظرت وراء الأسوار فلم تجد اية كلاب من حولها...عادت الى المطبخ و مسحة على عتبة المدخل الطين عن نعلها من جراء الأمطار، كان عاصم و زوجها بطريقهم الى الصالات من جديد فلحقتهم و هي تفكر بنوع الكلاب التي قد تشتريها للهو معها، و لكن سرعان ما تسلل الى قلبها امر جعل قلبها ينقبض من جديد...هذه الفيلا غريبة جدا...فما تلبث ان تسكن السعادة قلبها الا و احداث غريبة تسرقها من قلبها...اين الكلب الذي كان ينبح؟
**************************
سارت الغجرية بخطوات ثقيلة و مرهقة في الشارع المؤدي الى فيلا ستيفنز، كانت بعد كل خطوتين تأخذهما بساقيها الضعيفة تحرك عصاتها التي بيدها اليمنى الى الأمام و تثبتها على الأرض المبتلة من مطر السماء لتصدر ايقاعًا ثابتا مع خطاها، كانت تشعر بإلبرد الشديد مع كل هبة من هبات رياح الخريف الباردة فتحول لون خديها الأبيض الى الأحمر و ارتجفت يدها و هي تمسك بعاصاتها فكان سنوها الثمانون خريف آخر يغازل خريف الطبيعة من حولها...او هذا ما تذكره عن عمرها، فكانوا من الغجر الرُحَلْ بين بلاد النيل في قارة افريقيا، و بعد بضعة دقائق صارعت بهم البرد و الشتاء وصلت الى فيلا ستيفنز و توقفت امامها، نظرت اليها بصدمة لدقيقة من الزمن و الى حالها المتردي...اين ذهب وهجها الذي كان حديث الزمالك منذ عدة عقود...اين ذهبت السيارات الفاخرة التي كانت تحيط بها في كل ليلة جمعة في سهرات السمر و الطرب...اين البشوات التي سكنوها و الأمراء الذين كانوا يزوروها من حين لأخر...اربعة عقود فقط تبدلت فيهم الأحوال و كان هذا حال مسكن افخم العائلات البريطانيا التي زارت مصر في العقد الثاني من القرن الحالي...
نظرت بتمعن الى الجَمْع و هم يهمون بالخروج من بوابة الفيلا القديمة...اقتربت منهم بخُطَاها البطيئة و نادت "يا بنيتي! يا بنيتي!"
التفتت اليها لميس و اجابت "هل تناديني يا امي؟"
ارتسمت ملامح الإستياء على وجه رشدي و هو ينظر الى الغجرية، اجابت "نعم يا بنيتي، الى اين تظنين نفسك ذاهبة،"
اجابت لميس "لا افهم قصدك، ماذا تهدفين من سؤالك...؟"
"انت تذهبين نحو المجهول، هذه الفيلا فيها اسرار لا يعلم عنها احد شيئ...اسرار دفنت منذ زمن بعيد،"
صرخ رشدي "لا تضيعي وقتنا يا إمرأة، انا ضابط و سارميكِ بالسجن ان ازعجتينا اكثر من هذا..."
نظرت اليه الغجرية بعيون عارفة و اجابته بنبرة شديدة "اعلم من انت...كما اعلم ان مهنتك حولت قلبك الى صخر لا يشعر مع احد...و لكن ثق تماما لا تحل الأمور بالعصبية و الصراخ و الجبروت...لا تدع السلطة تقتل ضميرك،"
اجاب عاصم "هيا اعطيها قرشين لتذهب لحال سبيلها...كل الغجر يريدون الربح من وراء قرائة البخت..."
"لو اريد قرائة البخت لقرأته منذ اللحظات الأولى...لكن هذه البُنَيًة تذهب الى درب لا تعرف عنه شيئ...اسمعيني يا بنيتي، هنالك مجهول دائما ينتظر المرء بالمستقبل...من غير المسموح لي ان اخبرك الكثير...و لكن سأكسر اعراف مهنتي بالتنبؤ و سأقول لك شيئ،...مهما ارعبتك الايام القادمة ايمانك بالله هو طوق نجاتك..." نظرت الى الفيلا لبرهة من الزمن ثم قالت "اصحابها و من بناها مسهم السوء لأنهم كانوا غير مؤمنين...و شككوا بأمور كثيرة، كانوا ضعفاء جدا مع خصومهم..." نظرت الغجرية الى لميس و أمرتها "انظري الي..."
نظرت لميس الى عينيها فلهث لسانها لأنها لم تستطع ازالتهم عنها، اكملت الغجرية "ستعطيكِ انت و رشدي زوجك الحياة امتحان...عليكم النجاح به و الا لن تنجوان و سيكون مصيركم كالذين قبلكم..."
صرخ رشدي "من اين عرفتي اسمي؟ انت ساحرة! لا تتحركي من مكانك! السجن مصير امثالك!"
"اسمعي يا بنيتي، انا اتكلم بألغاز، لكن لن تستطيعي الهروب من قدركِ...يجب ان تواجهي ما ينتظركِ...سينتهي عذابك في وادي الملوك...خدامي ردوه عنكم منذ قليل و لكن لن يستطيعوا منعه كثيرا،"
اقترب رشدي لوضع الحديد بيديها و لكنها اكمالت مسيرها قائلة "قدرك مكتوب يا بني آدم منذ ايامك الأولى في هذا العالم...ما من احد يستطيع الهروب من قدره...واجهي قدرك بشجاعة يا لميس..."
قال رشدي "هيا يا لميس...لا تعطيها اذنك...هذه ساحرة و قوتها الضحك على الناس..."
قالت لميس بخوف "رشدي، كيف عرفت اسمك و اسمي، كما انني رأيت بعينها امرا..."
"عاصم ينتظر، هيا لنمضي عقد الفيلا يا لميس..."...يتبع...
كانت السماء الملبدة بالغيوم منذ الصباح الباكر تنذر بيوم ماطر بإمتياز، فابتدأ الخريف يشعرهم بسلطانه خصوصا مع اشتداد الرياح الباردة المشبعة بقطرات اللغيث على الطبيعة من حولهم، فارتفع بالخلفية صوت ايقاعاتها و هي تنهمر بحنو على الارصفة و الشوارع و السيارات حيث كانوا بالأسبوع الأول من شهر نوفمبر، ابتلت الطبيعة من حولهم رويدا رويدا و الهبات تتوالى ان اصبح السير بسرعة على الشارع امرا مستحيلا، فابتدأت السيارات العابرة بالسير ببطئ تفاديا للإنزلاقات و الحوادث، داعبت الأمطار وجه لميس و ارتجف جسمها بشدة من البرد، فامسكت معطفها و احكمت اغلاقه على صدرها و نظرت من حولها الى بعض المارة بالشارع، فمنهم من فتح مظلته لتقيه من الأمطار القادمة ثم اكمل سيره و منهم من ابتدأ بإيقاف سيارات للإجرة لتفادي موجة البرد و الشتاء، ارتفعت داخل اسوار الحديقة فجأة بعض من اوراق الأشجار الملونة و اليابسة مع حركة الرياح النشطة فتطايرت بعض منها الى خارج اسوار الحديقة و ذهبت بعيدا الى ارجاء مختلفة بالحي السكني الذي كانوا به، فتوضح للميس ان هذه ليست اشجار خالية من الروح كما اعتقدت في بدائ الامر بل كانت مثمرة و تساقطت اوراقها عند قدوم فصل الخريف، و حملت الرياح بعض من الأوراق و نثرتها على جوانب مدخل الفيلا البعيد، نظرت لميس الى الأوراق اليابسة و هي تنتشر على ارض المدخل رويدا رويدا فابتسمت للمنظر فكان جميل جدا، و اشعرها ببعض الهدوء و الراحة خصوصا بعد ان انقبض قلبها حال وصولهم الى العقار من منظره القديم و المهمل، سارت نحو جانب من جوانب سور الفيلا و هي تفكر في ذاتها "و من الجافي يخلق حلاوة"، فالخريف بريشته المبدعة رسم امامها مشهد جميل اضفى على العقار بعض من الجمال، اقتربت من الحديقة قليلا لتمعن النظر بمنظر الأشجار و ارضها المليئة بالأوراق الملونة فكانت تحب الخريف جدا بما يجلب من جمال موسمي مفقود في فصل الصيف الحار و الجاف، سمعت تغاريد عصفور بدا لها و كأنه قريب منها، بحثت عنه فلم تجده فاستغربت لأن صوته كان عالٍ و جميل جدا، و فجاة شاهدت امرا تسبب لها بالصدمة، فكانت هنالك نوافذ كبيرة على يمين و يسار المدخل الرئيسي موزعة على الواجهة الأمامية للطابق الأرضي، و كانت احدى النوافذ مفتوحة، لهث لسانها و هي تنظر بإستغراب للخيال الذي فجأة مر بجانب النافذة من الداخل، ما الذي يجري فقد اخبرهم السمسار ان العقار لم يُسْكَنْ منذ فترة العشرينيات.
عاد تركيزها الى الحوار الدائر بين زوجها و عاصم نورالدين امام بوابة الفيلا الرئيسية، فاقتربت منهم من جديد و القلق يسيطر عليها بسبب ما قد رأته للتو، ادخل عاصم المفتاح الذي بيديه في القفل و هو يكمل عن الفيلا "مساحتها ممتازة و تتألف من طابقين مساحة كل منها اربعمائة متر مربع، الطابق العلوي به غرفة معيشة كبيرة و اربعة غرف للنوم مع حمامين و الطابق الأرضي يه مطبخ كبير و صالتين كبيرتين مناسبتين لحفلات الكوكتيل و للحفلات الإجتماعية مع حمامين، انها مناسبة لسكن عائلة من الطبقة النبيلة، تحتاج للتصليحات و لكن حالها ليس سيئا،"
فتح بوابة الفيلا فاصدرت ابوابها صريرا عاليا انتشر بالأجواء لثانية من الزمن، ثم لمعت صاعقة قوية فوقهم مباشرة جعلت قلب لميس ينقبض في صدرها من جديد، فالأجواء القاتمة التي جلبتها الغيوم الرمادية جعلت للصاعقة وهجا مميزا اضاء الأجواء لثانية من الزمان، و سرعان ما تبعها رعد جبار طغى على صوت عاصم قليلا و هو يقول لهم "هيا تفضلا بالدخول،" سبقهما الى ممر عريض للسيارات و طويل كان بطول ثلاثون متر بينما شدة لميس رشدي من كم معطفه و هي تهم بالدخول وراء عاصم، و قالت بصوت منخفض في اذنه "قل ما تشاء بي و لكن حدث امر مريب منذ قليل يجعلني ارفض من هذه اللحظة..."
قاطعها و انتهرها رشدي قائلا "اخفضي صوتك كي لا يسمعنا عاصم، و احتفظي بأيًة تعليقات لحين اتمامنا الجولة...ارجوكِ،"
دخلا الفيلا و تبعا عاصم بخطوات بطيئة، فراقبا وضع الحديقة التي كانت مليئة بألأشجار المتنوعة، فعلق عاصم قائلا "هذه اشجار للزينة ، فزرعها مكتبنا حديثا و هي اشجار غير مثمرة، حين تقرران الشراء تستطيعان تغيرها و زراعة ما تريدان، فالتربة جيدة جدا لأغراض الزراعة المختلفة،"
سارت لميس وراء رشدي و هي تنظر اليها بحذر شديد، فبالرغم من قلة خبرتها بالزراعة الا ان صديقتها الهام قد تساعدها، فكانت تمارس الزراعة كهواية كثيرا بالرغم من عملها كفنانة بالسينما منذ نعومة اضفارها، و لكن هذا كلام سابق لآوانه، وجب عليهم تفحص العقار جيدا قبل ان يقررا شراءه، وصلا بعد دقيقة الى مدخل الفيلا، فتح عاصم الباب فصرخت لميس حينما قفزة قطة من الداخل فجأة الى الخارج، سأل رشدي بإستياء و هو يضم زوجته "من اين اتت هذه القطة؟ اهدئي يا لميس،"
ارتسم بعض التوتر على وجه عاصم و هو يجيب "ربما نسي زميلي ان يغلق احدا النوافذ حينما زار المكان مع زبون لمكتبنا بالأمس،" توجه الى الداخل و اغلق النافذة التي رأت لميس الخيال يمر بجانبها منذ لحظات..." اكمل بثقة اكبر "دخلت القطة من هذه النافذة...هيا تفضلا..."
كانت فيلا ستيفنز ذات غرف و اروقة رحبة، فالصالونات كانت مفتوحة على بعض كنظام الفلل الغربية الفاخرة، شعرت لميس و هي تقف بوسط صالات الفيلا كأنها في قصر ملكي كالتي تراها في الأفلام السينمائية من حين لآخر، كانت الجدران مليئة بالرسومات التي كان بعض منها مازال بحالة جيدة...كانت الطبيعة الموضوع الابرز على معظم الجدران ما عدا جدار واحد احتوى على رسمة لغجر يرقصون و يسيرون بجانب تلال خضراء، علق عاصم بفخر "سيد رشدي هذه الرسومات تم تنفيذها بيد رسام معروف حين بناء الفيلا فدعاه ستفنز خصيصا من بريطانيا لإتمام ديكورات الفيلا، فاذا احببت ترميمها هذا حق لك، ربما قد نستطيع ترشيح لك بعض من الرسامين المحلين لاتمام هذه المهمة اذا احببت انت و لميس هانم العقار،"
نظر رشدي بإعجاب الى اللوحات من حوله فمن الواضح ان هذا المكان كان مليئا بالحياة و بالمناسبات الإجتماعية في يوم من الأيام..."من الواضح سيد عاصم ان هذه الفيلا لم تكلف الكثير فقط بل هي لمالك يتمتع بذوق رفيع...من الواضح ان ستيفنز كان رجل انيق المحضر و الثقافة و الأصول، و لكن ما الذي سيجعله يبني مصيف مكلف كهذا لقضاء العطل فقط...هنالك امر لا افهمه،"
اجاب عاصم "صدقا لا اعلم بالضبط و لكن ثق تماما ان عددا من الأمراء و نبلاء المجتمع المصري حضروا الحفلات في هذه الصالات، هذه الفيلا لها تاريخها...هيا بنا، سأريكم المطبخ..."
سار الجمع بإتجاه ممر فسيح، لكن فجأة التفتت لميس للوحة كبيرة كانت على جدار ادراج في الصالة تصعد الى طابق علوي، كانت لرجل انجيليزي يرتدي زي قديم تقليدي كالتي في القرون الوسطى، كان يرتدي قميص عسلي و قبعة بنية مع معطف مفتوح من الأمام لونه اسود، لاحظة لميس ان اللوحة كانت مرسومة بإتقان رائع فنظرت بإعجاب اليها و الى الوجه الذي كان بارز به اشد التفاصيل، كانت بشرته بيضاء و عيونه زرقاء و ذو شعر اشقر...و كانت التجاعيد حول عينيه و حول فمه واضحة و تدل على كبره بالسن، كانت عينيه تبرق لمعان و اشراقا و كأنها تراقبها حيثما اتجهت بالصالة، كان الرجل وسيما جدا و يقف بكل كبرياء و عزة في اللوحة و كأنه يخبر الناظر اليه بأنه سيد المكان، كان يمسك بيده كتاب مكتوب عليه عنوان بالإنجليزية، سألت عاصم "سيد عاصم من صاحب هذه الصورة..."
نظر عاصم الى الصورة و اجاب "نحن اشترينا هذه الفيلا من السفارة البريطانية من عامين، و قالت لنا مندوبتها ان اللوحة لصاحب القصر...اللورد جاك ستيفنز، فبناها لاسرته اولا حيث اعتاد زيارة مصر فكان من اصدقاء الأسرة الملكية المصرية حينها، و لكنها لم تبقى بعهدتهم طويلا، فحدث طارئ اجبرهم على بيعها للسفارة و مغادرة مصر،"
سأل رشدي و هو يتأمل عظمة المكان من حوله "ألم تعلم ماذا حدث معهم؟"
"لا اعلم فلم يخبرنا احد شيئ، هيا الى المطبخ،"
كان مطبخ فيلا ستيفنز عبارة عن صالة كبيرة مساحتها سبعون مترا مربعا، و كانت مليئة بخزائن جدارية سفلية و علوية بنية اللون موزعة على مساحة جدران المطبخ، كانت بعض من ابوابها مكسورة و ذات لون مهترئ تخبر الناظر اليها بقدمها، فكانت غير مصانة منذ رحيل اصحاب الفيلا في اوائل القرن الحالي، و كان في منتصف المطبخ طاولة كبيرة بنية اللون لإعداد الطعام محاطة بستة كراسي خشبية، كانت الكراسي قديمة جدا و مليئة بالغبار و لونها البنية مهترئ، اقترب رشدي من الطاولة ليتفحصها عن قرب بينما اكمل عاصم شرحه عن المطبخ..."المطبخ كبير جدا و يمكن اذا اردتم قسمه الى غرفتين للإستفادة من مساحته الكبيرة، و كما تلاحظون..."
نظر رشدي اليها بتمعن، لهث لسانه فجأة من مادة كانت تملأ سطحها، انتشرت بالأجواء من حوله رائحة نتنة اشعرته بالرغبة بالتقيؤ، توالت افكاره و هو يحلل ما يراه بالفيلا "اثاث المطبخ قديم يجب تغيره، هذه الطاولة مع كراسيها ربما عمرها من عمر المنزل كسائر الديكورات، فجأة لفت انتباهه الأصوات التي كانت تصدرها خطواته على الأرضية الخشب، كانت قديمة مثل سائر اثاث المطبخ، بل في مكان ما شعر من صوت خطواته بأن هنالك فجوة تحت الأرضية، مما يعني ان الأرضية قد تكون غير مستوية تحت الواح الخشب و بحاجة لترميم كلي، و على الأكيد هنالك الحشرات و الفئران و الجرذان التي قد تكون منتشرة بالطابق الأرضيي فالخشب خير ما تجده الحشرات دائما لبناء بيوتها فيه، و قد تكون كثيرة بمنزل مهجور كهذا،" شعر بخيبة امل كبيرة فكلفت صيانة المطبخ قد تكون غالية جدا...
"رشدي بيه! هل تحضرنا هنا انا و لميس،"
اقترب منهم رشدي فقرأ عاصم خيبة الأمل في عينيه فورا، فقال له "ربما حالة المطبخ ليست جيدة ، و لكن يا سيدي سنسدد لك خمسون بالمئة من كلفة صيانته، فهذه هدية من مكتب عقارنا لك...اختر انت ما تريد و من عند اجدع نجار موبيليا بالقاهرة و نحن سنكتب شيك بنصف مبلغ الصيانة، و يا سيدي سنغطي خمسون بالمئة من كلفة دهان جدران المطبخ ايضا..."
قاطعته لميس مصعوقة "شكرا لك عاصم بيه، هذا كرم منكم...!"
اجاب رشدي مجادلا "يا سيدي، لو تمت عملية بيع الفيلا انتم ايضا بالرغم من هذه الإكراميات ستربحون مبلغ و قدره..."
ضحك عاصم و قال "رجل بوليسي ذو نظرة ثاقبة...يا سيدي الدنيا أخذ و عطاء، و نحن ايضا نبحث عن مرابح حلال...و نريد خدمة لزبائننا،"
اكمل عصام "هيا يا جماعة...سنصعد الى الطابق العلوي..."
ذهبت لميس الى نافذة كبيرة تطل على جانب من الحديقة الفسيحة التي تحيط بالفيلا، و كان على مقربة منها باب كبير يؤدي الى الحديقة ايضا، نظرت الى الخارج فإذ بكوخ خشبي صغير الحجم موجود بزاوية بعيدة محاط بثلاثة اشجار كبيرة، فجأة سمعت نباح كلب قريب منها، شعرت و كأنه ينبح من داخل اسوار الفيلا، كانت لميس تحب الكلاب كثيرا و لكن بيتها التي كانت تسكن به صغير و كان غير مناسب لتربية الكلاب، ففجأة شعرت بالسرور للفكرة، نظرت الى رشدي و سألت مترجية كالطفة الصغيرة "الحديقة مناسبة لتربية الكلاب...و هنالك حتى كوخ خشبي يمكن تخصيصه كبيت لها...ارجوك يا رشدي لو قررنا شراء الفيلا..."
تغيرت ملامح رشدي و اجاب بإستياء "يا عاصم بيه، زوجتي تحب ثلاث حاجات بالحياة...المكياجات و الفساتين و الكلاب ...منزلي الحالي جميل و لكنه بالإيجار و صغير...و لكن منذ الآن فصاعدا...ربنا يستر..." ضرب كفا بكف و هو ينظر الى زوجته،
ضحك عاصم و قال "يا سيدي لو أخبرك عن زوجتي...انا اخصص ميزانية خاصة لكلاب الجِرْمِنْ شيبرد الاربع التي نمتلك في مزرعتي...تفضلوا بزيارتنا على الرحب و السعة قريبا بالمزرعة بالفيوم و سترى الهناء الذي انا به...يا سيدي انا تزوجت زوجتي على ضره اسمها الكلاب..."
خرجت لميس من المطبخ الى الحديقة و نظرت حولها لتبحث عن الكلب الذي كان ينبح، فلم تجد شيئ اطلاقا، تركت عاصم و رشدي يتكلمان بالمطبخ و سارت بين الأشجار و هي تتفقد مصدر الصوت لبضعة دقائق و لكن لتتفاجئ بأن صوت النباح الذي يملأ حديقة الفيلا لا مصدر واضح له...نظرت وراء الأسوار فلم تجد اية كلاب من حولها...عادت الى المطبخ و مسحة على عتبة المدخل الطين عن نعلها من جراء الأمطار، كان عاصم و زوجها بطريقهم الى الصالات من جديد فلحقتهم و هي تفكر بنوع الكلاب التي قد تشتريها للهو معها، و لكن سرعان ما تسلل الى قلبها امر جعل قلبها ينقبض من جديد...هذه الفيلا غريبة جدا...فما تلبث ان تسكن السعادة قلبها الا و احداث غريبة تسرقها من قلبها...اين الكلب الذي كان ينبح؟
**************************
سارت الغجرية بخطوات ثقيلة و مرهقة في الشارع المؤدي الى فيلا ستيفنز، كانت بعد كل خطوتين تأخذهما بساقيها الضعيفة تحرك عصاتها التي بيدها اليمنى الى الأمام و تثبتها على الأرض المبتلة من مطر السماء لتصدر ايقاعًا ثابتا مع خطاها، كانت تشعر بإلبرد الشديد مع كل هبة من هبات رياح الخريف الباردة فتحول لون خديها الأبيض الى الأحمر و ارتجفت يدها و هي تمسك بعاصاتها فكان سنوها الثمانون خريف آخر يغازل خريف الطبيعة من حولها...او هذا ما تذكره عن عمرها، فكانوا من الغجر الرُحَلْ بين بلاد النيل في قارة افريقيا، و بعد بضعة دقائق صارعت بهم البرد و الشتاء وصلت الى فيلا ستيفنز و توقفت امامها، نظرت اليها بصدمة لدقيقة من الزمن و الى حالها المتردي...اين ذهب وهجها الذي كان حديث الزمالك منذ عدة عقود...اين ذهبت السيارات الفاخرة التي كانت تحيط بها في كل ليلة جمعة في سهرات السمر و الطرب...اين البشوات التي سكنوها و الأمراء الذين كانوا يزوروها من حين لأخر...اربعة عقود فقط تبدلت فيهم الأحوال و كان هذا حال مسكن افخم العائلات البريطانيا التي زارت مصر في العقد الثاني من القرن الحالي...
نظرت بتمعن الى الجَمْع و هم يهمون بالخروج من بوابة الفيلا القديمة...اقتربت منهم بخُطَاها البطيئة و نادت "يا بنيتي! يا بنيتي!"
التفتت اليها لميس و اجابت "هل تناديني يا امي؟"
ارتسمت ملامح الإستياء على وجه رشدي و هو ينظر الى الغجرية، اجابت "نعم يا بنيتي، الى اين تظنين نفسك ذاهبة،"
اجابت لميس "لا افهم قصدك، ماذا تهدفين من سؤالك...؟"
"انت تذهبين نحو المجهول، هذه الفيلا فيها اسرار لا يعلم عنها احد شيئ...اسرار دفنت منذ زمن بعيد،"
صرخ رشدي "لا تضيعي وقتنا يا إمرأة، انا ضابط و سارميكِ بالسجن ان ازعجتينا اكثر من هذا..."
نظرت اليه الغجرية بعيون عارفة و اجابته بنبرة شديدة "اعلم من انت...كما اعلم ان مهنتك حولت قلبك الى صخر لا يشعر مع احد...و لكن ثق تماما لا تحل الأمور بالعصبية و الصراخ و الجبروت...لا تدع السلطة تقتل ضميرك،"
اجاب عاصم "هيا اعطيها قرشين لتذهب لحال سبيلها...كل الغجر يريدون الربح من وراء قرائة البخت..."
"لو اريد قرائة البخت لقرأته منذ اللحظات الأولى...لكن هذه البُنَيًة تذهب الى درب لا تعرف عنه شيئ...اسمعيني يا بنيتي، هنالك مجهول دائما ينتظر المرء بالمستقبل...من غير المسموح لي ان اخبرك الكثير...و لكن سأكسر اعراف مهنتي بالتنبؤ و سأقول لك شيئ،...مهما ارعبتك الايام القادمة ايمانك بالله هو طوق نجاتك..." نظرت الى الفيلا لبرهة من الزمن ثم قالت "اصحابها و من بناها مسهم السوء لأنهم كانوا غير مؤمنين...و شككوا بأمور كثيرة، كانوا ضعفاء جدا مع خصومهم..." نظرت الغجرية الى لميس و أمرتها "انظري الي..."
نظرت لميس الى عينيها فلهث لسانها لأنها لم تستطع ازالتهم عنها، اكملت الغجرية "ستعطيكِ انت و رشدي زوجك الحياة امتحان...عليكم النجاح به و الا لن تنجوان و سيكون مصيركم كالذين قبلكم..."
صرخ رشدي "من اين عرفتي اسمي؟ انت ساحرة! لا تتحركي من مكانك! السجن مصير امثالك!"
"اسمعي يا بنيتي، انا اتكلم بألغاز، لكن لن تستطيعي الهروب من قدركِ...يجب ان تواجهي ما ينتظركِ...سينتهي عذابك في وادي الملوك...خدامي ردوه عنكم منذ قليل و لكن لن يستطيعوا منعه كثيرا،"
اقترب رشدي لوضع الحديد بيديها و لكنها اكمالت مسيرها قائلة "قدرك مكتوب يا بني آدم منذ ايامك الأولى في هذا العالم...ما من احد يستطيع الهروب من قدره...واجهي قدرك بشجاعة يا لميس..."
قال رشدي "هيا يا لميس...لا تعطيها اذنك...هذه ساحرة و قوتها الضحك على الناس..."
قالت لميس بخوف "رشدي، كيف عرفت اسمك و اسمي، كما انني رأيت بعينها امرا..."
"عاصم ينتظر، هيا لنمضي عقد الفيلا يا لميس..."...يتبع...