تدل سياسات كبرى الشركات النفطية الأوروبية «شل» و«توتال»، بالإضافة إلى «بريتش بتروليوم» والشركات النفطية الأميركية الكبرى أنهم بصدد استعمال أرباح الإنتاج النفطي لاستثمارها في الطاقات النظيفة، الطاقات ذات «صفر الانبعاثات». فبحسب بيان لشركة «شل» في 11 فبراير (شباط) الماضي، فإن هدف استراتيجيتها الآن «هو الإسراع لتحويل الشركة لتزويد منتجات طاقوية وخدمات ذات صفر الانبعاثات». كما أن «شل» مثل «بريتش بتروليوم» قد أعلنت أن إنتاجها النفطي السنوي قد وصل إلى ذروته في عام 2019، وأن هذا الإنتاج سينخفض 1 - 2 في المائة سنويا منذ الآن وحتى عقد الثلاثينات. من جانبها تتوقع «بريتش بتروليوم» انخفاض إنتاجها من 2.6 مليون برميل من النفط المكافئ يوميا في عام 2019 إلى 2 مليون برميل يوميا من النفط المكافئ في عام 2025، وفقط 1.5 مليون برميل يوميا من النفط المكافئ في 2030.
من جانبه، صرح رئيس شركة «توتال» باتريك بونييه أن الشركة «تتبنى نموذجا مستقبليا يشمل كلا من الاستثمار في النفط والغاز، مع التحول إلى الكهرباء وبدائل الطاقة خلال الفترة المتوسطة والطويلة المدى». وبحسب بونييه: «أنا فخور بسياسة الأسود (النفط) والأخضر (الطاقات النظيفة)... لأنه إذا لم يتوفر لدي الجانب الأسود، الذي يدر علينا الأموال للاستثمارات، فلن أستطيع المضي قدما نحو الجانب الأخضر».
وقد وقعت «توتال» مؤخرا عقودا (خضراء) مهمة، منها: عقد لتوليد 1.5 غيغاواط من الكهرباء بطاقة الرياح في الجزء البريطاني من بحر الشمال، وعقد آخر لتوليد الكهرباء من الطاقة الشمسية في الهند بقيمة 2.5 مليار دولار، وذلك كشريك بمساهمة 20 في المائة في مشروع «أداني للطاقة الخضراء» الذي تعتبره «توتال» واحدا من أضخم مشاريع الطاقة الشمسية عالميا. وتتوقع «توتال» زيادة الطاقات الخضراء التي تستثمر فيها من 3 غيغاواط في عام 2019 إلى 7 غيغاواط بنهاية عام 2020 لترتفع إلى 35 غيغاواط بنهاية 2025.
هذا سيعني بدوره انخفاضا في نسبة الاستثمارات البترولية حتى عام 2050، وكذلك تحول شركات النفط الكبرى إلى شركات طاقة سوداء وخضراء، مما يعني بدوره أن الشركات النفطية العملاقة تتطلع إلى عصر جديد من الطاقة، حيث السوداء تلعب دورا متضائلا، لكن تمول من خلاله الطاقة الخضراء المتزايدة.
إن الهدف المنشود الآن هو إمكانية استعمال الطاقة بصفر من الانبعاثات الكربونية بحلول النصف الثاني للقرن. ونظرا لضخامة التحول هذا، من الطبيعي أنه ستتخلل فترة الانتقال تطورات تسرع أو تعرقل من المخططات المرسومة، مما قد يؤثر على سرعة وإمكانية التغيير بحلول عام 2050 بالذات، إذ إن معظم التشريعات التي تم تبنيها حتى الآن عالميا تنص على عدم بيع السيارات (القديمة) في سنة محددة دون التطرق إلى إمكانية الاستمرار في استعمالها في الطرقات. وتدل التوقعات المتوفرة أنه من المتوقع في ظل هذه المعطيات أن يستمر العمل بملايين السيارات وبقية المركبات القديمة بعد عام 2050.
المهم في الأمر هو أن عملية تحول الطاقة قد بدأت فعلا. بالذات ولوج المرحلة الأولى للطاقات الجديدة، وذلك من خلال التحول إلى الطاقات النظيفة لتوليد الكهرباء. كما أنشئت الأرضية اللازمة للتوسع إلى الخطوة التالية من خلال التقدم العلمي المستمر واستثمارات الشركات والتأييد الحكومي من خلال التشريعات المحلية والعالمية لمكافحة الاحتباس الحراري، كما التأييد الشعبي الواسع عبر القارات ونشاط المنظمات غير الحكومية.
بدأت المرحلة الأولى بإحلال الطاقات النظيفة في توليد الكهرباء، حيث توسع استعمال الطاقات الشمسية والرياح وتدريجيا إضافة الهيدروجين (بعد استنفاذ التجارب العلمية اللازمة). فقد توسع توليد الكهرباء من الطاقات النظيفة في أوروبا. إذ اعتمدت أقطار المجموعة الأوروبية على الطاقات النظيفة أكثر من اعتمادها على الوقود الأحفوري (النفط والغاز والفحم) في توليد الكهرباء خلال عام الجائحة 2020، نظرا لانخفاض الاستهلاك الكهربائي أثناء الإغلاقات، فكان الاعتماد الأكثر على الطاقات النظيفة الأقل تكلفة. وتوسع تشييد محطات الطاقة الشمسية والرياح في معظم أرجاء العالم، ومنها الدول العربية: المغرب، مصر، الأردن، المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة.
لكن، رغم هذا التوسع في استعمال الطاقات النظيفة للكهرباء، وهو أمر مهم لتقليص الانبعاثات الكربونية، فإن هذا لم يؤثر كثيرا على استهلاك النفط. فالعكس هو صحيح، إذ ارتفع معدل الاستهلاك النفطي العالمي عن 100 مليون برميل يوميا خلال العقدين الماضيين. ولم يسجل أي انخفاض في الطلب سوى في عام 2020 بسبب إغلاقات (كوفيد - 19) فالتغير الكبير الذي حصل هو في توليد الكهرباء، حيث الاستبدال التدريجي للفحم بالغاز ومن ثم بالطاقات النظيفة. وقد تقلص استعمال غاز الوقود في توليد الكهرباء منذ ارتفاع سعر النفط في عقد الثمانينات. وتقلص استعمال غاز الوقود في المحطات الكهربائية الجديدة، حيث استعمل الغاز كبديل عن النفط والفحم لكونه أقل سعرا وتلوثا. لكن، بادرت الدول لاحقا وتدريجيا إلى استبدال الغاز أيضا، رغم انبعاثاته المنخفضة، بواسطة استعمال الطاقات النظيفة، وذلك من أجل تنفيذ الالتزامات في اتفاقية باريس للمناخ 2015 ومحاولة التوصل إلى «صفر من الانبعاثات» بحلول عام 2050، وهو الهدف المقبل.
شكل التحول الثاني في الطاقة الانتقال إلى المركبات الهجينة أو الكهربائية (الحديثة). ويشكل وقود المواصلات حوالي 50 في المائة من الاستهلاك النفطي العالمي. أخذت مسألة تغيير وقود المركبات أبعادا عدة. فقد تم تشجيعها في بادئ الأمر كوسيلة لتخفيض الاعتماد على المنتجات البترولية بعد ارتفاع أسعار النفط في الربع الأخير من القرن العشرين، ومحاولة تقليص الاعتماد على استيراد النفط من الشرق الأوسط، ثم تم تشجيع عملية التحول كوسيلة لتقليص الانبعاثات الكربونية. وأنشئت تدريجيا لدى معظم شركات السيارات العالمية الكبرى عدة فروع خاصة لتصنيع السيارة (الحديثة)، هذا بالإضافة إلى شركات متخصصة فقط بإنتاج السيارة الكهربائية، مثلا، شركة «تسلا» الأميركية. شجعت حكومات الدول الصناعية الشركات في بداية الأمر تطوير السيارة الحديثة عن طريق الدعم الاقتصادي والإعفاء الضريبي خلال المرحلة البحثية والتجريبية. ومن ثم تم الانتقال إلى المرحلة الثانية، وهي تشريع القوانين اللازمة لتشجيع السيارة الحديثة - كما يجري في الوقت الحاضر. وبالفعل شرعت بريطانيا عدم بيع السيارة المستعملة للبنزين أو الديزل (القديمة) بحلول عام 2025، كما شرعت قوانين مماثلة في الدول الأوروبية لعدم بيع السيارة (القديمة) بحلول أواخر عقد الثلاثينات. وتم تشريع قوانين مماثلة في دول شرق آسيا وولاية كاليفورنيا. هذا، ومن المتوقع أن تدعم إدارة الرئيس جو بايدن هذه السياسة قريبا. وبرزت ظاهرة جديدة مع التغيير من السيارة (القديمة) إلى (الجديدة) بتغيير أنماط المواصلات في المدن: ضرائب على السيارات في طرق داخلية للحد من استعمالها داخل المدن الكبرى، تشجيع السير إلى مراكز العمل والمدارس، وذلك بعودة عدد كبير من عائلات الطبقة المتوسطة إلى داخل المدن بدلا من النزوح إلى الضواحي، توسيع استعمال وسائل المواصلات العامة من المترو والقطارات الكهربائية والحافلات، استعمال البنزين والديزل الأخضر، وترشيد تدفق السيارات في شوارع المدن المكتظة.