ومن المرجح أن يكون وراء الواقعة بعض المراهقين أو العابثين، لكنها تؤشر من دون شك إلى هشاشة وضعنا، بدءا من هشاشة نظام التسجيل الالكتروني الذي يتيح لمن شاء تغيير أماكن الاقتراع لمجرد وضع رقم الهوية وتاريخ الميلاد، ثم رقم هاتف للتأكيد، ولعل الهشاشة الأكثر خطورة هي تلك التي تميز حالتنا السياسية برمتها، فتجعل من قضايا وطنية مصيرية رهنا بأمزجة جماعات وأفراد، وبأهوائهم ومصالحهم وحساباتهم، وليس بمنظومة صارمة واضحة، يخضع لها الجميع مهما كبروا أو علا شأنهم.
عكس الاهتمام العالي بواقعة "التلاعب"، مدى تعطش الناس للانتخابات التي حرموا منها طويلا، كما تظهر نسبة الإقبال العالية على التسجيل توقا جارفا للمشاركة، مع أن تعديل القانون باعتماد مبدأ التمثيل النسبي الكامل، وتحويل فلسطين إلى دائرة انتخابية واحدة، ألغى الحاجة مبدئيا للتسجيل، بعدما بات ورود اسم الشخص في سجل السكان، وامتلاكه رقم هوية، أمرا كافيا لضمان حقه الطبيعي في المشاركة.
من حق الناس الطبيعي أن تقلق بشأن "نزاهة" الانتخابات، وهو مصطلح فضفاض ونسبي ومتحرك، ولكنه بشكل عام يعني استقامة العملية الانتخابية، وأمانتها، ونظافتها، وعدلها، وابتعادها عن الشبهات، والتزامها بالقانون، ففي البلاد التي لا تحترم فيها السلطات والحكومات مواطنيها، يحصل الرئيس القائد حين يترشح على نسبة 99.99% من أصوات شعبه، وفي بلاد أخرى قد تستبدل أجهزة الأمن صناديق الاقتراع الحقيقية بأخرى بديلة، أو تحشو الصناديق الحقيقية بآلاف الأصوات المزيفة تحت سمع وبصر وتواطؤ الجهات المشرفة.
ويمكن لمختلف القوى في أي مجتمع، ممن تملك المال والسلطة والنفوذ أن تمارس تأثيرات شتى على إرادة الناخبين، سواء من خلال تهديدهم وتخويفهم، أو من خلال إغرائهم وشراء أصواتهم، وحتى من خلال السيطرة على وسائل الإعلام والتعبئة الجماهيرية وكل ما يساهم في صناعة الوعي العام، ولا تخلو دول متقدمة وعريقة في الممارسة الديمقراطية من مثل هذه التأثيرات للمال والنفوذ والإعلام، ففي الولايات المتحدة الأميركية لا يمكن لأي مرشح جدي أن يصل إلى مراحل متقدمة في السباق الانتخابي، من دون أن تملك حملته عشرات ملايين الدولارات التي يضبط القانون سبل جمعها وطريقة إنفاقها، وعادة ما تتحكم مراكز المال والشركات الاحتكارية ووسائل الإعلام الكبرى بتوجيه أنظار الناخبين نحو مرشحين بعينهم، فتعمد إلى إظهار جوانب حسنة وإيجابية في شخصياتهم، وتضخيم عيوب خصومهم.
أما عندنا في فلسطين، فمن الضروري التنبه إلى أن النزاهة مثلومة قبل أن تبدأ العملية الانتخابية أصلا، فالاحتلال يحرم مواطني القدس بأسرهم من المشاركة الطبيعية في الانتخابات أو يحصرها في قوائم بريدية جدّ محدودة، ويسمح لبقية المواطنين بممارسة هذا الحق خارج حدود مدينتهم وكأنهم جالية من شعب آخر، وحتى الذين يشاركون، يقومون بهذا الواجب وسط تهديدات وتلميحات سافرة بان ذلك يمكن أن يؤثر على احتفاظهم بالهوية الزرقاء، وعلى حق إقامتهم في مدينتهم الذي حولته إسرائيل من حق طبيعي إلى مشروط، وتحتجز سلطات الاحتلال الآلاف من قادة الشعب وكوادره وممثليه المنتخبين، وتمنع معظم الناس بمن في ذلك المرشحون من الانتقال بين منطقة وأخرى، وخصوصا للقدس، وبين الضفة وغزة، وقد استبق ضباط مخابرات الاحتلال الانتخابات فقاموا بتوجيه تهديدات علنية لبعض ممثلي التيارات السياسية باعتقالهم حال مشاركتهم في الانتخابات.
على الصعيد الداخلي، تظل نزاهة الانتخابات رهنا بإرادة الأطراف التي تتحكم بالسلطة وأدواتها، ومن المؤسف أن جلسة الحوار الوطني الأخيرة في القاهرة لم تول ضمانات نزاهة العملية الانتخابية الأهمية التي تستحقها، سواء في إبطال تأثير التدخلات والقرارات التي مست باستقلال القضاء، أو في توفير الضمانات العملية، الأمنية والرقابية والقضائية لضمان نزاهة الانتخابات.
يمنع القانون الفلسطيني استخدام موارد السلطة وإمكانياتها ورموزها، وكذلك استخدام دور العبادة في التأثير على الانتخابات، وينطبق ذلك على الموارد المالية والمكاتب والمقرات والسيارات الحكومية كما على وسائل الإعلام الرسمية التي يمكن لها أن تلمّع أشخاصا بعينهم فتظهر بطولاتهم وتحجب غيرهم أو تنفر الجمهور منهم، كما يحدد القانون سقوفا واضحة لصرف المال ويُجرّم استخدام المال في التأثير على الانتخابات، ومن المعروف أن الالتزام بهذه القيود والضوابط كان محدودا في كل الانتخابات السابقة، ولذلك فإن مهمة الجهات التي ستراقب الانتخابات أن تفتح عيونها جيدا، وأن تفعّل كل أدوات الاستشعار التي لديها دفاعا عن حق المواطنين في انتخاب من يمثلهم فعلا.
أخيرا يبقى التأكيد على أهمية احترام نتائج الانتخابات مهما كانت، والإقرار المبدئي أن كل هذه الانتخابات هي انتخابات لشعب ومؤسسات وفصائل تحت الاحتلال، وبالتالي فهي انتخابات لتقاسم الأعباء والمسؤوليات لا للوجاهة والامتيازات وتقاسم الغنائم.