وقف جون ستيفنز يصغي الى الصيحات التي انطلقت للتو من الحفريات امامه بذهول تام، فكانت المكافئة الماسية التي طالما انتظرها بشغف و صبر بعد الايام المرة و الطويلة التي قضاها تحت اشعة شمس وادي الملوك الحارقة، اخيرا و بعد شهرين من الحفر و البحث المرهق تكللت جهودهم بالنجاح و وجد ضالته التي لطالما حلم بها كعالم للاثار و هو مقيم في بريطانيا، فحتى المصاريف الكبيرة التي تكبدها خلال الفترة الماضية تلاشت اهميتها امام صرخات العمال و مباركة المشرف الشاب له و هو يتراقص من الفرحة قائلا :
"مبروك سيد جون، يظهر ان خارطة ورق البردي التي بين يديك صحيحة، ألف مبروك!"
خرج عامل آخرمن الحفرة بجلباب صعيدي رمادي ملطخ بالرمال و اقترب من جون و قال له بلهجة انجليزية ضعيفة "مبروك سيد جون، لا تنسى حلوان نجاح المهمة،"
نظر اليه بابتسامة عريضة و قال "لا تقلق، فالحلوان سيكون مجزي، و ستشتري الحلوى ايضا لزوجتك و اولادك، و قد تشتري لهم الهدايا ايضا"
نظر الى المشرف و قال له "هيا لننزل و نرى ماذا يوجد بقلب الحفريات،"
نزل جون و هريدي المشرف في الحفرة العميقة بحذر شديد جدا، فبالرغم من ان تنظيفها استغرق اكثر من عشرة ايام الا انها كانت ماتزال مليئة بالشوائب الصخرية و الأتربة، كانت بإنحدار خمسة و اربعين درجة و بعرض مترين و كانت تتجه بهم الى باطن الارض، اشعل جون مشعلا بالنار فاضاء المكان من حولهم، كانت الجدران المحيطة بهم صخرية لا تدل على وجود قبر في داخلها، فكانت اساسا مليئة بالحجارة الكبيرة مما اوحى له حين اكتشافها انه تم اغلاقها بهذا الشكل لمنع اللصوص من الوصول الى ما في آخرها، فحينما اكتشفها ايقن ان في أخرها شيئ ما ثمين و قد يكون القبر الذي يبحث عنه، و ها هو يتدرج بحذر في هذا النفق المظلم الذي اعده رجال حاتشبسوت منذ اكثر من ثلاثة آلاف و اربعمائة عام للتمويه عن ما قد يحوي من نفائس لهذه الملكة العظيمة، ثلاثين عامل عملوا بجد و نشاط لإنجاز هذا العمل و ها هم على وشك كتابة صفحة بكتاب تاريخ المكتشفات المصرية المعاصرة و اكتشاف ما عجز عنه علماء كثيرون قبلهم...ابتدا يتخيل عناوين الصحف البريطانية و ما قد تكتب عنه و هو يسير بحذر مع هريدي...تارة يزيل بقدمه بعض الحجارة الكبيرة خوفا من التعثر بها...و تارة ترتفع اصوات خطواتهم و هم يدوسون الرمال المبتلة و المخلوطة بالحجارة الصغيرة...و تارة ينظر بقلق الى الظلمة التي كانت تحيط بهم، فالمشعل الذي بيده كان ينير مسافة قصيرة امامهم فقط، ...
فجأة انتشر غبار بالأجواء مما جعل الرؤية غير واضحة، و ابتدأ يعلو بالمسافات البعيدة سعال بعض العمال تخللها اصوات المجارف اليدوية، فكانوا يملؤن القفف بالأتربة و الحجارة الصغيرة بواسطة مجارف يدوية، كان من الصعب صنع فتحات للتهوية في نفق مظلم يتجه نحو باطن الأرض، فالمنطقة صخرية و حفر الصخور كان سيستغرق اسابيع طويلة مما سيجعل المهمة شبه مستحيلة، بعد مسير دام ثلاثة دقائق وصلوا الى ما تبين لهم انه جدار صخري قوامه مترين في مترين مغطة من الخارج بالكامل برسومات هيروغليفية ملونة، كان هنالك ثلاثة عمال يملؤن قففهم بالمجارف حينما وصلوا الى المكان، فاشار لهم بالتوقف و تأمل التحفة الاثرية التي كانت امامه، لهث لسان البروفيسور جون مما رأه فالكتابات بدت و كأنها رُسِمَتْ بالأمس فقط، لم يصدق اطلاقا حالة الجدار الممتازة فالصخور و المدخل المسدود بالكامل على سطح اليبس لعب دور كبيرا بمنع الهواء من الوصول الى المكان، كما ان طبيعة الأرض الصخرية و المناخ الصحراوي منع وصول اية مياه جوفية الى المكان...انها معجزة كبيرة ان يبقى هذا المكان محفوظ بهذا الشكل الجيد رغم مرور آلآف السنين عليه...
سأل احد العمال جون "ماذا بأمر هذه الرسومات...؟"
اجابه هريدي "لا تقلق يا صادق بأمرها، فهي ترحب بالضيوف..." ثم ضحك هو و جون ضحكات قوية دوت بكل النفق و اصدرت اصداء لبضعة ثواني..."
شعر صادق بالإحرج بسبب تنمر هريدي عليه، فاجاب "يعني لأنني خرجت من مدرسة القرآن من سنة ثالثة ابتدائي و لا اجيد المطالعة و الكتابة أتسخر مني؟ والدي لم يسجلني حتى بمدرسة الأب ساموئيل في كفر النواره بقربنا..."
اجاب جون "هون عليك يا صادق، هذه الرسومات لا تدرس بأي معاهد للكُتًاب او مدرسة،"
اجاب العامل الثاني "طيب انا تزوجت من مثقفة يا جماعة، اخذت زوجتي و قد انهت تعليمها، ماذا فعلت بالتعليم؟ ها هي تطبخ و تكنس و تمسح و تربي الأولاد..."
اجابه صادق "يعني يا احمد التعليم ماذا سيجدي نفعا...الست ليس لها سوى الطبيخ و تربية العيال...او تساعد الرجال بالزراعة..."
نظر صادق الى الجون و قال "هيا يا بروفيسور...قول لنا ماذا تعني هذه الرسومات...اراها كثيرا هنا بالأقصر بالاثار فماذا تقول؟"
قال البروفيسور "هذه الرسومات عبارة عن لعنات...كتبوها القدماء بلغتهم لإخافة اللصوص الذين يحاولون سرقة الأثار هنا، انها تقول الموت سيخيم على من يحاول دخول هذا المكان، لعنة الإله أمون رع ستلاحقه لتسرق من دياره الخير و الصحة، الجان الذي يخدمه سيسكن ببيوت من يقتحم هذا المكان و يأخذ منه محتوياته و لن يجعله يرى الخير بحياته أطلاقا، هذا المكان مسكون بالجان الذي يخدم الإله أمون رع،"
صرخ صادق من الخوف "انها اللعنة! انها لعنة الفراعنة!" ابتعد عن الجدار و هو بحالة هلع كبيرة و ارتسم على وجهه علامات الفزع "اهربوا من امام اللعنة!ِ"،
اجاب احمد "يا ساتر...و الله لو علمت ماذا هنا لما عملت بالنفق من الاساس يا بروفيسور!"
اجاب هريدي بمحاولة لتهدئتهم "هذه مجرد رسومات لإخافة من يحاول سرقت القبور..."
صرخ العامل الثالث و هو يسير الى الخلف مع صادق و احمد "يا بروف الفراعنة لا تمازح من يدوس اراضيها، هذه لعنات مقلقة..."
اجاب معترضا "لعنات ماذا؟ دقيقة، فانا لم اكمل بعد ما هو مكتوب..."
قال هريدي "لا تغضب منهم يا بروف، فالإشعات كثيرة حول هذه الامكنة بمناطقنا..."
"عودوا فانا سأكفل سلامتكم، بل سأدفع لكم ضعف ما تقبضونه حاليا..."
هرب صادق و احمد من المكان و بقي عبدالسميع مع هريدي، فبالرغم من علامات القلق المرسومة على وجهه الا ان مضاعفة اجره نجحت بجعله يراجع حساباته،
قال له هريدي "شكرا يا عبدالسميع،" مد يده داخل جيبه و اعطاه مبلغ سخي من المال، نظر عبد الى المبلغ بتمعن و قال "انا خادمك يا بروفيسور، قل لي ماذا تريد..."
ابتسم جون و قال "لا تصدق الخرافات و كن صاحب منطق، فليس من شياطين تلاحق بني آدم و الخزعبلات كثيرة بهذه الأماكن...هي اكسر هذا الحائط...هريدي ساعده لو سمحت.."
ابتعد البروفيسور ليفتح المجال لعبد و هريدي ليعملان، فأخذا مهدات يدوية ثقلية و بدآ يضربان الجدار بقوة، فانهارت اجزاء منه بسهولة الى ان سقط بعد دقيقة واحدة فقط بالكامل...
انتشرت الأتربة بالأجواء من حولهم لبرهة من الزمان ثم تلاشت فجأة حينما انتشرت بالمكان نسمة خفيفة لم يعرف مصدرها، نظر القوم الى بعضهم البعض لدقيقة ثم قال هريدي "و كأن هنالك فتحة ما أتت منها هذه النسمة من الداخل؟"
قال جون و هو بقمة سروره هيا لندخل، عبدالسميع اشعل مشعلين لنا،
ابتدأ عبد بتنفيذ الأمر فورا، و بعد برهة من الزمن انارت المشاعل المكان جيدا، قال هريدي مرحبا بالفكرة "هيا يا دكتور فالتكن اول من يصنع هذه اللحظات الحاسمة من التاريخ،" دخل البروفيسور و تبعه هريدي و لكن فجأة احس عبد بنسمة هواء نشطة من حوله فانطفئ مشعله، فقال لهم "ساتبعكم بعد قليل بعد ان اعيد اشعال مشعلي..."
"اجابه هريدي ممازحا و هو يلحق بالبروفيسور"هيا يا عبد لا تكن جبانا، و لا تضع الحجج، سنحتاجك لتنظيف المكان هنا و لحمل النفائس الى الخارج، بمفردي سيكون الأمر صعبا،"
"دقيقة يا هريدي، ها انا قادم..."
خيم الظلام حول عبد لبرهة من الزمان و زملائه يبتعدون عنه الى داخل الحجر المكتشفة، بحث عن الكبريت بجيبه الا انه لم يجده في بادئ الأمر، فالتوتر من الظلام الدامس سيطر عليه بسرعة، قال بصوت مسموع "ساعدني يا إلهي...أه اخيرا وجدتك،"
اشعل الكبريت و لكنه صرخ من الخوف "من انت!" للوجه الذي ظهر فجأة بجانبه،
"لن تعيش لتشعل مشعلك..."
ارتعب مما رآه و سمعه فكان تهديدها واضحا، من اين اتت هذه الإمرأة ؟ و فجأة شعر برعب كبير يزلزل كيانه، بل تحولت قدميه الى كتلت جليد و هو يصغي الى امر لم يلاحظه من قبل، كان صوت شيئ ضخم يزحف على الأرض بجانبه، حاول الصراخ و لكن لم يطعه لسانه من كميات الرعب التي سيطرت عليه، فالصوت كان يقترب منه رويدا رويدا...
قال بصوت ضعيف "من انتٍ؟"
اجابت بصوت مستفز سائلة "كم عمرك يا عبد..."
تجمدت الدماء بعروقه من الخوف، فصوتها لم يكن يطمئن، اجاب و فكيه ترتجف من هول الموقف " ثلاثون عاما،"
"انا عمري مائة ضعف عمرك يا هذا...هل انت شاطر بالحساب...؟"
شعر بِنَفَسِهَا و هي تجيبه على رقبته، كانت قريبه منه جدا، و فجأة شعر بالشيئ الذى كان يزحف على الأرض و كأنه يتوقف بجانبه،ابتدأ بالبكاء و هو يشعر به يصعد على جسده...ارتجف جسده من شدة الرعب و حاول الصراخ لهريدي فلم تصدر منه الا بعد اللهثات الضعيفة...كان الشيئ يلتف حول ساقيه بقوه...فجأة لمعت الحقيقة في ذهنه عن ما كان يحاول مهاجتمه...حاول الإمساك به و ابعاده عنه و لكن جسده كان كبيرا و قويا و كان يحكم قبضته على ساقيه، فجأه شعر به و هو يلف جسده على خسره...فابدأه بالصراخ فائلا "هريدين! جون! النجده"
قالت له "لن تستطيع الإفلات منه..."
"من انتِ!" سألها عبد باكيا و صارخا...
قالت "انا خادمة الكاهنة..."
"ابتعدي عني!" تحول صراخه الى عويل ليجد بعد ثواني اضاءه تقترب منه من داخل القبر، فجأة شعر بالكائن يلف جسده حول صدره و جسمه من الأعلى...ابتدأ يشعر بضيق تنفس و كأن الذي يلتف حول جسده حنش ضخم يحاول يخنقه...، فجأة اقترب جون و هريدي منه و هم يصرخان "ماذا هنالك يا عبد..."
فقد عبد القدرة على الكلام، سلط هريدي مشعله على المدخل ليرى حنيش ضخما يلتف على جسد عبد، صرخ جون من الرعب و قال لعبد "تمالك نفسك، سأقتله بالمسدس!"
صرخ هريدي فجأة و قال للإمرأة "من انتٍ!"
كانت معلقة فوق الأرض تنظر بإبتسامة على عبد و هو يفقد حياته ببطئ بين براثن حنيشها، صرخت بهم "لن تستطيعا الإفلات مني!" فركت يديها بعضهم ببعض فزاد الحنيش ضغطه على جسد عبد وانتشرت بالأجواء صوت طقطقت عظام عالية، صرخ عبد من شدة الألم لبرهة من الزمن ثم فارق الحياة، افلته الحنيش فارتطم بالإرض جثة هامده، رمى جون مشعله على الحنيش فخاف و ابتعد عنه...اطلق رصاصة على الإمرأة و لكنها مرت خلالها بكل سهولة...اومئت الإمرأة بيديها من الأسفل الى الأعلى و صرخت "انهض! انهض!" فصرخ هريدي من اللأم و انحنى و هو يمسك بقدمه اليسرى، صرخ بشدة حينما رأى ما كان يلسعه و جلس على الأرض، انتشرت حولهم عشرات العقارب و صعدت على جسده و اوسعته من لسعاتها المريرة، صرخ هريدي بشدة و انتفض على الأرض من شدة الألم و العقارب تصعد على جسده و تلسعه بشدة...
صرخ جون بجنون "ابتعدي عني يا عاهرة!!!"
اجابته الخادمة "ستدفعون الثمن!!!"
اختفت فجأة و هو يجري بالنفق و بيده المشعل، كان يريد الخروج بأي ثمن و هو على قيد الحياة، و لكن سرعان ما شعر بيد تدفعه نحو جدار النفق، فارتطم به بشدة و سقط على الأرض، شعر بدمائه تسيل من وجهه، صرخ بجنون "ابتعدي عني!!! ماذا تريدين مني!!!"
نهض من جديد ليرى ضوء الشمس على مسافة قريبة منه، فعلم ان المدخل على بعد امتار قليلة، حاول الجري الا انه شعر بإرهاق شديد من الجرح الذي بوجهه، فسار و هو يتمايل يمنتا و يسارا الى ان وصل الى المدخل و خرج الى نور الشمس، سار بسرعة الى سيارته التي كانت واقفة على مقربة من مكان الحفريات و صعد الى داخلها ببطئ، نظر من حوله بذهول تام، كان المكان خاليا من البشر، اين ذهبت الخيم و المعدات؟ و اين المصريين الذين كانوا يساعدوه بالحفريات؟ تذكر الرسومات التي اخافت العمال، توالت الافكار في ذهنه و هو يستعد للفرار من المكان، كان معهم حق، لعنة الفراعنة حقيقة و ليست خرافة، نظر بمرآة كانت على المقعد بجانبه فارتعب من حجم الجرح الذي كان ينزف من جبينه، اخذ بعضا من الويسكي من زجاجة كانت بالقرب منه و حاول تضميد الجرح، فكان المعقم الوحيد الذي بحوزته، صرخ من الألم قليلا و لكن سرعان من انقطع النزيف الشديد، اشعل محرك السيارة و اتجه نحو القاهرة و هو حتى لا يعلم ان كان سينجو فكان متعب جدا،
***********
القاهرة – 1965 – الزمالك...
نظرت لميس الى الفيلا امامها بتردد كبير، كان سادس منزل مستقل تراه مع زوجها رشدي لليوم الثاني من البحث المتواصل عن سكن لهم، ، فكانوا برفقة سمسار كبير في القاهرة يتفقدون الشقق و الفلل المختلفة بعد ان قررا الاستقرار و شراء عقار خاص بهم، فقد سكنا بالايجار بما يكفي و اخيرا قررا اخذ هذه الخطوة الهامة بعد جلسة نقاش وافية منذ يومين، فكانت الاحوال تتحسن رويدا رويدا معها كإمراة عاملة و مع زوجها الذي تلقى ترقية جديدة بوظيفته بالحكومة، فاصبح مع بعض من زملائه يمسك منصب هام كمحقق و مفوض اعلى للقضايا التي تعجز مكاتب الامن بالقاهرة على حلها، و اوكلت وزارة الداخلية اليه القضايا التي تم اغلاقها من دون ان يُعْرَفْ من مرتكبها... او كما تعرف بقضايا فاعل مجهول في محافظة الامن بالجيزة بالتحديد، فاصبح المحقق المقدم رشدي الحريري بنسر و نجمه على كتفيه مما جعل له هيبه و برستيج و مكانه مهنية ارفع من السابق،
حل رشدي قبل ترقيته ملفات امن حساسة جدا بالدولة ابسطها قضايا تهريب الاثار و ملاحقة تجارها و كشف ألغاز عجزت شخصيات امنية كثيرة على حلها، مثل قضية سفاح القاهرة سنة 57 التي بقية لخمسة سنين مفتوحة من دون ايجاد القاتل، فكانت حول سفاح معتوه نشرالرعب بقلوب كل سكان القاهرة حينما قتل خمسة فتيات خلال فترة الخمسة سنين التي بقي فيها ملف القضية مفتوحا... و كأنه كان يُسَرْ بعجز الشرطة عن ايجاده فكان يقتل بنفس الوقت من كل عام إمرأة بطرق بشعة من دون ترك اية ادله اطلاقا لكشف هويته، كان بارعا جدا في جريمته لدرجة ان اربعة محققين من اذكى و اقوى ضباط الأمن عجزوا عن كشف هويته، الى ان وقع الملف بين ايدي الرائد رشدي، فطالعه بالكامل و استفاض بحثا بكل ملابسات القضية الى ان اكتشف بالصدفة حلقة وصل بين الضحايا لم يستطيع زملائه الذين سبقوه اكتشافها، فللذي لا يمعن بالتفاصيل كثيرا لن يكتشف ان اول حرف من اول اسم من كل الضحايا كان يكون اسم امراة، فاول ضحية كان اسمها سناء عبد المطلب، و الثانية ايناس السلحدار، و الثالثة مريم صلاح الدين، و الرابعة ياسمين ابوالدهب، و الخامسة توحيدة النابلسي، اكشتف هذا الأمر حينما جلس في ذات يوم يراجع نتائج التحقيق و يفكر بالطريقة التي كانت الشرطة تجد فيها جثث الضحايا، فكان يتم القتل بمكان ما خفي عن الأنظار ثم في اوقات الفجر فجأة كانت تلقى الضحية عند رصيف احد الطرق بالقاهر، و تنوعت هذه الأماكن باحياء مختلفة لكي لا تستدل الشرطة على مكان اقامة الجاني، فما كانت تجد الشرطة الا الجثث الهامدة مطعونة في المعدة، و كانت تقارير الطب الشرعي تفيد بأن الضحايا كانت تتعرض لعمليات اغتصاب شرسة قبل القتل،
جلس على مكتبه في يوم من الايام و الملف بيد حينما تملكه يقين قوي بأن هنالك امر صارخ الوضوح بين ثنايا معلومات و اوراق الملف لم يدركه بعد ...و فجأة اثناء كتابته لأسماء الضحايا بصورة عامودية على ورقة و هو بتفكير عميق تنبه الى ان اول حرف من اول اسم لهن يُكَوٍنْ اسم "سامية..."، شعر بالصدمة العنيفة من هذا الأمر اذ تبين له فجأة ان هذا السفاح ينتقي ضحاياه بصورة تدل على عقلية اجرامية مريضة و بشعة...و قد تكون لإمرأة اسمها سامية علاقة بالموضوع، فأمر الفريق الذي معه بالتحري الكامل عن اذا كانت هنالك شخصية بهذا الإسم على علاقة بالضحايا، و سرعان ما اتاه مفتاح الفرج...فاتضح انها صديقة للخمسة ضحايا، و كانت زوجة لرجل اعمال معروف في القاهرة اسمه حاتم البحيري، و قد تزوجها بعد ان توفيت زوجته و تركت ورائها طفل عمره خمس سنوات اسمه سالم، و لكن اثبتت التحقيقات انها لم تكن زوجة اب صالحة و ام حنونة لسالم ابن زوجها، فلم تكن تحسن معاملته و كانت تضربه كثيرا اثناء طفولته الى ان نضج و دخل الجامعة، فانفصل عن عائلة ابيه، و اختار سالم العيش بشقة بحي فاخر اشتراها له والده الذي كان يحبه كثيرا، شعر رشدي بعد هذه المعلومات انه وصل الى ادلة كافية تشجعه للبحث بصورة اكبر بحياة سالم، فكان الوريث الوحيد لثروة حاتم باشا و صاحب طفوله معذبة قد تدفعه للإتنقام من زوجة ابيه و من النساء عموما...
اسبوع من المراقبة كان كفيل لاستخراج مذكرة تفتيش لشقة سالم، و حدث هذا اثناء غيابه بالجامعة حيث اخذ رشدي وقته هو و عناصر الأمن بعملية التفتيش بهدف ايجاد دليل ادانة واحد بحقه، و لكن فشل التفتيش بتحقيق هدفه، و بالرغم من هذا الامراستدعى رشدي سالم للتحقيق معه بمكتبه، و اثناء التحقيق نجح بالضغط عليه كي يعترف بكل جرائمه، فرمى رشدي عليه قلم فامسكه بيده الشمال، ليخبره بعدها بأن تقارير الطب الشرعي تفيد بأن قاتل النسوة اشول...فانهار سالم و اعترف بجرائمه البشعة بحق صديقات زوجة ابيه، فكان يريد ارعابها و تحطيم قلبها من الحزن على صديقاتها كما حطمت طفولته بسوء معاملتها له، و سرعان ما رفع رشدي ملف القضية الى المدعي العام ليتم محاكمة سالم بتهمة القتل المتعمد، و في اليوم التالي تصدرت مستجدات القضية كل الصحف القومية بمصر حيث وصفت المانشتات رشدي بشليرلوك هولمز القاهرة الذي اوقع الصفاح المروع في قبضة العدالة، و ذاع صيته بأنه المحقق الذي لا تقف بوجهه قضية، و سرعان ما اتته الترقية و منصبه الجديد كمكافئة من وزير الداخلية على انجازه الأمني العريق، و اصبح من ابرز محققي القاهرة...
تفحصت لميس الفيلا من الخارج جيدا ريثما جمع السمسار في سيارته بعض من الأوراق بملف استعدادا ليأخذوهما بجوله في داخلها، كانت كبيرة و لكن مهملة بعض الشيئ من الخارج و قديمة و لا تشجع الزائر لشرائها اطلاقا، و حتى الحديقة امامها كانت مليئة باشجار عارية الأغصان و غير مثمرة...نظرت الى زوجها و قالت له "هيا لندهب من هذا المكان، فمنظرها الخارجي لم يشجعني على دخولها،"
اجابها "تريثي و لا تتعجلي بقرارك، فقد تكون من الداخل مناسبة لنا، اقله سنكون قد رايناها و شاهدنا اروقتها المختلفة قبل ان نأخذ اية قرارات بحقها،"
نزل السمسار من السيارة و اقترب منهم و عينيه العسليتين تلمع بالثقة و هو يقول "لا يغركم منظر هذه التحفة المعمارية من الخارج، فسعرها مناسب جدا للميزانية التي وضعتماها، و بالرغم من انها قديمة و غير مسكونة منذ فترة العشرينيات الا انه تم تصميمها على يد مهندسين بريطان مشهورين لعالم اثار بريطاني مكث بمصر لخمسة سنوات كاملة، و العالم سليل اسرة عريقة،"
سأل رشدي "لمن تعود هذه الفيلا اصلا.."
"كانت لآل ستيفز و هم عائلة مشهورة ببريطانا،" يتبع...
"مبروك سيد جون، يظهر ان خارطة ورق البردي التي بين يديك صحيحة، ألف مبروك!"
خرج عامل آخرمن الحفرة بجلباب صعيدي رمادي ملطخ بالرمال و اقترب من جون و قال له بلهجة انجليزية ضعيفة "مبروك سيد جون، لا تنسى حلوان نجاح المهمة،"
نظر اليه بابتسامة عريضة و قال "لا تقلق، فالحلوان سيكون مجزي، و ستشتري الحلوى ايضا لزوجتك و اولادك، و قد تشتري لهم الهدايا ايضا"
نظر الى المشرف و قال له "هيا لننزل و نرى ماذا يوجد بقلب الحفريات،"
نزل جون و هريدي المشرف في الحفرة العميقة بحذر شديد جدا، فبالرغم من ان تنظيفها استغرق اكثر من عشرة ايام الا انها كانت ماتزال مليئة بالشوائب الصخرية و الأتربة، كانت بإنحدار خمسة و اربعين درجة و بعرض مترين و كانت تتجه بهم الى باطن الارض، اشعل جون مشعلا بالنار فاضاء المكان من حولهم، كانت الجدران المحيطة بهم صخرية لا تدل على وجود قبر في داخلها، فكانت اساسا مليئة بالحجارة الكبيرة مما اوحى له حين اكتشافها انه تم اغلاقها بهذا الشكل لمنع اللصوص من الوصول الى ما في آخرها، فحينما اكتشفها ايقن ان في أخرها شيئ ما ثمين و قد يكون القبر الذي يبحث عنه، و ها هو يتدرج بحذر في هذا النفق المظلم الذي اعده رجال حاتشبسوت منذ اكثر من ثلاثة آلاف و اربعمائة عام للتمويه عن ما قد يحوي من نفائس لهذه الملكة العظيمة، ثلاثين عامل عملوا بجد و نشاط لإنجاز هذا العمل و ها هم على وشك كتابة صفحة بكتاب تاريخ المكتشفات المصرية المعاصرة و اكتشاف ما عجز عنه علماء كثيرون قبلهم...ابتدا يتخيل عناوين الصحف البريطانية و ما قد تكتب عنه و هو يسير بحذر مع هريدي...تارة يزيل بقدمه بعض الحجارة الكبيرة خوفا من التعثر بها...و تارة ترتفع اصوات خطواتهم و هم يدوسون الرمال المبتلة و المخلوطة بالحجارة الصغيرة...و تارة ينظر بقلق الى الظلمة التي كانت تحيط بهم، فالمشعل الذي بيده كان ينير مسافة قصيرة امامهم فقط، ...
فجأة انتشر غبار بالأجواء مما جعل الرؤية غير واضحة، و ابتدأ يعلو بالمسافات البعيدة سعال بعض العمال تخللها اصوات المجارف اليدوية، فكانوا يملؤن القفف بالأتربة و الحجارة الصغيرة بواسطة مجارف يدوية، كان من الصعب صنع فتحات للتهوية في نفق مظلم يتجه نحو باطن الأرض، فالمنطقة صخرية و حفر الصخور كان سيستغرق اسابيع طويلة مما سيجعل المهمة شبه مستحيلة، بعد مسير دام ثلاثة دقائق وصلوا الى ما تبين لهم انه جدار صخري قوامه مترين في مترين مغطة من الخارج بالكامل برسومات هيروغليفية ملونة، كان هنالك ثلاثة عمال يملؤن قففهم بالمجارف حينما وصلوا الى المكان، فاشار لهم بالتوقف و تأمل التحفة الاثرية التي كانت امامه، لهث لسان البروفيسور جون مما رأه فالكتابات بدت و كأنها رُسِمَتْ بالأمس فقط، لم يصدق اطلاقا حالة الجدار الممتازة فالصخور و المدخل المسدود بالكامل على سطح اليبس لعب دور كبيرا بمنع الهواء من الوصول الى المكان، كما ان طبيعة الأرض الصخرية و المناخ الصحراوي منع وصول اية مياه جوفية الى المكان...انها معجزة كبيرة ان يبقى هذا المكان محفوظ بهذا الشكل الجيد رغم مرور آلآف السنين عليه...
سأل احد العمال جون "ماذا بأمر هذه الرسومات...؟"
اجابه هريدي "لا تقلق يا صادق بأمرها، فهي ترحب بالضيوف..." ثم ضحك هو و جون ضحكات قوية دوت بكل النفق و اصدرت اصداء لبضعة ثواني..."
شعر صادق بالإحرج بسبب تنمر هريدي عليه، فاجاب "يعني لأنني خرجت من مدرسة القرآن من سنة ثالثة ابتدائي و لا اجيد المطالعة و الكتابة أتسخر مني؟ والدي لم يسجلني حتى بمدرسة الأب ساموئيل في كفر النواره بقربنا..."
اجاب جون "هون عليك يا صادق، هذه الرسومات لا تدرس بأي معاهد للكُتًاب او مدرسة،"
اجاب العامل الثاني "طيب انا تزوجت من مثقفة يا جماعة، اخذت زوجتي و قد انهت تعليمها، ماذا فعلت بالتعليم؟ ها هي تطبخ و تكنس و تمسح و تربي الأولاد..."
اجابه صادق "يعني يا احمد التعليم ماذا سيجدي نفعا...الست ليس لها سوى الطبيخ و تربية العيال...او تساعد الرجال بالزراعة..."
نظر صادق الى الجون و قال "هيا يا بروفيسور...قول لنا ماذا تعني هذه الرسومات...اراها كثيرا هنا بالأقصر بالاثار فماذا تقول؟"
قال البروفيسور "هذه الرسومات عبارة عن لعنات...كتبوها القدماء بلغتهم لإخافة اللصوص الذين يحاولون سرقة الأثار هنا، انها تقول الموت سيخيم على من يحاول دخول هذا المكان، لعنة الإله أمون رع ستلاحقه لتسرق من دياره الخير و الصحة، الجان الذي يخدمه سيسكن ببيوت من يقتحم هذا المكان و يأخذ منه محتوياته و لن يجعله يرى الخير بحياته أطلاقا، هذا المكان مسكون بالجان الذي يخدم الإله أمون رع،"
صرخ صادق من الخوف "انها اللعنة! انها لعنة الفراعنة!" ابتعد عن الجدار و هو بحالة هلع كبيرة و ارتسم على وجهه علامات الفزع "اهربوا من امام اللعنة!ِ"،
اجاب احمد "يا ساتر...و الله لو علمت ماذا هنا لما عملت بالنفق من الاساس يا بروفيسور!"
اجاب هريدي بمحاولة لتهدئتهم "هذه مجرد رسومات لإخافة من يحاول سرقت القبور..."
صرخ العامل الثالث و هو يسير الى الخلف مع صادق و احمد "يا بروف الفراعنة لا تمازح من يدوس اراضيها، هذه لعنات مقلقة..."
اجاب معترضا "لعنات ماذا؟ دقيقة، فانا لم اكمل بعد ما هو مكتوب..."
قال هريدي "لا تغضب منهم يا بروف، فالإشعات كثيرة حول هذه الامكنة بمناطقنا..."
"عودوا فانا سأكفل سلامتكم، بل سأدفع لكم ضعف ما تقبضونه حاليا..."
هرب صادق و احمد من المكان و بقي عبدالسميع مع هريدي، فبالرغم من علامات القلق المرسومة على وجهه الا ان مضاعفة اجره نجحت بجعله يراجع حساباته،
قال له هريدي "شكرا يا عبدالسميع،" مد يده داخل جيبه و اعطاه مبلغ سخي من المال، نظر عبد الى المبلغ بتمعن و قال "انا خادمك يا بروفيسور، قل لي ماذا تريد..."
ابتسم جون و قال "لا تصدق الخرافات و كن صاحب منطق، فليس من شياطين تلاحق بني آدم و الخزعبلات كثيرة بهذه الأماكن...هي اكسر هذا الحائط...هريدي ساعده لو سمحت.."
ابتعد البروفيسور ليفتح المجال لعبد و هريدي ليعملان، فأخذا مهدات يدوية ثقلية و بدآ يضربان الجدار بقوة، فانهارت اجزاء منه بسهولة الى ان سقط بعد دقيقة واحدة فقط بالكامل...
انتشرت الأتربة بالأجواء من حولهم لبرهة من الزمان ثم تلاشت فجأة حينما انتشرت بالمكان نسمة خفيفة لم يعرف مصدرها، نظر القوم الى بعضهم البعض لدقيقة ثم قال هريدي "و كأن هنالك فتحة ما أتت منها هذه النسمة من الداخل؟"
قال جون و هو بقمة سروره هيا لندخل، عبدالسميع اشعل مشعلين لنا،
ابتدأ عبد بتنفيذ الأمر فورا، و بعد برهة من الزمن انارت المشاعل المكان جيدا، قال هريدي مرحبا بالفكرة "هيا يا دكتور فالتكن اول من يصنع هذه اللحظات الحاسمة من التاريخ،" دخل البروفيسور و تبعه هريدي و لكن فجأة احس عبد بنسمة هواء نشطة من حوله فانطفئ مشعله، فقال لهم "ساتبعكم بعد قليل بعد ان اعيد اشعال مشعلي..."
"اجابه هريدي ممازحا و هو يلحق بالبروفيسور"هيا يا عبد لا تكن جبانا، و لا تضع الحجج، سنحتاجك لتنظيف المكان هنا و لحمل النفائس الى الخارج، بمفردي سيكون الأمر صعبا،"
"دقيقة يا هريدي، ها انا قادم..."
خيم الظلام حول عبد لبرهة من الزمان و زملائه يبتعدون عنه الى داخل الحجر المكتشفة، بحث عن الكبريت بجيبه الا انه لم يجده في بادئ الأمر، فالتوتر من الظلام الدامس سيطر عليه بسرعة، قال بصوت مسموع "ساعدني يا إلهي...أه اخيرا وجدتك،"
اشعل الكبريت و لكنه صرخ من الخوف "من انت!" للوجه الذي ظهر فجأة بجانبه،
"لن تعيش لتشعل مشعلك..."
ارتعب مما رآه و سمعه فكان تهديدها واضحا، من اين اتت هذه الإمرأة ؟ و فجأة شعر برعب كبير يزلزل كيانه، بل تحولت قدميه الى كتلت جليد و هو يصغي الى امر لم يلاحظه من قبل، كان صوت شيئ ضخم يزحف على الأرض بجانبه، حاول الصراخ و لكن لم يطعه لسانه من كميات الرعب التي سيطرت عليه، فالصوت كان يقترب منه رويدا رويدا...
قال بصوت ضعيف "من انتٍ؟"
اجابت بصوت مستفز سائلة "كم عمرك يا عبد..."
تجمدت الدماء بعروقه من الخوف، فصوتها لم يكن يطمئن، اجاب و فكيه ترتجف من هول الموقف " ثلاثون عاما،"
"انا عمري مائة ضعف عمرك يا هذا...هل انت شاطر بالحساب...؟"
شعر بِنَفَسِهَا و هي تجيبه على رقبته، كانت قريبه منه جدا، و فجأة شعر بالشيئ الذى كان يزحف على الأرض و كأنه يتوقف بجانبه،ابتدأ بالبكاء و هو يشعر به يصعد على جسده...ارتجف جسده من شدة الرعب و حاول الصراخ لهريدي فلم تصدر منه الا بعد اللهثات الضعيفة...كان الشيئ يلتف حول ساقيه بقوه...فجأة لمعت الحقيقة في ذهنه عن ما كان يحاول مهاجتمه...حاول الإمساك به و ابعاده عنه و لكن جسده كان كبيرا و قويا و كان يحكم قبضته على ساقيه، فجأه شعر به و هو يلف جسده على خسره...فابدأه بالصراخ فائلا "هريدين! جون! النجده"
قالت له "لن تستطيع الإفلات منه..."
"من انتِ!" سألها عبد باكيا و صارخا...
قالت "انا خادمة الكاهنة..."
"ابتعدي عني!" تحول صراخه الى عويل ليجد بعد ثواني اضاءه تقترب منه من داخل القبر، فجأة شعر بالكائن يلف جسده حول صدره و جسمه من الأعلى...ابتدأ يشعر بضيق تنفس و كأن الذي يلتف حول جسده حنش ضخم يحاول يخنقه...، فجأة اقترب جون و هريدي منه و هم يصرخان "ماذا هنالك يا عبد..."
فقد عبد القدرة على الكلام، سلط هريدي مشعله على المدخل ليرى حنيش ضخما يلتف على جسد عبد، صرخ جون من الرعب و قال لعبد "تمالك نفسك، سأقتله بالمسدس!"
صرخ هريدي فجأة و قال للإمرأة "من انتٍ!"
كانت معلقة فوق الأرض تنظر بإبتسامة على عبد و هو يفقد حياته ببطئ بين براثن حنيشها، صرخت بهم "لن تستطيعا الإفلات مني!" فركت يديها بعضهم ببعض فزاد الحنيش ضغطه على جسد عبد وانتشرت بالأجواء صوت طقطقت عظام عالية، صرخ عبد من شدة الألم لبرهة من الزمن ثم فارق الحياة، افلته الحنيش فارتطم بالإرض جثة هامده، رمى جون مشعله على الحنيش فخاف و ابتعد عنه...اطلق رصاصة على الإمرأة و لكنها مرت خلالها بكل سهولة...اومئت الإمرأة بيديها من الأسفل الى الأعلى و صرخت "انهض! انهض!" فصرخ هريدي من اللأم و انحنى و هو يمسك بقدمه اليسرى، صرخ بشدة حينما رأى ما كان يلسعه و جلس على الأرض، انتشرت حولهم عشرات العقارب و صعدت على جسده و اوسعته من لسعاتها المريرة، صرخ هريدي بشدة و انتفض على الأرض من شدة الألم و العقارب تصعد على جسده و تلسعه بشدة...
صرخ جون بجنون "ابتعدي عني يا عاهرة!!!"
اجابته الخادمة "ستدفعون الثمن!!!"
اختفت فجأة و هو يجري بالنفق و بيده المشعل، كان يريد الخروج بأي ثمن و هو على قيد الحياة، و لكن سرعان ما شعر بيد تدفعه نحو جدار النفق، فارتطم به بشدة و سقط على الأرض، شعر بدمائه تسيل من وجهه، صرخ بجنون "ابتعدي عني!!! ماذا تريدين مني!!!"
نهض من جديد ليرى ضوء الشمس على مسافة قريبة منه، فعلم ان المدخل على بعد امتار قليلة، حاول الجري الا انه شعر بإرهاق شديد من الجرح الذي بوجهه، فسار و هو يتمايل يمنتا و يسارا الى ان وصل الى المدخل و خرج الى نور الشمس، سار بسرعة الى سيارته التي كانت واقفة على مقربة من مكان الحفريات و صعد الى داخلها ببطئ، نظر من حوله بذهول تام، كان المكان خاليا من البشر، اين ذهبت الخيم و المعدات؟ و اين المصريين الذين كانوا يساعدوه بالحفريات؟ تذكر الرسومات التي اخافت العمال، توالت الافكار في ذهنه و هو يستعد للفرار من المكان، كان معهم حق، لعنة الفراعنة حقيقة و ليست خرافة، نظر بمرآة كانت على المقعد بجانبه فارتعب من حجم الجرح الذي كان ينزف من جبينه، اخذ بعضا من الويسكي من زجاجة كانت بالقرب منه و حاول تضميد الجرح، فكان المعقم الوحيد الذي بحوزته، صرخ من الألم قليلا و لكن سرعان من انقطع النزيف الشديد، اشعل محرك السيارة و اتجه نحو القاهرة و هو حتى لا يعلم ان كان سينجو فكان متعب جدا،
***********
القاهرة – 1965 – الزمالك...
نظرت لميس الى الفيلا امامها بتردد كبير، كان سادس منزل مستقل تراه مع زوجها رشدي لليوم الثاني من البحث المتواصل عن سكن لهم، ، فكانوا برفقة سمسار كبير في القاهرة يتفقدون الشقق و الفلل المختلفة بعد ان قررا الاستقرار و شراء عقار خاص بهم، فقد سكنا بالايجار بما يكفي و اخيرا قررا اخذ هذه الخطوة الهامة بعد جلسة نقاش وافية منذ يومين، فكانت الاحوال تتحسن رويدا رويدا معها كإمراة عاملة و مع زوجها الذي تلقى ترقية جديدة بوظيفته بالحكومة، فاصبح مع بعض من زملائه يمسك منصب هام كمحقق و مفوض اعلى للقضايا التي تعجز مكاتب الامن بالقاهرة على حلها، و اوكلت وزارة الداخلية اليه القضايا التي تم اغلاقها من دون ان يُعْرَفْ من مرتكبها... او كما تعرف بقضايا فاعل مجهول في محافظة الامن بالجيزة بالتحديد، فاصبح المحقق المقدم رشدي الحريري بنسر و نجمه على كتفيه مما جعل له هيبه و برستيج و مكانه مهنية ارفع من السابق،
حل رشدي قبل ترقيته ملفات امن حساسة جدا بالدولة ابسطها قضايا تهريب الاثار و ملاحقة تجارها و كشف ألغاز عجزت شخصيات امنية كثيرة على حلها، مثل قضية سفاح القاهرة سنة 57 التي بقية لخمسة سنين مفتوحة من دون ايجاد القاتل، فكانت حول سفاح معتوه نشرالرعب بقلوب كل سكان القاهرة حينما قتل خمسة فتيات خلال فترة الخمسة سنين التي بقي فيها ملف القضية مفتوحا... و كأنه كان يُسَرْ بعجز الشرطة عن ايجاده فكان يقتل بنفس الوقت من كل عام إمرأة بطرق بشعة من دون ترك اية ادله اطلاقا لكشف هويته، كان بارعا جدا في جريمته لدرجة ان اربعة محققين من اذكى و اقوى ضباط الأمن عجزوا عن كشف هويته، الى ان وقع الملف بين ايدي الرائد رشدي، فطالعه بالكامل و استفاض بحثا بكل ملابسات القضية الى ان اكتشف بالصدفة حلقة وصل بين الضحايا لم يستطيع زملائه الذين سبقوه اكتشافها، فللذي لا يمعن بالتفاصيل كثيرا لن يكتشف ان اول حرف من اول اسم من كل الضحايا كان يكون اسم امراة، فاول ضحية كان اسمها سناء عبد المطلب، و الثانية ايناس السلحدار، و الثالثة مريم صلاح الدين، و الرابعة ياسمين ابوالدهب، و الخامسة توحيدة النابلسي، اكشتف هذا الأمر حينما جلس في ذات يوم يراجع نتائج التحقيق و يفكر بالطريقة التي كانت الشرطة تجد فيها جثث الضحايا، فكان يتم القتل بمكان ما خفي عن الأنظار ثم في اوقات الفجر فجأة كانت تلقى الضحية عند رصيف احد الطرق بالقاهر، و تنوعت هذه الأماكن باحياء مختلفة لكي لا تستدل الشرطة على مكان اقامة الجاني، فما كانت تجد الشرطة الا الجثث الهامدة مطعونة في المعدة، و كانت تقارير الطب الشرعي تفيد بأن الضحايا كانت تتعرض لعمليات اغتصاب شرسة قبل القتل،
جلس على مكتبه في يوم من الايام و الملف بيد حينما تملكه يقين قوي بأن هنالك امر صارخ الوضوح بين ثنايا معلومات و اوراق الملف لم يدركه بعد ...و فجأة اثناء كتابته لأسماء الضحايا بصورة عامودية على ورقة و هو بتفكير عميق تنبه الى ان اول حرف من اول اسم لهن يُكَوٍنْ اسم "سامية..."، شعر بالصدمة العنيفة من هذا الأمر اذ تبين له فجأة ان هذا السفاح ينتقي ضحاياه بصورة تدل على عقلية اجرامية مريضة و بشعة...و قد تكون لإمرأة اسمها سامية علاقة بالموضوع، فأمر الفريق الذي معه بالتحري الكامل عن اذا كانت هنالك شخصية بهذا الإسم على علاقة بالضحايا، و سرعان ما اتاه مفتاح الفرج...فاتضح انها صديقة للخمسة ضحايا، و كانت زوجة لرجل اعمال معروف في القاهرة اسمه حاتم البحيري، و قد تزوجها بعد ان توفيت زوجته و تركت ورائها طفل عمره خمس سنوات اسمه سالم، و لكن اثبتت التحقيقات انها لم تكن زوجة اب صالحة و ام حنونة لسالم ابن زوجها، فلم تكن تحسن معاملته و كانت تضربه كثيرا اثناء طفولته الى ان نضج و دخل الجامعة، فانفصل عن عائلة ابيه، و اختار سالم العيش بشقة بحي فاخر اشتراها له والده الذي كان يحبه كثيرا، شعر رشدي بعد هذه المعلومات انه وصل الى ادلة كافية تشجعه للبحث بصورة اكبر بحياة سالم، فكان الوريث الوحيد لثروة حاتم باشا و صاحب طفوله معذبة قد تدفعه للإتنقام من زوجة ابيه و من النساء عموما...
اسبوع من المراقبة كان كفيل لاستخراج مذكرة تفتيش لشقة سالم، و حدث هذا اثناء غيابه بالجامعة حيث اخذ رشدي وقته هو و عناصر الأمن بعملية التفتيش بهدف ايجاد دليل ادانة واحد بحقه، و لكن فشل التفتيش بتحقيق هدفه، و بالرغم من هذا الامراستدعى رشدي سالم للتحقيق معه بمكتبه، و اثناء التحقيق نجح بالضغط عليه كي يعترف بكل جرائمه، فرمى رشدي عليه قلم فامسكه بيده الشمال، ليخبره بعدها بأن تقارير الطب الشرعي تفيد بأن قاتل النسوة اشول...فانهار سالم و اعترف بجرائمه البشعة بحق صديقات زوجة ابيه، فكان يريد ارعابها و تحطيم قلبها من الحزن على صديقاتها كما حطمت طفولته بسوء معاملتها له، و سرعان ما رفع رشدي ملف القضية الى المدعي العام ليتم محاكمة سالم بتهمة القتل المتعمد، و في اليوم التالي تصدرت مستجدات القضية كل الصحف القومية بمصر حيث وصفت المانشتات رشدي بشليرلوك هولمز القاهرة الذي اوقع الصفاح المروع في قبضة العدالة، و ذاع صيته بأنه المحقق الذي لا تقف بوجهه قضية، و سرعان ما اتته الترقية و منصبه الجديد كمكافئة من وزير الداخلية على انجازه الأمني العريق، و اصبح من ابرز محققي القاهرة...
تفحصت لميس الفيلا من الخارج جيدا ريثما جمع السمسار في سيارته بعض من الأوراق بملف استعدادا ليأخذوهما بجوله في داخلها، كانت كبيرة و لكن مهملة بعض الشيئ من الخارج و قديمة و لا تشجع الزائر لشرائها اطلاقا، و حتى الحديقة امامها كانت مليئة باشجار عارية الأغصان و غير مثمرة...نظرت الى زوجها و قالت له "هيا لندهب من هذا المكان، فمنظرها الخارجي لم يشجعني على دخولها،"
اجابها "تريثي و لا تتعجلي بقرارك، فقد تكون من الداخل مناسبة لنا، اقله سنكون قد رايناها و شاهدنا اروقتها المختلفة قبل ان نأخذ اية قرارات بحقها،"
نزل السمسار من السيارة و اقترب منهم و عينيه العسليتين تلمع بالثقة و هو يقول "لا يغركم منظر هذه التحفة المعمارية من الخارج، فسعرها مناسب جدا للميزانية التي وضعتماها، و بالرغم من انها قديمة و غير مسكونة منذ فترة العشرينيات الا انه تم تصميمها على يد مهندسين بريطان مشهورين لعالم اثار بريطاني مكث بمصر لخمسة سنوات كاملة، و العالم سليل اسرة عريقة،"
سأل رشدي "لمن تعود هذه الفيلا اصلا.."
"كانت لآل ستيفز و هم عائلة مشهورة ببريطانا،" يتبع...