هذا الخطاب قديم، وحتى قبل قيام دولة إسرائيل، إذ يمكن أن يقول قائل، إن شعبنا لم يُحسن اختيار ممثليه في الكنيست، فاستحق قوانين مصادرة أرضه والحكم العسكري، ثم إنه أحب جمال عبد الناصر فاستحق المزيد من التشرُّد والقتل، ثم إنه لم يحسن اختيار قيادته، فاستحق المزيد من الدمار، ثم قاده عرفات ثم أبو مازن الذي رضي بكل الحلول، ولهذا فهو لا يستحق تنفيذ أي اتفاق أُبرم معه أو مع سلفه ياسر عرفات، وتستحق غزة الحصار لاختيارها حماس، وقبل هذا استحقت الاحتلال لأنها كانت تحت قيادة مصرية، وسوف تتواصل سياسة حكومات إسرائيل مهما كان توجّه الفلسطينيين، لأن هناك هدفًا إستراتيجيًا يجب الوصول إليه، بغض النظر عن موقف الفلسطينيين وخياراتهم مما يجري.
هذه النبرة الاحتلالية الاستعلائية العنصرية التبريرية، يرددها معظم أبناء الشعب اليهودي، ثم تأثر بها، بقصد وبغير قصد، قطاع من الجمهور العربي، فظهر من يسعون إلى التغيير و"بعث الأمل" في مستقبل أفضل لهذه الجماهير، من خلال الانضمام إلى جوقة تحميل المشتركة، ومختلف القيادات الفلسطينية، مسؤولية سياسة حكومات إسرائيل العنصرية.
ويُفهم من هذا المنطق الداعي لعدم الخوض في السياسة، أن الكنيست ليست مكانًا تصنع فيه السياسة، فهي ملعب لكرة التنس والشطرنج وسباق الخيل.
إن ممارسة المشتركة للسياسة ليست منّة أو جميلا تُقدِّمُه لأحد، فالعنصرية ضدنا ليست نزوة سياسية، ويستحيل فصلها عن مجمل القضية الفلسطينية، وعندما يزعم البعض أن الانشغال في السياسة يسيء إلى قضايانا، فهو في الواقع يتهرَّب من مواجهة الحقيقة بأن العنصرية تمارَس ضده بالذات لكونه عربيًا وفلسطينيًا، وليس لأنّه صوَّت للمشتركة أو لأنه امتنع عن التصويت، أو لكونه صوَّت إلى حزب "ميرتس" أو إلى ليبرمان أو أي حزب آخر. حتى قانون القومية لم يُقِم أي اعتبار لمن خدموا في الجيش والأجهزة الأمنية الأخرى.
ثم ما هو التورط السياسي الذي تورَّط فيه النواب العرب؟ هل ركوب سفينة مرمرة بشكل سلمي مع أناس عُزّل للمطالبة بفك الحصار عن مليونيّ فلسطيني هو تطرُّف؟
هل التظاهر على شارع رقم "6" ضدّ جرائم القتل وإهمال السلطة هو تطرُّف وانشغال في السياسة؟ هل التظاهر ضد التَّهجير السُّكاني في النقب هو تطرُّف؟ هل الوقوف نصف ساعة على ناصية شارع تضامنا مع الأسرى هو تطرُّف؟ هل المطالبة بمحاكمة من أعدموا الأبرياء مثل إياد الحلاق وغيره من عشرات ومئات الشهداء هو تطرُّف؟ هل المطالبة بوقف التطهير العرقي في القدس ومنطقتها هو تطرُّف؟ هل دعوة دولة إسرائيل على الاعتراف بالمسؤولية عن نكبة شعبنا المستمرة هو تطرُّف؟ هل المطالبة بالعدالة التاريخية لشعبنا ولو نسبيًا هو تطرُّف؟ هل هذا هو الانشغال في السياسة؟
المشكلة الحقيقية، هي في تعليق تقصيرنا ومعاناتنا على أعضاء الكنيست العرب، فنحن نطالبهم بأن يفعلوا ما ليس بمقدورهم أن يفعلوه، حتى ولو صاروا ثلاثين عضوًا في الكنيست، بل حتى لو صوَّت العرب كلهم إلى حزب غانتس أو الليكود! ألم تعطي المشتركة للجنرال غانتس فرصةً لتشكيل حكومة، فهَرب منها كما لو كانت "كوفيد 19".
هل أقصد بهذا التخلي عن الكنيست ما دام أنها ليست المكان المناسب لتخليص الحقوق؟
أولا يجب على الأحزاب العربية التي تخوض الانتخابات، أن لا تبث أملا كاذبًا بأن عضوًا إضافيًا أو حتى عشرة أعضاء إضافيين من العرب سيغيّرون جوهر السياسة الإسرائيلية، والكف عن أسطوانة "الانتخابات المصيرية"، وعلى الجماهير أن لا تختزل نضالها في الأحزاب الممثلة في الكنيست، في الوقت ذاته من دون تجاهل لهذا الموقع أو التخلي عنه مرحليًا على الأقل.
كي نتقدم درجةً في نضالنا، نحتاج إلى إطار جامعٍ أكبر من القائمة المشتركة أو من القوائم العربية في الكنيست، نحتاج إلى حاضنة تظلل الجميع، وإلى تحديد الأهداف التي نتوخّاها، وعلى رأسها حقنا كجزء من شعب نُكِب وسُلبت منه حقوقه القومية، وهذا يعني تأسيس إطار يمثِّل كل بلدية ومجلس محلي بمعارضته وائتلافه في كل بلدة، وكل حزب وجمعية وحمولة وشريحة ورابطة ومؤسسة وغيرها، لأجل التوصُّل إلى إطار يشمل كل روافد شعبنا، بما فيها الأحزاب الممثلة في الكنيست.
هذه مهمة ممكن أن تتصدى لها مئات الشخصيات الوطنية والتشاور بشأن دعوة كبرى لعقد مؤتمر جامع للجماهير العربية كلِّها.
يجب إيجاد إطار جديد لدفع عجلة النضال إلى أمام، بدلا من الاستمرار في المراوحة في مكاننا وحصر نضال وطاقات جماهيرنا بين مصوتٍ للكنيست ومقاطِعٍ لها، فنحن في حاجة إلى تجميع كل الطاقات، بما فيها الأحزاب العربية في الكنيست كرافد من روافد كثيرة، حتى يتحول هذا الإطار الواسع إلى قائد لنضالنا بمشاركة الجميع، ليعمل في السياسة ويخوض فيها حتى قمة رأسه، ولا لسياسة النأي عن السياسة.