لي كلمة في مستهل هذه المقالة التي آمل ان الامس بها نواحي عديدة بهذا العمل الدرامي الكبير. فنعم و ألف نعم لكلمة عمل كبير لانها تنطبق على هذا الفيلم بالكامل من حيث السيناريو بكل حيثياته و الحوار و الاخراج و اداء الفنانين كافة و الهدف النبيل الذي يسعى لمخاطبة المجتمع به. فنحن امام مادة هادفة قلبا و قالبا اذ تسلط الضوء على مشكلة الفقر المهلك بصورة مميزة تخاطب المنطق و تجيش لها العاطفة من خلال مشاهده المثيرة، هذا ليس مديح عبثى فهذا اقل ما ينتج عن رواية للراحل الكبير احسان عبدالقدوس اذ ارتكز السيناريو على عمل كبير ليستمد حيويته الادبية منه…. و هذا ما خاطبت به الرأي العام من خلال مقالاتي بان السيناريو الذي يرتكز على فكر و خيال خصب او رواية دسمة سيكون ناضج بكل ابعاده…فستشدك احداثه لانها وليدة اديب مقتدر و ستكون الشخصيات مصقولة بمهارة على يد كاتبها لتكون مقنعة للممثل كي يستطيع تقمصها و تقديمها للناس بشكل مبدع…ارى الكثير من الاعمال الدرامية في هذه الايام التي يصفق لها الجمهور و يكرم كاتبها بالمهرجانات و انا بقمة تعجبي مما يحدث لانها عرجاء تعاني من اخطاء فاضحة فمثلا قد تكون الشخصيات متوازية لا تميزها اطباع مختلفة و قد تكون انفعالاتها متشابة في ساعات الفرح و الغضب خلال حلقات المسلسل او الفيلم… ليصبح الفيلم بارد من دون اثارة اطلاقا…. فالاخراج الجيد ضروري للفيلم و لكن لا بد ان تكون شخصيات ابطال الرواية ناضجة على الورق و لا بد ان يكون هنالك ما يميز شخصية عن آخرى… الاخراج يأتي هنا ليضع المخرج لمسته الابداعية و يخبرنا السيناريو و الحوار بالصوت و الصورة…لذلك لا بد و ان يكون المخرج ذو بصيرة ليتقن ما سيقدمه للمشاهدين… او يفضل ان لا يتعامل مع السيناريو اذا كان ضعيف او اقله ان يطلب اعادة كتابت المشاهد الضعيفة…و لا اقول هذا الا بهدف ابداء الرأي فقط… كي لا ننحدر بقيمة الافلام التي نقدمها الى ما دون المستوى…
فيلمنا كبير كما اسلفنا، و هو مأخوذ عن رواية الوصية للراحل احسان عبدالقدوس. العمل هو من اخراج الكبير أشرف فهمي و قد اخرجه و هو في ذروة نشاطه الفني اذ عرض هذا العمل في 19 نوفمبر – تشرين الثاني من عام 1984 في سينما ديانا كما تخبرنا موسوعة الافلام العربية في طبعتها الورقية، و في نفس السنة ايضا في 27 فبراير اخرج رواية آخرى لاحسان عبدالقدوس حيث كان العمل من بطولة الفنان الراحل احمد زكي و الفنانة نبيل عبيد…و اسم العمل الراقصة و الطبال، الروايتان من اروع ما يكون فالفنانين الذين اشتركوا بتقديمها مراد كبار بعالم الدراما و لكن الذي يميز لا تسألني من انا انها قصة من الممكن ان تحدث بأي وقت في دنيتنا الانسانية… في بيئة يقهر اهلها الفقر و العوز و اهمال الدولة…بيئة لا يعرف اهلها العيش الكريم اطلاقا. لذلك قد يشعر من يشاهدها بانها قريبة منه و قد تحرك مشاعر المرء ليتعاطف مع محنة ابطالها…فالفقر كان جبار قهار في يوم من الايام على اسرة لدرجة انه جعل أم اسمها عائشه مع حفظ الالقاب ) شادية( تبيع فلذة كبدها و ابنة من بناتها لإمرأة لا تستطيع الانجاب، و اسمها شريفة )مديحة يسري (، و بالرغم من ان القدر كان رحيم مع الأم اذ كانت تعمل اساسا في منزل من اشترت ابنتها لانها ميسورة الحال الا ان هذا الأمر لم يخفف من غصة الحزن التي سكنت في قلبها لسنين طويلة، فعائشة لم تكن سوى مربية في حياة ابنتها زينب – يسرا، فحرمها القدر مقابل نعمة ان تبقى معها ان تسمع منها كلمة امي…و حرمها من ان تعرف هويتها الحقيقية…و حرمها من ان تبيت في حضنها كابنة لها…و كل هذا مقابل مبلغ سترت به عائشة معدة اولادها من الجوع الذي كاد ان يفتك بها و باسرتها….فعليا و انا اتابع هذه الرواية انتفضت انسانيتي من الداخل لما قاست عائشة و قلبها مقسوم بين اولادها التي ذاقت الامرين و هي تربيهم مما تيسر لها من رزقة بيت مخدوميها… و بين ابنتها التي و ان تنعمت بالعيش كريم الا و ان حقيقة عدم معرفتها انها امها كانت تكويها بالعذاب و المرار العظيم…
الجنة تحت اقدام الامهات…فلا المال و لا ثروات اثرى اثرياء الارض تستطيع تعويض حنان الام لاولادها. و هذه احدا الاسباب التي جعلت عائشة تلتصق بابنتها لسنين طويلة في منزل شريفة… شعورها بالندم على ما اقترفته بحق ابنتها و علمها انه مهما تكن كمية الحنان التي قد وفرتها شريفة لابنتها لا شيئ سيعوض حنانها المباشر لابنتها… لذلك في منتصف الفيلم تقريبا و في مشهد جميل اجتمعت به عائشة مع اولادها و هم كبار و قد بلغوا بالعمر… فكان منهم وكيل النيابة جلال) محسن صبري( و الضابط مصطفى ) طارق الدسوقي( وليلى) الهام شاهين( و كانت مناسبة عيد ميلاد عائشة حيث اجتمعت العائلة على مائدة مليئة بالحلويات للاحتفال بالمناسبة… و لكن سرعان ما انقلبت الموازين راسا على عقب حينما فتح الاولاد مع والدتهم موضوع تركها لعملها عند منزل شريفة. فلم تتقبل عائشة الامر اطلاقا، و وبختهم على الحاحهم و دافعت عن تمسكها بالعناية بزينب بقولها انها يتيمه و تحتاج لرعايتها و قد ربتها كانها ابنتها و لشريفة افضال على اسرتها لن تستطيع مقابلتها بترك عملها… و ذرفت دموع مريرة للضغوط التي حاولوا اولادها ممارستها عليها و هي غير قادرة على البوح بالحقيقة التي اوجعتها لسنين طويلة… بانها تعتني بابنتها عند شريفة...مشهد درامي رائع نرى من خلاله كم عائشة متمسكة بزينب و بخدمتها فقد فتح اولادها في قلبها جرح كبير من دون ان يعلموا لنتسائل و نحن في منتصف هذه الرواية… عن مصير هذه العلاقة المتينة التي تسللت من خلالها عائشة مرارا و تكرارا الى ادق تفاصيل حياة زينب… فحتى كان يرتسم على وجه زينب علامات الاستغراب و هي ترى مربيتها تحاول ادارة حياتها من حين لآخر اكثر من والدتها… و لكن كانت تعود الى ذاتها لتلتمس لعاشة العذر بانها مربيتها و يحق لها هذا الامر…
في اكثر من مناسبة تسللت عائشة الى حياة زينب بصورة درامية رائعة و اخرجت مخالبها كأم و دافعت عن ابنتها باستماتة مذهلة… فحينما تعرف عليها مدحت درويش الذي يؤدي دوره فاروق الفيشاوي تسارعت وتيرة العلاقة بينهما بسرعة لتثير انتباه عائشة. فامسكتهم ذات ليلة و هم على باب الفيلا يقبلون بعض لتستاء من تطور هذه العلاقة. فاعجبني ردة فعل عائشة جدا ازاء الحرية التي كانت تتعامل بها ابنتها زينب مع خطيبها مدحت، حتى حينما اعترضت زينب على تدخل عائشة احتوت امها الموقف بصورة حازمة….فوصلت بعائشة الامر الى صفع زينب لتردعها عن الدخول بهذه العلاقة بصورة متسرعة…فمرة آخرى تم معالجة هذه المشاكل بصورة درامية رائعة اذ كون عائشة مربية زينب اعطى هذا الامر متنفس لعائشة لتمارس امومتها بصورة مبطنة على ابنتها و تحميها من ذئب قذر ثبت بمواقف عديده انه لا يريد الخير لزينب…
قصة عائشة مع زينب قصة مريرة فلم تتوقف المشاكل عند هذا الحد… فكادت ان تموت قهرا على ابنتها… فحينما سمعت كلام بطال عن خطيب زينب لم تتأخر باخبار شريفة بالامر… فترجتها لابعاد مدحت عن ابنتها، و لكن لم تتعظ زينب من نتائج اختبار شريفة و التي هي امها بالتبني لمدحت و اهله… فبعد زيارة تعارف في فيلا شريفة علموا من خلالها بكذبة بيضاء ان عائشة خسرت ثروتها منذ فترة رحلوا باكرا من زيارتهم بخطوة لا تفهم سوى ان هذا الامر لم يعحبهم... و بالرغم من هذا الامر صنع مدحت بزينب ابشع ما يمكن ان يصنع بعروس مقبلة على زواج. فاكد لها ان طينته كانسان غير طينة اهله و انه سيسافر الى جنيف ليرتب بعض الامور لاسبوع… ثم تطور الامر لشهر و من ثم سيعود ليكتب كتابه على زينب…و ذهب مدحت تاركا زينب تحلم بيوم زفافها عليه… وفي خضم استعدادها لحفل الزفاف و هي تقيس ثوب فرحها تسمع صديقتها و هي في العمل اخبار زفاف مدحت على امراة آخرى… فتصدم زينب جدا من الانباء و تقوم بالانتحار في منزلها…
في حقيقة الأمر اذا لنا ان نتخيل باذهاننا سلم للاحداث يقودنا الى ذروة الاحداث في الفيلم فتداخلات عائشة هي قمم صغيرة تقودنا الى هذه القمة الفيصلية على طريقنا نحو الذروة الدرامية للفلم… فنرى عائشة في قمة انهيارها و هي تبكي ابنتها التي ترقد على سرير الشفاء من الانتحار… فمدحت بعد ان جعل ابنتها تعيش حلم الزفاف و جعلها تتعلق به تركها فجاة ليسبب لها انهيار عصبي كلي… فما من انسان يقدم على الانتحار الا و يكون بحالة انهيار كلي من حالة نفسية مزرية او من صدمة عصبية عنيفة… و هنا كانت زينب منهارة مما صنعه بها خطيبها… انسان وصولي قذر لم يفكر الا بجيبه و مصلحته و لم يقدر عواطف و احاسيس خطيبته الرقيقة... فتمثل هذه الحادثة قمة فيصلية بحياة زينب اذ تتأجج الصراعات حول زينب المرهقة و المتعبة و تكوي فؤاد عائشة بالمر على ما اصاب ابنتها…
نصل الى ذروة الاحداث بصورة سريعة بعد تطورات على صحة شريفة هانم والدة زينب بالتبني…فترقد بالفراش لفترة من الزمن ثم بمشهد درامي حزين حيث توصي عائشة و زينب ببعض تفارق الحياة…شريفة تعلم بقرارة نفسها ان زينب ستكون بخير حتى و ان فارقت الحياة لانها سترث كل ثروتها لتؤمن لها العيش الكريم و ستكون في حضن عائشة اخيرا…انه زمن دوار يكوي تارة فؤاد عائشة بفراق ابنتها و يعيشها لسنين و هي غير قادرة على الاعتراف بها ابنة شرعية لها ثم تفارق الحياة من تبنت ابنتها ليعود الحق لاصحابه…دوامة طاحنة سببها بامتياز الفقر الذي يعيشه شريحة مسكينة من المجتمع…ففجأة يظهر ورثة بحياة زينب. و يكونا اقرباء لعائشة بالرغم من انهم لم يظهروا بحياتها من قبل. و لا يظهروا لاي اسباب انسانية بل ظنا منهم انهم قد يرثوا شيئا من عائشة. و لكن سرعان ما يعلموا ان شريفة باعت كل ما لديها ابنتها…فيزورا زينب بفيلاتها و يخبراها بالحقيقة بمحاولة لاثبات عدم شرعيتها كابنة للعائلة، انه انتقام بشع من قبل مرتزقة لا تؤمن الا بالمال و حينما لم تنله انتقمت بسبب قلبها الاسود…و هنا نرى ردة فعل عنيفة من من قبل زينب…فتذرف دموع مريرة لهذه الاخبار الجدبدة و تأحذ تقرير يعطيها اياه اقربائها و نذهب الى الطبيب الذي كان قد عاين امها المتوفية و شخصها بالعاقر…لتتأكد ان التقرير صحيح….و هنا نصل الى ذروة الاحداث في الفيلم…فتواجه زينب عائشة بهذه المساجدات لتشعر عائشة نفسها مجبورة لتقول لها الحقيقة…
لا ينتهي هذا العمل قبل ان يقول كلمة عن الجشع و الطمع…فترد زينب خطيبها الطماع فارغ اليدين و تسترد كرامتها امام مدحت و تطلب منه ان يغادر حياتها اطلاقا…فبهذا الموقف القوي ينتهي هذا الفيلم الذي امتعنا باجوائه الدسمة منذ مشاهده الاولى الى ختامه الذي شفى غليلنا من الشر و ما يقترفه بعالم اصبحت المبادئ به نادرة الوجود مع كل اسف…دنيا مصالح تدوس في دربه القلب النظيف حاملة شعار الغاية تبرر الوسيلة ليغدو صاحب القلب النظيف هو الحلقة الاضعف بهذه الايام..اعجبني كيف افتتح المخرج الفيلم بعملية بيع زينب للاسرة الغنية ثم استخدم تتر البداية ليخبر المشاهد عن طفولة زينب و مراحلها المختلفة الى ان نضجت و كبرت ريثما انتهت الشارة او غناء التتر ثم ابتدأ الفيلم حيثما انتهت ، فاستخدم المخرج المبدع هذا التتر باسلوب رائع و استفاد منها لان العمل دسم جدا….فشعرت و انا اتابعه ان مدة الفيلم لم تكفي ليعالج كامل معالجته الدرامية…فمثلا تبقى علاقة شريفة مع زينب بالظل…لتظهر شريفة بصورة ثانوية بالمشهد ليسلط الضوء العمل على علاقة عائشة و زينب بصفة اساسية…فلا نعلم شيئا عن طبيعة علاقة زينب بشريفة...كان يجب تسليط و لو قليل كم الضوء على هذه العلاقة الجوهرية بحياة زينب…كما ان اولاد زينب يبقون بالظل كثيرا بالرغم من ان زينب تدخل الى منزل عائشة كأنها فرد من افراد العائلة…فلا نرى معالجة و تفسير منطقي لهذه النقطة…فطبيعة الطبقة التي تنحدر منها زينب ثرية جدا مما يتنافى مع اختلاطها مع طبقات فقيرة…لتغدو عملية اختلاط زينب باولاد عائشة مثالية جدا و لا تتمتع بالواقعية…ظهور مصطفى الضابط باستمرار بالزي العسكري في كافة المشاهد الخاص به يبدو ان له مدلول درامي و لكن لا نرى تسليط هليها بالصورة الكافية…كما اسلفت هذه الرواية هي من وحي خيال كاتبها و لكنها مستلهمة كن واقع الطبقات الفقيرة بالمجتمع المصري و عند متابعتي للاحداث تبين لي ان مدة الفيلم كانت غير كافية لمعالجتها بابصورة الكافية…فربما كان الافضل بالراحل اشرف فهمي معالجتها على جزئين…لكانت احتفظت بدسامتها و رأينا ابعاد آخرى فيها زادت من جمالها الدرامية…و لكن مما لا شك به ان بين يدينا عمل درامي بمستوى اوسكار بامتياز…
(1) موسوعة الافلام العربية للاستاذ محمود القاسم