لم تنهر أميركا بعد، لكن انتشار وباء (كوفيد - 19)، والاضطرابات الاجتماعية، والفوضى السياسية، وحرائق الغابات، والركود الاقتصادي يسرّع وتيرة ما كان بالفعل تراجعاً للأمة يثير القلق. ومع محاولات الناس المستميتة لدعم وإنقاذ مؤسسات الدولة، قليل هم من يرون إلهاماً في الرواية، ويحلمون أحلاماً كبرى بما يمكن أن يحمله لهم المستقبل.
من تلك النماذج الاشتراكيون، الذين أتوا بفكرة «اتفاق أخضر جديد». ورغم عدم وجود تفاصيل وملامح واضحة لتلك السياسة، تتمثل الفكرة الأساسية في الجمع بين شنّ هجوم جريء على انبعاثات الكربون، وبين توسع لا يقل جرأة في الأمن الاقتصادي. كذلك سيتم الجمع بين العمل على تحقيق أهداف الطاقة الخضراء، وتوفير وسائل نقل، وإضافة ملحقات للمباني، وبين توفير الحكومة فرص عمل على نطاق واسع، وتعليماً مجانياً، وضمان الدخل.
ويؤكد مروّجو الفكرة أن اتفاقاً جديداً أخضر يمكن أن يوجِد عالماً مثالياً. لا تمثل تلك الرؤية ضيق أفق، أو تتضمن انخفاضاً مؤلماً للنمو الاقتصادي، وهو ما يطالب به بعض نشطاء البيئة، بل تتضمن وفرة نظيفة هادئة. ويمكن هنا اقتباس كلمات الكاتب آرون باستاني: «إنها شيوعية فاخرة تعتمد كلياً على التشغيل الذاتي»، ومستقبل مثل الذي ظهر في فيلم «ستار تريك» حيث يتم إنجاز كل الأعمال باستخدام التكنولوجيا، ويتقاسم البشر الأرباح والفوائد بشكل متكافئ.
تعني إعادة تصور المدينة الأميركية بالنسبة إلى الكثير من أولئك الناس أيضاً إعادة تصور لشكل الشرطة. لطالما كانت قسوة ووحشية الشرطة في معظم الولايات الأميركية سبباً أساسياً في الاضطرابات الأخيرة، بل أيضاً في التوترات العرقية، التي تغلي ببطء داخل المجتمع منذ وقت طويل، والتي جعلت حتى المدن الأميركية الأكثر تحرراً وليبرالية تبدو بعيدة كثيراً عن الوحدة والوئام. وفي حين يريد البعض إلغاء الشرطة تماماً، يفكر الحالمون الأكثر براغماتية وواقعية في طرقٍ للحد من التعاملات الخطيرة بين قوات تطبيق القانون والمجتمع. وقد روّج داريل أوينز، أحد الرؤساء التنفيذيين لمجموعة الدعم «إيست باي فور إيفري وان» التابعة لـ«يمبي»، للفكرة التي نفّذتها مدينة بيركلي، وهي الاستعاضة عن ضباط المرور بقسم شرطة مرور غير مسلح.
إذا أصبحت المدن الأميركية أكثر فاعلية وكفاءة في استخدام الأراضي والموارد، سيكون من المنطقي أن يعيش عدد أكبر من الناس بها. ويقترح ماثيو إغلاسيس في كتابه الجديد «مليار أميركي: حالة للتفكير على نطاق أوسع»، التوسع في الهجرة بشكل كبير إلى جانب تطبيق سياسات صناعية وحضرية تستهدف توفير وظائف ومساكن لجميع الأميركيين الوافدين. هذه الفكرة أقل راديكالية من اقتراح فتح الحدود، لكنها تظل مع ذلك جذّابة من حيث نطاقها مع عدم التضحية بالتفاصيل المحددة الخاصة بكيفية توفير وسائل المعيشة والراحة للوافدين الجدد.
لن يكفي أن يتضمن أي تصور لشكل أميركا المثالية الثراء والكفاءة فحسب، بل يحتاج لأن يتضمن قدراً أكبر من المساواة والعدالة. في الوقت الذي يعيد فيه مؤيدو الاتفاق الأخضر الجديد تصور الاقتصاد بحيث يتضمن مجموعة كبيرة من السياسات والبرامج الصناعية، تتصور مجموعة صغيرة لكنها متنامية من الديمقراطيين الاجتماعيين شيئاً أكثر بساطة ووضوحاً. يتصور كتّاب مثل آني لوري، والكاتب الذي يتخذ اسم «جيمس ميدلوك» كاسم مستعار له، دولة لا تكون فيها المساواة خاضعة لتقلبات منظومة التوظيف، بل مضمونة من خلال الضرائب والإنفاق. يفضّل ميدلوك نظاماً ضريبياً واسع النطاق مثل ضريبة القيمة المضافة المستخدمة في أوروبا، وبرامج اجتماعية عالمية الطابع مثل برنامج الدخل الأساسي. فكرة إنشاء مجتمع متكافئ اقتصادياً سهلة إلى حد ما، فلا يحتاج الأمر إلا إلى استخدام أدوات بسيطة لكنها فعّالة لإعادة التوزيع من أجل ضمان حصول الجميع على ما يكفي من النقود.
من غير المرجح أن يتم تنفيذ أكثر هذه الأفكار الكبيرة على أرض الواقع في المستقبل القريب، أو بذلك الشكل المثالي على أقل تقدير. سوف يَحول ما يتضمنه هذا العالم الفوضوي من تقلبات، والمجتمع المنقسم على ذاته، ومحدودية التكنولوجيا، والحاجة دائماً إلى حلول وسط، دون إنشاء هذه المدينة الفاضلة. مع ذلك يشير وجود تلك الأحلام في مخيّلة الأميركيين إلى أن هناك شيئاً ما حياً لا يُهزم في روح هذه الأمة. وتعد القدرة على تخيل ما يتجاوز حلول المشكلات اليومية، وتصور غد أفضل بشكل تحولي، من الدوافع المهمة الضرورية لمواصلة الكفاح والنضال في وقت يبدو فيه أن كل شيء ينهار من حولنا.
* بالاتفاق مع {بلومبرغ}