بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّهُ يَومٌ مِنْ أيَام الله؟l !!
منتصر بركات الزعبي
Montaser1956@hotmail.com
تستقبلون يوم السبت المقبل بإذن الله , يومًا عظيمًا من أيام الله , إنَّه يومُ عرفةَ – اليوم الذي يَعرِفُ اللهُ فيه برضاه من عَرَفَه بتقواه – ويشهدُ للمهتدي بالفضلِ , وتشهده الملائكة , ولذلك شَرُفَ بالقسم في الكتابِ المجيد , بقوله تبارك وتعالى : (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُود) [البروج:3]) فعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اليَوْمُ المَوْعُودُ : يَوْمُ القِيَامَةِ، والْيَوْمُ المَشْهود : هو يَومُ عَرَفَة ، وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الجُمُعَةِ، مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ ، وَلاَ غَرَبَتْ عَلَى أَفْضَلَ مِن يَومِ الجُمُعَةِ، فِيهِ سَاعَةٌ لاَ يُوافِقُهَا عَبْدٌ مُؤْمِنِّ يَدْعُو اللَّهَ فيهَا بخَير إلاَّ اسْتَجَابَ لَهُ، أَوْ يَسْتَعِيذُهُ منْ شَرٍّ إِلاَّ أعَاذَه مِنْهُ ). [ رواه الترمذي وحسنه الألباني...انظر الصحيحة رقم 1502] وقد نال هذا التكريم , لِما يَقعُ فيه من أعمال البرِّ والتقوى وفعل الطاعات , ومشهود : تشهده الملائكة وتحضره , تنويها به وبخير أهل الفضل فيه .
ففي عرفاتَ , ينتظمُ عِقْدُ الحجَّاج ويجتمعُ شملُهُم , على اختلاف ألسنتِهم وألوانِهم , وبُعْدِ ديارهم , متجردين من الدنيا وزُخْرُفِها , كأنَّهم ملائكةٌ أطهارٌ , فيتجلَّى عليهم الحقُّ سبحانه فيسمعُ دعاءَهم , ويُجيبُ سؤالَهم , ويُحققُ آمالَهم , ويغسلُ عنهم ذنوبَهم , ويباهي بهم الملائكةَ , فقد جاء في الحديث القدسي : عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَمَّا وُقُوفُكَم عَشِيَّةَ عَرَفَةَ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَهْبِطُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا ، فَيُبَاهِي بِكُمُ الْمَلائِكَةَ ، فَيَقُولُ : هَؤُلاءِ عِبَادِي ، جَاءُوا شُعْثًا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ يَرْجُونَ رَحْمَتِي وَمَغْفِرَتِي ، فَلَوْ كَانَتْ ذُنُوبُهُمْ بِعَدَدِ الرَّمْلِ ، وَكَعَدَدِ الْقَطْرِ لَغَفَرْتُهَا لَهُمْ ، أَفِيضُوا عِبَادِي مَغْفُورًا لَكُمْ ، وَمَنِ اسْتَغْفَرَ لَكُمْ ) .
فإذا أفاضَ الحجيجُ إلى جَمْعٍ – مزدلفة – ووقفوا وعادوا في الرغبة والطلب إلى الله , يقولُ الحق - جلَّ جلاله - : ( يا مَلائِكتي عبادي وقفوا في الرغبةِ والطلبِ فَأشْهِدُكُم أنِّي أجبتُ دعاءَهم وكفلْتُ عنهم التبِعات – أي المظالم التي لم يستطيعوا التخلصَ منها في الدنيا - ) رواه أبو يعلى .
اسمعوا يا أتباعَ الحبيبِ محمدٍ – صلى الله عليه وسلم – إلى ما يقوله نبيكم ( مَا مِنْ يَوْمٍ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ , يَنْزِلُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيُبَاهِي بِأَهْلِ الأَرْضِ أَهْلَ السَّمَاءِ ، فَيَقُولُ: ٱنْظُرُوا إلَى عِبَادِي جَاؤُونِي شُعْثاً غُبْراً ضَاحِينَ جَاؤُوا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ يَرْجُونَ رَحْمَتِي وَلَمْ يَرَوْا عَذَابِي ، فَلَمْ يُرَ يَوْمٌ أَكْثَرُ عَتِيقاً مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ ( رواه أبو يعلى و البزار ، وابن خزيمة ، وابن حبان في صحيحه
نعم , يا أحباب الحبيب محمد – صلى الله عليه وسلم – يومُ عرفةَ يوم عتق من النار , لمن وقف بعرفة ومن لم يقف - إنّه يومنا نحن ونحن هنا - كما هو للواقف بعرفة , إنَّه لكل مؤمنٍ يعمل الصالحاتِ ويبتعدُ عن المعاصي , فحفظَ سمعَهُ وبصرَه ولسانَه من الكذبِ والنميمةِ والغيبةِ , وكلِّ ما يغضبُ اللهَ - سبحانه وتعالى - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – : ( إذا كانَ يومُ عرفةَ , لمْ يبقَ أحدٌ في قلبِهِ مثقالُ ذرةٍ من إيمانٍ , إلا غُفِرَ له , قِيلَ : أللمُعْرِفِ ؟ – أي الوقف في عرفة خاصة - أم للناسِ عامَّة , قال : بل للناس عامَّة ) رواه أبو داود.
إنَّه يومُ تكفيرِ الذنوبِ , لِمَنْ صامه فأرضى ربَّه , غُفِرَ له ما سبقَ من ذنبه , وحبَّب إليه في مستقبله - طاعته – وكرّه إليه الكفر والفسوق والعصيان , قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ )[مسلم: 1976، عن أبي قتادة]. وعنْ حَرْمَلَةَ بْنِ إِيَاسٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ يُكَفِّرُ سَنَتَيْنِ , مَاضِيَةً وَمُسْتَقْبَلَةً وَصَوْمُ عَاشُورَاءَ يُكَفِّرُ سَنَةً مَاضِيَةً )[ رواه الجماعة إلا البخاري - قال الألباني فى "إرواء الغليل"– صحيح]
يا لَها من فرحةٍ عظيمةٍ , يفرحُ بها المؤمنون بعفوِ اللهِ ورحمتهِ , ويسعَدون بتجلِّي الإلهِ عليهم , وتكفير سيئاتهم , واستجابة دعواتهم , نعم , إنَّه العيدُ الأكبرُ وعيدُ الفرحةِ العظمى .
فلنتقِ اللهَ , ونشاركْ الحجاجَ في الإقبالِ على الله في هذا اليومِ المجيدِ , واحذرْ أخي وأختي في الله , أن يراكَ اللهُ حيثُ نهاك , أو يفتقدَك حيثُ أمرَك , وصُمْ هذا اليومَ , وأنت منتبهٌ , لقول نبيِّك - صلى الله عليه وسلم - : ( مَنْ حَفِظَ لِسَانَهُ وسمعَهُ وبصرَه يوم َعرفةَ غُفِرَ له من عرفةَ إلى عرفةَ ) رواه البيهقي وأبو يعلى
اذكرْ ربَّك فيه كثيرا , وأكثرْ فيه من الدعاءِ بما تُحِبُّ , فهو يومُ الدُّعاءِ الأكبرِ, والجأْ إليه مُستجيرًا , فهو رجاءُ المستجيرين , وإليه فتضرَّعْ , فهو يحبُ المتضرعين , وأكثرْ من الدعوة الجامِعة , لخيريّ الدنيا والآخرة : ( ربَّنَا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً , وقنا عذابَ النار ) . واسألْ اللهَ للإسلامِ عزًا ونصرًا , وحققْ من دعائك في نفسِك ما طلبه من شُعيب - عليه السلام – إذ أوصى إليه : ( هبْ لي من رقبتِكَ الخضوعَ , ومن قلبِكَ الخشوعَ ومن عينيك الدموعَ , وادعُنِي فإنني قريب ) .
فهو اليومُ , الذي رفعَ فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم – أكفَّ الضراعة إلى الباري - عز وجل – قائلا ( اللَّهُمَّ تَسْمَعُ كلامي، وتَرَى مكاني، وتَعْلَمُ سرِّى وعلانيتي، لا يخفى علَيْكَ شَئٌ مِنْ أَمْرى، أَنا البَائسُ الفَقيرُ، المُسْتَغِيثُ المُسْتَجيرُ، وَالوَجلُ المُشفِقُ، المقِرُّ المعترِفُ بذنوبي، أَسْأَلكَ مَسْألةَ المِسْكين، وأبْتَهِلُ إليْكَ ابْتهالَ المُذْنِبِ الذَّلِيلِ، وَأَدْعُوكَ دُعَاءَ الخَائِفِ الضرِيرِ، مَنْ خَضَعَتْ لَكَ رَقَبَتُهُ، وفَاضَتْ لَكَ عَيْنَاهُ، وذلَّ جَسَدُهُ، ورَغِمَ أَنْفُهُ لَكَ، اللَّهُمَّ لا تجعلني بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِياً، وكُن بى رَؤُوفاً رحيماً، يا خيْرَ المَسْؤُولين، ويَا خَيْرَ المُعْطِينَ ) رواه الطبراني.
و قال - صلى الله عليه وسلم – : ( خيرُ الدعاءِ دعاءُ يومِ عرفةَ , وخيرُ ما قلتُه أنا والنبيون من قَبْلِي : ( لا إلهَ إلا للهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ لهُ الملكُ ولهُ الحمدُ وهو على كلِّ شيءٍ قديرٍ ) رواه الترمذي وحسنه الألباني .
إنَّها شهادةُ التوحيدِ أصلُ دينِ اِلإسلامِ , إنَّها جوازُ سفرِ للمرورِ إلى جناتِ الخلدِ والنعيمِ , إنَّه يومُ مغفرةِ الذنوبِ والعتقِ من النارِ والمباهاةِ بأهلِ الموقفِ:
فعن عَائِشَةُ - رضي الله عنها - أِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنْ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ , وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلَائِكَةَ فَيَقُولُ مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ ) [ مسلم . كتاب الحج]
يومُ عرفةَ , هو يومُ إكمالِ الدِّين , فعلى صَعِيدِه , نزلَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قول اللهِ تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا ) [ المائدة:3] ، وعندما سمعَ ذلك سيدنا عمر - رضي الله عنه – بكى فقيل له : ما يبكيك ؟ قال : إنَّه ليس بعد الكمالِ إلا النقصانُ , وكأنَّه استشعرَ قُرْبَ وفاةِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم – نعم , إنَّها حِجَّةُ الوداع , الذي ودَّع الرسول – صلى الله عليه وسلم – أمَّته فيها , ينعى إليهم نفسّه , إذْ لمْ يَعِشْ بعدها سوى " 80" ليلةً .
ففي "صحيح البخاري" عن طارق بن شهاب قال: جاء يهوديٌ إلى عمرَ بنِ الخطاب فقال : يَا أَمِيرَ المُؤمِنِين آيَةٌ تَقْرَؤونَهَا في كِتَابِكُمْ لَوْ نزلت عَلَيْنَا مَعْشَرَ اليَهُودِ وَنَعْلَمُ ذَلِكَ اليَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ ، لاتَّخَذْنَاهُ عِيداً ، قَالَ: أيُ آَيَةٍ ؟ قَالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلاَمَ دِيناً} [المائدة:3] فَقَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ: إِنِّي لأَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيه ِ، وَالمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ ، نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ ، وَنَحْنُ وَاقِفُونَ مَعَهُ بِعَرَفَةَ .
وأخرج الترمذي عَنْ مُوسَى بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ ) [ الترمذي كتاب الصوم (صحيح) انظر حديث رقم: 8192 في صحيح الجامع]
فيا مَنْ فاتَهُ في هذا العامِ القيامَ في عرفةَ , فليقمُ لله بحقه الذي عرَفَهُ , ويا من عجز عن المبيت بمزدلفة , فليزدْ عزمَه على طاعةِ اللهِ وقد قرَّبَه وأزلَفَهُ , ويا من لم يقْدِرْ على نَحْرِ هدْيِهِ في مِنى , فلينْحَرْ هواهُ وقد بلغَ المُنَى , ويا مَنِ لم يصلْ إلى البيت العتيقِ لأنَّه بعيد , فليقصدْ رب البيت , فإنَّه أقربُ إلى من دعاه ورجاه من حبل الوريد .
خرَّج مالك في الموطأ من مراسيل طلحة بن عبيد الله بن كريز [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما رُئِي الشيطان يومًا هو فيه أصغر و لا أدحر و لا أحقر و لا أغيظ منه يوم عرفة , و ما ذاك إلا لما يَرى من تنزِّلِ الرحمةِ , و تجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر , قيلَ : و ما رأى يومَ بدر [ قال : رأى جبريلَ - عليه السلام - و هو يزَع الملائكة [ اللهم اغفر لنا وارحمنا وتب علينا بعفوك ومغفرتك ورحمتك يا أرحم الراحمين ، والحمد لله رب العالمين .
إنَّهُ يَومٌ مِنْ أيَام الله؟l !!
منتصر بركات الزعبي
Montaser1956@hotmail.com
تستقبلون يوم السبت المقبل بإذن الله , يومًا عظيمًا من أيام الله , إنَّه يومُ عرفةَ – اليوم الذي يَعرِفُ اللهُ فيه برضاه من عَرَفَه بتقواه – ويشهدُ للمهتدي بالفضلِ , وتشهده الملائكة , ولذلك شَرُفَ بالقسم في الكتابِ المجيد , بقوله تبارك وتعالى : (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُود) [البروج:3]) فعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اليَوْمُ المَوْعُودُ : يَوْمُ القِيَامَةِ، والْيَوْمُ المَشْهود : هو يَومُ عَرَفَة ، وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الجُمُعَةِ، مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ ، وَلاَ غَرَبَتْ عَلَى أَفْضَلَ مِن يَومِ الجُمُعَةِ، فِيهِ سَاعَةٌ لاَ يُوافِقُهَا عَبْدٌ مُؤْمِنِّ يَدْعُو اللَّهَ فيهَا بخَير إلاَّ اسْتَجَابَ لَهُ، أَوْ يَسْتَعِيذُهُ منْ شَرٍّ إِلاَّ أعَاذَه مِنْهُ ). [ رواه الترمذي وحسنه الألباني...انظر الصحيحة رقم 1502] وقد نال هذا التكريم , لِما يَقعُ فيه من أعمال البرِّ والتقوى وفعل الطاعات , ومشهود : تشهده الملائكة وتحضره , تنويها به وبخير أهل الفضل فيه .
ففي عرفاتَ , ينتظمُ عِقْدُ الحجَّاج ويجتمعُ شملُهُم , على اختلاف ألسنتِهم وألوانِهم , وبُعْدِ ديارهم , متجردين من الدنيا وزُخْرُفِها , كأنَّهم ملائكةٌ أطهارٌ , فيتجلَّى عليهم الحقُّ سبحانه فيسمعُ دعاءَهم , ويُجيبُ سؤالَهم , ويُحققُ آمالَهم , ويغسلُ عنهم ذنوبَهم , ويباهي بهم الملائكةَ , فقد جاء في الحديث القدسي : عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَمَّا وُقُوفُكَم عَشِيَّةَ عَرَفَةَ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَهْبِطُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا ، فَيُبَاهِي بِكُمُ الْمَلائِكَةَ ، فَيَقُولُ : هَؤُلاءِ عِبَادِي ، جَاءُوا شُعْثًا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ يَرْجُونَ رَحْمَتِي وَمَغْفِرَتِي ، فَلَوْ كَانَتْ ذُنُوبُهُمْ بِعَدَدِ الرَّمْلِ ، وَكَعَدَدِ الْقَطْرِ لَغَفَرْتُهَا لَهُمْ ، أَفِيضُوا عِبَادِي مَغْفُورًا لَكُمْ ، وَمَنِ اسْتَغْفَرَ لَكُمْ ) .
فإذا أفاضَ الحجيجُ إلى جَمْعٍ – مزدلفة – ووقفوا وعادوا في الرغبة والطلب إلى الله , يقولُ الحق - جلَّ جلاله - : ( يا مَلائِكتي عبادي وقفوا في الرغبةِ والطلبِ فَأشْهِدُكُم أنِّي أجبتُ دعاءَهم وكفلْتُ عنهم التبِعات – أي المظالم التي لم يستطيعوا التخلصَ منها في الدنيا - ) رواه أبو يعلى .
اسمعوا يا أتباعَ الحبيبِ محمدٍ – صلى الله عليه وسلم – إلى ما يقوله نبيكم ( مَا مِنْ يَوْمٍ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ , يَنْزِلُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيُبَاهِي بِأَهْلِ الأَرْضِ أَهْلَ السَّمَاءِ ، فَيَقُولُ: ٱنْظُرُوا إلَى عِبَادِي جَاؤُونِي شُعْثاً غُبْراً ضَاحِينَ جَاؤُوا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ يَرْجُونَ رَحْمَتِي وَلَمْ يَرَوْا عَذَابِي ، فَلَمْ يُرَ يَوْمٌ أَكْثَرُ عَتِيقاً مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ ( رواه أبو يعلى و البزار ، وابن خزيمة ، وابن حبان في صحيحه
نعم , يا أحباب الحبيب محمد – صلى الله عليه وسلم – يومُ عرفةَ يوم عتق من النار , لمن وقف بعرفة ومن لم يقف - إنّه يومنا نحن ونحن هنا - كما هو للواقف بعرفة , إنَّه لكل مؤمنٍ يعمل الصالحاتِ ويبتعدُ عن المعاصي , فحفظَ سمعَهُ وبصرَه ولسانَه من الكذبِ والنميمةِ والغيبةِ , وكلِّ ما يغضبُ اللهَ - سبحانه وتعالى - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – : ( إذا كانَ يومُ عرفةَ , لمْ يبقَ أحدٌ في قلبِهِ مثقالُ ذرةٍ من إيمانٍ , إلا غُفِرَ له , قِيلَ : أللمُعْرِفِ ؟ – أي الوقف في عرفة خاصة - أم للناسِ عامَّة , قال : بل للناس عامَّة ) رواه أبو داود.
إنَّه يومُ تكفيرِ الذنوبِ , لِمَنْ صامه فأرضى ربَّه , غُفِرَ له ما سبقَ من ذنبه , وحبَّب إليه في مستقبله - طاعته – وكرّه إليه الكفر والفسوق والعصيان , قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ )[مسلم: 1976، عن أبي قتادة]. وعنْ حَرْمَلَةَ بْنِ إِيَاسٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ يُكَفِّرُ سَنَتَيْنِ , مَاضِيَةً وَمُسْتَقْبَلَةً وَصَوْمُ عَاشُورَاءَ يُكَفِّرُ سَنَةً مَاضِيَةً )[ رواه الجماعة إلا البخاري - قال الألباني فى "إرواء الغليل"– صحيح]
يا لَها من فرحةٍ عظيمةٍ , يفرحُ بها المؤمنون بعفوِ اللهِ ورحمتهِ , ويسعَدون بتجلِّي الإلهِ عليهم , وتكفير سيئاتهم , واستجابة دعواتهم , نعم , إنَّه العيدُ الأكبرُ وعيدُ الفرحةِ العظمى .
فلنتقِ اللهَ , ونشاركْ الحجاجَ في الإقبالِ على الله في هذا اليومِ المجيدِ , واحذرْ أخي وأختي في الله , أن يراكَ اللهُ حيثُ نهاك , أو يفتقدَك حيثُ أمرَك , وصُمْ هذا اليومَ , وأنت منتبهٌ , لقول نبيِّك - صلى الله عليه وسلم - : ( مَنْ حَفِظَ لِسَانَهُ وسمعَهُ وبصرَه يوم َعرفةَ غُفِرَ له من عرفةَ إلى عرفةَ ) رواه البيهقي وأبو يعلى
اذكرْ ربَّك فيه كثيرا , وأكثرْ فيه من الدعاءِ بما تُحِبُّ , فهو يومُ الدُّعاءِ الأكبرِ, والجأْ إليه مُستجيرًا , فهو رجاءُ المستجيرين , وإليه فتضرَّعْ , فهو يحبُ المتضرعين , وأكثرْ من الدعوة الجامِعة , لخيريّ الدنيا والآخرة : ( ربَّنَا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً , وقنا عذابَ النار ) . واسألْ اللهَ للإسلامِ عزًا ونصرًا , وحققْ من دعائك في نفسِك ما طلبه من شُعيب - عليه السلام – إذ أوصى إليه : ( هبْ لي من رقبتِكَ الخضوعَ , ومن قلبِكَ الخشوعَ ومن عينيك الدموعَ , وادعُنِي فإنني قريب ) .
فهو اليومُ , الذي رفعَ فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم – أكفَّ الضراعة إلى الباري - عز وجل – قائلا ( اللَّهُمَّ تَسْمَعُ كلامي، وتَرَى مكاني، وتَعْلَمُ سرِّى وعلانيتي، لا يخفى علَيْكَ شَئٌ مِنْ أَمْرى، أَنا البَائسُ الفَقيرُ، المُسْتَغِيثُ المُسْتَجيرُ، وَالوَجلُ المُشفِقُ، المقِرُّ المعترِفُ بذنوبي، أَسْأَلكَ مَسْألةَ المِسْكين، وأبْتَهِلُ إليْكَ ابْتهالَ المُذْنِبِ الذَّلِيلِ، وَأَدْعُوكَ دُعَاءَ الخَائِفِ الضرِيرِ، مَنْ خَضَعَتْ لَكَ رَقَبَتُهُ، وفَاضَتْ لَكَ عَيْنَاهُ، وذلَّ جَسَدُهُ، ورَغِمَ أَنْفُهُ لَكَ، اللَّهُمَّ لا تجعلني بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِياً، وكُن بى رَؤُوفاً رحيماً، يا خيْرَ المَسْؤُولين، ويَا خَيْرَ المُعْطِينَ ) رواه الطبراني.
و قال - صلى الله عليه وسلم – : ( خيرُ الدعاءِ دعاءُ يومِ عرفةَ , وخيرُ ما قلتُه أنا والنبيون من قَبْلِي : ( لا إلهَ إلا للهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ لهُ الملكُ ولهُ الحمدُ وهو على كلِّ شيءٍ قديرٍ ) رواه الترمذي وحسنه الألباني .
إنَّها شهادةُ التوحيدِ أصلُ دينِ اِلإسلامِ , إنَّها جوازُ سفرِ للمرورِ إلى جناتِ الخلدِ والنعيمِ , إنَّه يومُ مغفرةِ الذنوبِ والعتقِ من النارِ والمباهاةِ بأهلِ الموقفِ:
فعن عَائِشَةُ - رضي الله عنها - أِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنْ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ , وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلَائِكَةَ فَيَقُولُ مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ ) [ مسلم . كتاب الحج]
يومُ عرفةَ , هو يومُ إكمالِ الدِّين , فعلى صَعِيدِه , نزلَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قول اللهِ تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا ) [ المائدة:3] ، وعندما سمعَ ذلك سيدنا عمر - رضي الله عنه – بكى فقيل له : ما يبكيك ؟ قال : إنَّه ليس بعد الكمالِ إلا النقصانُ , وكأنَّه استشعرَ قُرْبَ وفاةِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم – نعم , إنَّها حِجَّةُ الوداع , الذي ودَّع الرسول – صلى الله عليه وسلم – أمَّته فيها , ينعى إليهم نفسّه , إذْ لمْ يَعِشْ بعدها سوى " 80" ليلةً .
ففي "صحيح البخاري" عن طارق بن شهاب قال: جاء يهوديٌ إلى عمرَ بنِ الخطاب فقال : يَا أَمِيرَ المُؤمِنِين آيَةٌ تَقْرَؤونَهَا في كِتَابِكُمْ لَوْ نزلت عَلَيْنَا مَعْشَرَ اليَهُودِ وَنَعْلَمُ ذَلِكَ اليَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ ، لاتَّخَذْنَاهُ عِيداً ، قَالَ: أيُ آَيَةٍ ؟ قَالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلاَمَ دِيناً} [المائدة:3] فَقَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ: إِنِّي لأَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيه ِ، وَالمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ ، نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ ، وَنَحْنُ وَاقِفُونَ مَعَهُ بِعَرَفَةَ .
وأخرج الترمذي عَنْ مُوسَى بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ ) [ الترمذي كتاب الصوم (صحيح) انظر حديث رقم: 8192 في صحيح الجامع]
فيا مَنْ فاتَهُ في هذا العامِ القيامَ في عرفةَ , فليقمُ لله بحقه الذي عرَفَهُ , ويا من عجز عن المبيت بمزدلفة , فليزدْ عزمَه على طاعةِ اللهِ وقد قرَّبَه وأزلَفَهُ , ويا من لم يقْدِرْ على نَحْرِ هدْيِهِ في مِنى , فلينْحَرْ هواهُ وقد بلغَ المُنَى , ويا مَنِ لم يصلْ إلى البيت العتيقِ لأنَّه بعيد , فليقصدْ رب البيت , فإنَّه أقربُ إلى من دعاه ورجاه من حبل الوريد .
خرَّج مالك في الموطأ من مراسيل طلحة بن عبيد الله بن كريز [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما رُئِي الشيطان يومًا هو فيه أصغر و لا أدحر و لا أحقر و لا أغيظ منه يوم عرفة , و ما ذاك إلا لما يَرى من تنزِّلِ الرحمةِ , و تجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر , قيلَ : و ما رأى يومَ بدر [ قال : رأى جبريلَ - عليه السلام - و هو يزَع الملائكة [ اللهم اغفر لنا وارحمنا وتب علينا بعفوك ومغفرتك ورحمتك يا أرحم الراحمين ، والحمد لله رب العالمين .