اخبار البلد ـ وقفت في تلك الأمسية من العام 1995 على الدرجات المؤدية إلى مبنى البرلمان الألماني (الرايشتاخ)الذي كان يخضع في تلك الفترة لعملية ترميم وصيانة. كانت عقارب الساعة تشير إلى العاشرة مساءً ورذاذ ٌ من مطر ٍ خفيف يتساقط بهدوء. كنت قد طلبت من صديقي الأستاذ وليد اللحام المقيم في ألمانيا منذ عقود أن يأخذني في جولة عبر برلين فقد مضت عدة سنوات على سقوط الجدار الذي قسم مدينة برلين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى برلين شرقية تابعة لروسيا (حلف وارسو) وبرلين غربية تابعة لأميركا (حلف الناتو). أمضيت سحابة ذلك اليوم وجُلَّ مسائه وأنا أعيش لحظات التاريخ عند بوابة "براندنبرغ" وجسر "بوتسدامر" ونقطة عبور "شارلي" وبقايا جدار برلين والمنطقة الحرام التي تحيط به والتي شهدت مقتل مئات الناس وهم يحاولون الهروب من فوق الجدار أو عبر الأنفاق. كنت واقفاً على درجات الرايشتاخ أتأمل جدرانه السوداء عندما ازداد تساقط المطر وأبرقت السماء وأرعدت فتخيلت وأحسست أن معركة برلين عام 1945 قد بدأت مرة أخرى. تخيلت أنني أرافق هتلر وهو يخرج من مخبأه المخفي جيداً على عمق عشرين متراً تحت مبنى المستشارية ليستعرض حرسه الخاص وملامح الهزيمة تغطي وجهه. طابور الجند الذي قام هتلر بتقليد أفراده أوسمة الشجاعة كان يتكون من فتية صغار هم كل من تبقى من جيشه العرمرم. أحد هؤلاء الجنود كان صبياً في العاشرة من عمره فاستلفت نظر هتلر وهو يضع الوسام على صدره. نظر هتلر ملياً إلى الصبي ومسح بظاهر يده على وجهه ولامس بأصابعه وجنة الصبي اليسرى ثم أمسك كتفي الصبي بكلتا يديه. رفع الصبي رأسه ونظر إلى عيني هتلر ونظر هتلر في عينيه وقالت عيونهم وهي تدمع كلمات كثيرة. تخيلت وأحسست أنني أعود مع هتلر إلى مخبئه فالقنابل تتساقط فوق برلين كالمطر. كتب هتلر وصيته ثم عقد قرانه على عشيقته "ايفا براون" بوجود بضعة شهود هم "بورمان" نائب هتلر و"جوبلز" وزير الاعلام والسكرتيرة الخاصة والطباخ والسائق. دخل هتلر إلى غرفته ومعه ايفا براون وجلسا على الأريكة الجلدية ووضع كل منهما كبسولة السيانيد في فمه وأطبق فمه عليها وفي نفس اللحظة أطلق هتلر النار من مسدسه على صدغه الأيمن. تخيلت أنني أشاهد مساعدي هتلر وهم ينقلون جثته وجثة ايفا براون ويقومون بحرقهما ودفنهما في حديقة المستشارية. قامت "ميجدا" زوجة وزير الإعلام جوبلز بوضع كبسولة السيانيد في فم أطفالها الستة وهم نيام فماتوا في ثوان ٍ ثم تناولت هي السم وتبعها زوجها بنفس الطريقة. أحسست أن قصف القنابل قد ازدادت شدته وأن الليل قد ازدادت عتمته مع ومضات الإنفجارات المتعاقبة التي سبقت وصول الجيش الأحمر بقيادة الجنرال "زوخوف" إلى قلب برلين. تخيلت مجموعة من الجنود الروس وهم يصعدون درجات الرايشتاخ التي أقف عليها ثم وهم يدفعونني ويدوسون على قدمي بأحذيتهم الثقيلة. أحسست أنني أسمع أنفاسهم المتلاحقة وأشم رائحة عرقهم وهم يندفعون إلى أعلى المبنى يلوحون بعلم بلادهم وتهدر أصواتهم بالنشيد الوطني الروسي في لحظة تاريخية أصبحت رمزاً لسقوط برلين وتدمير الرايخ الثالث ونهاية الحرب العالمية الثانية. كان ماء المطر يغمر وجهي وملابسي وأنا أنظر إلى أعلى مبنى الرايشتاخ عندما أحسست بصديقي وليد اللحام وهو يربت على كتفي قائلاً: "لقد سرح ذهنك بعيداً، هيا بنا نعود".
"الرايشتاخ"
أخبار البلد -