لا تمل السياسة الخارجية على اختلاف أشكالها من الجدل بشأن الاستراتيجيات الكبرى مثل تلك التي صاغها كلاوزفيتز ومكيافيلي وسون تزو وغيرهم.
في الآونة الأخيرة، اشتبك الساسة العالمون ببواطن الأمور حول ما إذا كان «تاريخ الحرب البيلوبونيسية»، وهي حرب يونانية قديمة نشبت بين أثينا وإسبرطة – التي دونها المؤرخ لثيوسيديدس عديمة الأهمية ومبتذلة، أم أنها دليل مفيد لعلاقات القوى العظمى.
ومع ذلك، يتجاهل العديد من طلاب الاستراتيجية مساهمة أميركا فيما يعرف بقانون «الأوراق الفيدرالية» - مجموعة من 85 مقالاً كتبها ألكسندر هاميلتون، جيمس ماديسون، وجون جاي لتشجيع التصديق على دستور الولايات المتحدة. لكن ذلك التجاهل كان أمراً سيئاً للغاية، لأن تلك المقالات حددت المبادئ الاستراتيجية الرئيسية، التي من شأنها أن تحول دولة ناشئة إلى قوة عظمى ديمقراطية. فهذه المقالات لدليل واضح على قوة تلك الأفكار، نظراً لأن العديد منها لا يزال وطيد الصلة بعصر التنافس الذي نعيشه اليوم. فـقانون «أوراق الفيدرالية» لا يزال دليلاً لأفضل نهج أميركي للسياسة الخارجية.
لا تحظى «الأوراق الفيدرالية» سوى بقدر ضئيل نسبي من التقدير رغم أنه مجال للسياسة الخارجية عرف بأنه ما يحدد الفلسفة السياسية للولايات المتحدة. خلال بضعة أشهر فقط، ناقش «بوبليوس» - الثلاثي المؤلف من ألكسندر هاملتون، وجون جاي، وجيمس ماديسون - ببراعة موجز الدستور الذي تم وضعه في فيلادلفيا عام 1787. ومع ذلك، كان الدستور نفسه وثيقة سياسة خارجية، لأن حالة الضعف الشديد للولايات المتحدة آنذاك، وسط دول العالم، هي ما جعلت البلاد في حاجة إلى شكل جديد من أشكال الحكم في الداخل.
كتب هاملتون في مقاله «الفيدرالية 25» يقول «لا تحد أراضي بريطانيا وإسبانيا والدول الهندية المجاورة أراضي دول أخرى، لكنها تطوق الاتحاد بدءاً من ماين إلى جورجيا». كان الملوك الأوروبيون الأقوياء يسعون إلى احتواء وإكراه وتخريب الدولة التي يهدد وجودها شرعية حكمهم. لم يكن أحد يقرأ الأوراق الفيدرالية، ليصدق الأسطورة القائلة إن أميركا كانت محصنة من الأخطار الأجنبية. لذا حددت الأوراق الفيدرالية أيضاً جدول أعمال الاستراتيجية الأميركية في دفاعها عن الدستور الأميركي الجديد.
أولاً، احتاجت الولايات المتحدة إلى حكومة قوية بما يكفي للتنافس في عالم شرس لأن «حكومة ضعيفة»، حسب ما دون هاملتون وماديسون في مقال بعنوان «الفيدرالية 18»، «كانت حتما ستجلب كوارث جديدة من الخارج».
وُلدت أميركا بالطبع في ثورة ضد السلطة المركزية، لكن الولايات المتحدة لا تستطيع البقاء على قيد الحياة، ناهيك عن الازدهار، حال افتقرت الدولة إلى جيش يمكنه الدفاع عن حدودها أو بناء أسطول بحري لحماية تجارتها وإيقاف أعدائها. كانت البلاد في حاجة إلى جهاز حكومي تنفيذي كامل لإدارة سياسية رشيقة وحاسمة. ذلك لأن حماية الحريات التي خاضت البلاد ثورة من أجلها طلبت تمكين الدولة الأميركية إلى درجة وجدها العديد من الثوار مقلقة، وهي تسوية وحل وسط ضروري وضع الأساس لجميع الإنجازات اللاحقة للبلاد في الشؤون الخارجية.
ثانياً، لم يكن النمو الإقليمي هو العدو بل صديق التجربة الأميركية. فقد كانت الحكمة التقليدية في ذلك الوقت هي أن الحكومة الجمهورية تعمل فقط في مجتمعات صغيرة ومتجانسة. لكن وفق ماديسون في مقالة «الفيدرالية 10»، «كلما كانت البوصلة أصغر»، كان من السهل على فصيل أو آخر «تنسيق خطط الاضطهاد وتنفيذها».
في المقابل، بـ«توسيع المجال» من خلال احتواء منطقة أكبر ومجموعة أكبر من المصالح، ستمنع الولايات المتحدة أي جماعة منفردة من تحقيق تفوق غير صحي.
ثالثاً، على الولايات المتحدة بناء توازن قوى في الداخل وتجنب توازن القوى في الخارج. فقد كتب ماديسون أن نظرية الحكومة الأميركية هي أن «الطموح يجب أن يقاوم الطموح» - أن تقسيم السلطة بين الفروع هو السبيل الوحيد للحفاظ على الحرية.
ومع ذلك، اعتقد مؤلفو مقالات «الأوراق الفيدرالية» أنه لا يوجد شيء يجب أن يعيق الطموح الأميركي في جوارها الجيوسياسي. وحذروا من أن الكيانات الضعيفة والمنقسمة ستغري بحدوث تهديدات على حدودها إلى الأبد، لكن وجود أميركا قوية وموحدة يمكن أن يضمن أمنها من خلال السيطرة على محيطها. على مدار القرن المقبل، سيكون هذا الدافع للهيمنة في أميركا الشمالية ونصف الكرة الغربي الأكبر هو الثابت الوحيد الكبير للسياسة الخارجية للولايات المتحدة.
أخيراً، يمكن لأميركا أن تناطح منافسيها بشكل أفضل بأن تصبح قوة عظمى من نوع مختلف تماماً. فبحسب تشارلز إيدل، كان قادة أميركا الأوائل مصممين على ألا يكونوا مثل أوروبا. كانوا يعتقدون أن أميركا، بحكم جغرافيتها، يمكن أن تصبح أمة بحرية وقوة تجارية عظمى - مثل المملكة المتحدة، لا قارة أوروبا. وجادلوا بأن على أميركا أن تبتعد عن الحروب والمؤامرات الأوروبية، وأن تبني «إمبراطورية الحرية».
شأن كافة المناهج الاستراتيجية، كانت الأوراق الفيدرالية وثيقة معيبة، إذ تجاهلت المشكلة الواضحة المتمثلة في أن التوسع الإقليمي، من شأنه أن يؤدي إلى توسع العبودية - والذي بدوره سيؤدي إلى تدمير أميركا تقريباً. ولذلك ستلتزم الولايات المتحدة بتوجيهاتها، لكن بشكل غير مكتمل في العقود التالية، كما كشفت حرب 1812 وغيرها من الأخطاء الفادحة.
ومع ذلك، إذا كانت أي مجموعة واحدة من الكتابات قد رسمت الطريق الذي من شأنه أن يأخذ أميركا من كونها مركزاً جمهورياً بعيداً إلى القوة الديمقراطية العظمى التي نعرفها اليوم، فقد كانت تلك المقالات الفيدرالية التي ذكرناها. وعلى الرغم من أن الظروف العالمية - وظروف أميركا - قد تغيرت بشكل كبير منذ ثمانينات القرن الثامن عشر، فإن الموضوعات الرئيسية لمقالات الأوراق الفيدرالية لا تزال وثيقة الصلة بالموضوع.
لم تعد الولايات المتحدة مجموعة من 13 دولة منقسمة. ومع ذلك، تظل الوحدة الداخلية لأميركا هي منبع قوتها وفعاليتها في الشؤون الخارجية، وهي حقيقة يبدو أن البلاد تخرقها في الوقت الحالي ولا تلتزم بها. وبالمثل، حققت الولايات المتحدة منذ فترة طويلة هيمنة في أميركا الشمالية. ومع ذلك، ففي الوقت الذي تواجه فيه الولايات المتحدة الصين الصاعدة، فإنه يتعين عليها تعزيز قاعدة قوتها من خلال السعي إلى تعاون سياسي أعمق وتكامل اقتصادي أوثق، بدلاً من الدخول في حروب تجارية غير ضرورية مع أقرب جيرانها.
لا تزال هوية أميركا مهمة كنوع مختلف تماماً من القوى العظمى. فلم تعد الولايات المتحدة تستخدم بعدها الجغرافي عن المسارح الرئيسية للتنافس الجيوسياسي للبقاء على الحياد. لكن هذا الموقف يجعل أميركا غير مهددة نسبياً لمعظم دول أوروبا وشرق آسيا، مما يجعلها أكثر قدرة على العمل مع الولايات المتحدة لاحتواء جيرانها الأكبر والأكثر تهديداً مثل الصين وروسيا. إن حقيقة أن الولايات المتحدة تشرف على نظام دولي ذي مبادئ اقتصادية وسياسية وليبرالية عميقة نسبياً - «إمبراطورية الحرية» الحديثة – وهذا يعد أمراً مهماً أيضاً في جذب الشركاء والحلفاء اليوم.
أخيراً، يظل تناقض موقف «الأوراق الفيدرالية» تجاه توازن القوى معياراً مفيداً. فسبب قلق الولايات المتحدة كثيراً بشأن صعود الصين هو أن عدد سكانها وثقلها الاقتصادي قد يجعلها منافساً عالمياً للولايات المتحدة. ولذلك فإن أفضل طريقة للتعامل مع التحدي الصيني هو الحفاظ على توازن القوى المفرط بالحفاظ على تحالف هائل من الدول الديمقراطية يضمن التفوق على الصين رغم تزايد عدوانيتها.
بعد أكثر من 230 عاماً من كتابتها، لا تزال «المقالات الفيدرالية» تقدم رؤى ثاقبة لمصادر النجاح الجيوسياسي لأميركا. وإذا كانت هذه المقالات لا تستحق أن تكون ضمن مجموعة الأعمال الفنية الاستراتيجية، فماذا عسانا أن نجد أفضل منها؟
- بالاتفاق مع «بلومبرغ»