محمود درويش، شاعر فلسطين الكبير، يقدّم صورة مختلفة للوطن، غير تلك التي عوّدنا عليها في قصائده الأولى، إنه يقول في قصيدة "لبلادنا":
لبلادنا
وهي الفقيرة مثل أجنحة القطا
كتب مقدسة ... وجرح في الهوية
(...)
لبلادنا وهي السبية
حرية الموت اشتياقاً واحتراقا
وبلادنا في ليلها الدموي
جوهرة تشع على البعيد على البعيد
تضيء خارجها ...
وأما نحن، داخلها
فنزدادُ اختناقا. (1) محمود درويش: ديوان "لا تعتذر عما فعلت"، منشورات رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، ط1، 2004، ص 39 - 40.)
هذا الشعور "بثقل البلاد" وتعبها وثقلها يؤكده درويش في قصيدة تالية بعنوان "ولنا بلاد":
ولنا بلاد لا حدود لها، كفكرتنا عن
المجهول، ضيقة وواسعة. بلاد ..
حين نمشي في خريطتها تضيق بنا،
وتأخذنا إلى نفق رمادي، فنصرخ
في متاهتها: وما زلنا نحبك، حُبنّا
مرض وراثي .. بلاد حين
تنبذنا إلى المجهول تكبر .. (2المصدر السابق، ص 41.)
هذه البلاد الضيقة والواسعة التي تأخذ أبناءها في نفق رمادي، هذه الثقيلة والباهظة لا نمتلك أمامها سوى الحب، وقد سمى الشاعر هذا الحب "مرضاً وراثياً". هنا الحب يتحول إلى "مرض"، بمعنى أن الحب متعب وثقيل وربما كريه، أي أن هذا الحبّ مما لا يستطاع الفكاك منه حتى لو أردنا. حول هذه الصورة الجديدة للوطن، يقول محمود درويش: "البحث عن المكان أسهل، لأن المكان تغير بوضوح، وليس هناك سؤال فلسفي كبير عند البحث عن مكان مفقود أو لدى تغير في شكل المكان، هناك صورة بصرية (في الأقل) لا تحتاج إلى استقرار استشرافي ولا إلى بصيرة، المكان تغير عياناً، الصعب هو علاقة تغير المكان بتغير الأنا، أو تغير الأنا وعلاقتها بتغير المكان، من الذي غير الآخر، هذا إشكال لم أجد له حلاً".(3 لقاء مع محمود درويش نشر في صفحة "الأيام الثقافية" الفلسطينية التي تصدر في رام الله بتاريخ 25/11/2003.)
هذا المعنى نجده تماماً في قصيدة درويش "لا كما يفعل السائح الأجنبي":
مشيت ، كما يفعل السائح الأجنبي
معي كاميرا ودليلي كتاب صغير
يضم قصائد في وصف هذا المكان
لأكثر من شاعر أجنبي،
أحس بأني أنا المتكلم فيها
ولولا الفوارق بين القوافي لقلتُ:
أنا آخري.(4محمود درويش: قصيدة "لا كما يفعل السائح الأجنبي" من ديوان "لا تعتذر عما فعلت"، سبقت الإشارة إليه، ص 134.)
في هذه القصيدة، يذهب الشاعر صوب "الشمال" – ودرويش من الجليل شمال فلسطين – ومعه قصائد في وصف المكان، ولوهلة ما يعتقد أن ما كتبه الشعراء الأجانب – الإسرائيليون المحتلّون - عن مكانه هو ما كتبه، أيضاً، إلى درجة أن يشعر بأنه هو "الآخر".
وفي مطلع آخر يتحول المكان إلى صورة، مجرد صورة بعيدة لم تعد بمتناول اليد أبدا:
ثم تساءلت: كيف يصير المكان
انعكاساً لصورته في الأساطير
أو صفةً من صفات الكلام ؟
وهل صورة الشيء أقوى
من الشيء ؟
لولا مخيلتي قال لي آخري:
أنت لست هنا ! (5المصدر السابق، ص 135.)
قمة الشعور بضياع المكان! أنت لست هنا، المكان لم يعد هو المكان، وكل ما يملكه الشاعر هو انعكاس صورة الوطن في الأساطير، أو صفة من صفات الكلام. تحت هذا الشعور الطاغي بضياع الوطن، ماذا يفعل الشاعر والحالة هذه ؟ إنه يقول:
... أمسك هذا الهواء الشهي،
هواء الجليل، بكلتا يدي
وأمضغه مثلما يمضغ الماعز الجبلي
أعالي الشجيرات،
أمشي، أعرّف نفسي إلى نفسها:
أنت، يا نفس، إحدى صفات المكان.( 6 المصدر السابق، ص 136.6)
لننتبه هنا إلى أمرٍ جلل، فالشاعر يجبر نفسه على أنه إحدى صفات المكان، وكأن الأمر فيه شكّ كبير، أو أن الواقع من القوة والطغيان بحيث يحتاج المرء إلى أن يجبر نفسه على أن المكان ما يزال له، وتبدو هذه الجملة "أنت يا نفس إحدى صفات المكان" مقحمة وخارجة وغير مقنعة، وتأتي تحت تأثير الإرادة والعقل أو الاختيار المقصود. ولأن الشاعر يدرك الواقع جيداً وهو يعود إلى الجليل "لا عاطفياً ولا واقعياً"، كما ورد في القصيدة، فهو ينهي قصيدته بمقطع يعبر أو يحمل كل تلك الإشكالية في العلاقة مع الوطن بواقعه الجديد:
أما أنا، فسأدخل في شجرة التوت
حيث تحولني دودة القز خيط حرير،
فأدخل في إبرة امرأة من
نساء الأساطير،
ثم أطير كشال مع الريح. (7المصدر السابق، ص 137.)
لم يعد هناك كلام عن المقاومة – مثل الكلام القديم – ، ولم يعد هناك تعلّق بالشعارات أو الأمنيات أو التمنيات، ما يفعله الشاعر – والواقع هكذا – هو أن يدخل شجرة توت ليتحول إلى خيط حرير تحوكه امرأة من نساء الأساطير ليطير شالاً مع الريح، فهل هذا تعبير عن ارتباك العلاقة بالمكان ؟!
أم هو الحلّ الشِعري – وبالتالي هو هروب ما – لمشكلة معقدة، ولعدم قول أي شيء في عصر لم يعد يتحمل قول الأشياء كما هي !
الشاعر محمود درويش يذهب أكثر من هذه العلاقة المرتبكة مع الوطن بوضعه الحالي، واللحظة التاريخية التي نعيش، فهو يقول في قصيدة "في القدس" :
كنت أمشي فوق منحدر وأهجس : كيف
يختلف الرواة على كلام الضوء في حجر ؟
أمن حجر شحيح الضوء تندلع الحروب ؟ (8 المصدر السابق، ص 47.8)
الحجر شحيح الضوء، المختلف عليه، والمتنازع عليه، أيضاً، يدفع الشاعر إلى القول في القصيدة ذاتها:
لا أمشي، أطير، أصير غيري في
التجلي، لا مكان ولا زمان. فمن أنا ؟! (9 القصيدة نفسها )
في حالة التجلّي يتحول الشاعر إلى "غيره" ويتساءل عن ماهيته، وفي هذه القصيدة بالذات – المقصود قصيدة "في القدس" – يتمثّل الشاعر "الأنا" و"نقيضها" في علاقتها بالمكان الواحد، ويحاول أن يتفهّم الطرفين على الدرجة ذاتها من التساوي والندية، ولهذا فهو ينهي هذه القصيدة كما يلي:
ماذا بعد؟ صاحت فجأة جندية:
هو أنت ثانية ؟ ألم أقتلك ؟
قلت: قتلتني .. ونسيت، مثلك، أن أموت.( 10 المصدر السابق، ص 48.10)
"الأنا" و"نقيضها" لم يموتا ، ويتنازعا ملكية الحجر شحيح الضوء، أما الشاعر في حالة تجليه فهو يسأل: من أنا ؟!
صورة الوطن تغيّرت حقاً، ولم تعد الأشياء كما هي، وقد تطاحن الجميع وتواضع، وبالعودة إلى محمود درويش، باعتباره الشاعر السقف أو الشاعر الذائقة، فإن ما يقوله في قصيدة "بغيابها كوّنت صورتها" قد يصدم القارئ، تماماً، كاللحظة الحضارية التي تعيشها الأمة العربية، يقول الشاعر في القصيدة المشار إليها :
واتكأت على الغياب، فمن أنا بعد
الزيارة ؟ طائر، أم عابر بين الرموز
وباعة الذكرى ؟ كأني قطعة أثرية،
وكأنني شبح تسلل من يبوس، وقلتُ لي:
فلنذهبن إلى تلال سبعة، فوضعتُ
أقنعتي على حجر، وسرت كما يسير
النائمون يقودني حلمي، ومن قمر إلى
قمر قفزت، هناك ما يكفي من اللاوعي
كي تتحرر الأشياء من تاريخها، وهناك
ما يكفي من التاريخ كي يتحرر اللاوعي
من معراجه. "خذني إلى سنواتنا الأولى"
تقول صديقتي الأولى. "دعي
الشباك مفتوحاً ليدخل طائر الدوري
حلمك".. ثم أصحو، لا مدينة في
المدينة، لا "هنا" إلا "هناك". ولا
هناك سوى هنا. لولا السراب
لما مشيت إلى تلال سبعة
لولا السراب. (11المصدر السابق، ص 49 - 50.)
اقتطعت هذا الجزء المطوّل من القصيدة لأدلل على سقف درويش الشعري الجديد، في رحلته الشعرية والوجدانية، الباحثة دائماً والقلقة دائماً، غير المستقرة دائماً، ولا يشير، أيضاً، إلى لازمته التي يكررها "من أنا؟" دلالة الحيرة والارتباك والبحث الدائم، إنه – في بداية الألفية الثالثة – يبدو أقل وثوقاً وأقل معرفةً على عكس بداياته الواثقة.
ولأصل، أيضاً، إلى تلك الصدمة – التي أدّعيها – في قصيدته، ألا وهي أن "السراب" هو ما قاده إلى التلال السبعة، فهل كل ما مضى كان سراباً ؟! وهل كل الجهد السابق والبنيان الفكري والوجداني كان سراباً ؟! هل الأحلام صارت سراباً ؟! أم أن الحلم كان سراباً ؟! ولهذا عندما يصحو الشاعر من حلمه يجد أن "لا مدينة في المدينة"، وأن "هنا" يشبه "هناك". لماذا يساوي الشاعر بين الأشياء ولا يضع فروقاً وحدوداً، ليكتشف أن كل شيء كان سراباً. والوطن، هذا الثقيل والمعذب، لم يعد مكتملاً إلا في "الغياب"، يقول الشاعر في بداية قصيدته هذه:
بغيابها كونت صورتها
ثم يقول:
الغياب هو الدليل إلى الدليل
ثم يقول:
لولا السراب لما صمدت .. (12 المصدر السابق، ص 49.)
هل يعني أن الأحلام الكبيرة والآمال العريضة كانت سراباً ؟! ولكن لولا هذا السراب لما صمد؟! إن الشاعر يعرف تماماً ما للأفكار والمعتقدات و"الأوهام" من قوة هائلة في تحريك التاريخ ودفعه إلى الأمام، هذه "الأوهام" تتحول إلى مقدسات لا تناقش.( (13 غوستاف لوبون: فلسفة التاريخ، ترجمة: عادل زعيتر، دار الفكر، بيروت، 1958، ط2، فعل المعتقدات الوجودية للجماعات، ص 121) أما شاعرنا الكبير فيعترف أنها كانت مجرد سراب !
هذه هي الصورة الجديدة التي صارت متداولة في الشعر الفلسطيني في مرحلة مضطربة، اختلفت فيها المعايير وانخفضت فيها السقوف وتضبّبت فيها الرؤية. مرحلة رماد وشك وتواضع وتخلٍّ عن الأحلام الكبيرة، مرحلة مراجعة وتقييم وربما جلد للذات، أيضاً.