برز في الفترة الأخيرة صراع حاد بين الفكر العشائري القبلي والفكر الإنساني الذي خلق القانون الوضعي، تجلى في رفض أوامر وتعليمات السلطة الوطنية الفلسطينية بالالتزام بتعليماتها من أوامر ونواه في جائحة الكورونا. وخلط الكثيرون بين الفكر الإسلامي وأحكام الشريعة الإسلامية والفكر البشري بحيث أدى هذا الخلط لعواقب ضارة على كثير من الصعد.
يبرز هذا الصراع الفكري على مستوى الوطن عدم المعرفة الصحيحة بماهية القانون وعموميته وتجريده ووظيفته. وقد ساهم في هذه القلة المعرفية بعض رجال العشائر ورجال الدين ورجال السلطة، كل من جهته ولصالح دوره الضيق وضمن رؤياه الخاصة المحدودة غير المطلعة.
فبعض رجال العشائر لا يعجبهم ان يحل القانون الوضعي محل القانون العشائري رغم محدودية الأخير، فالاول يخل بمراكزهم ويفقدهم اعتبارهم، وبالتالي رزقهم، إن اعتاشوا من عملهم هذا. فكيف لقانون وضعي مجرد من الحماية المجتمعية والشرطية أن يتحدى قانونا تحميه العشائر التي تواترت عليه منذ مئات السنين، والذي قد يخالف الشريعة الإسلامية أحيانا ولكنه مقبول ومعتمد؟ وتقوم بتطبيقه مجموعة من خريجي التوجيهية على أكثر تقدير، ولكنها تجيد ذكر بعض آيات الذكر الحكيم والاستشهاد به أو كلام المجاملات الدافىء.
والمشكلة أن الكثيرين من المتعلمين ويحملون الشهادات العليا، يقبلون به وبأحكامه، رغم قصوره، لأنه قابل للتنفيذ بينما قضاؤنا متراخ وتطول أو تصعب إجراءاته وبالتالي يستحيل تنفيذ أحكامه أحيانا. ليس هذا فقط بل ان كثيرا من ألأحكام العشائرية لا تصلح للحياة العصرية وفيها ردة فكرية. فلو قيل ما الفرق بين الشيك والكمبيالة لأحدهم، لما عرف الجواب. ولو سئل ما الفرق بين السرقة والاختلاس والسطو وخيانة الأمانة والنصب والاحتيال لفغر فاه دهشة ! ولو ذكرت الجريمة لما تم بيان اركانها ولا عقوبتها بتحديد كاف.
أما بعض رجال الدين، فهم يكفرون بالقانون الوضعي وبمن يضعه. ويرون فيه فكرا غربيا وخطرا مباشرا، ويدعون لاستنباط جميع القواعد القانونية من الشريعة الإسلامية، وهذا أمر جيد. لكن المشكلة أن الكثيرين منهم يلقون الكلام جزافا، اعتمادا على ان المواطن البسيط المتدين والذي يجابه مشكلات المسلم المعاصر بكل تعقيدات الحياة، سيستسلم لهذه المقولة، ويصادق عليها بشكل تلقائي. ولكن لو سأل رجل دين واحد نفسه ماذا تطبق السعودية كدولة تقول إنها تطبق الشريعة الإسلامية، في قضايا كثيرة منها الدخول إليها والخروج منها، ماذا تطبق حينما تقرر فتح مصرف او إغلاقه، ماذا تطبق حينما تتعاقد مع طبيب أو ممرضة أو ما هي حقوق العمال الأجانب وكفلائهم، وغير ذلك كثير من شؤون حياتنا اليومية. هل تطبق الشريعة الإسلامية أم أحكام القانون الوضعي؟
ما يطبق هناك هي أحكام القانون الوضعي ولا تطبق أحكام الشريعة الإسلامية. رب قائل إن هذا القانون الوضعي مستقى من أحكام الشريعة الإسلامية، هذا أمر جيد، لكنه لم يعد حكما شرعيا بل غدا حكما قانونيا وضعيا، ولولا أنه غدا حكما قانونيا وضعيا لما قامت المحاكم والدوائر بتنفيذه. خذوا مثالا بقانون الأحوال الشخصية المطبق عندنا، والمستقى بشكل كامل من الشريعة الإسلامية، القاضي يطبق هنا حكم القانون ولا يطبق حكم المذهب الحنفي أو الشافعي أو المالكي أو الحنبلي. ولنكن صرحاء فأحكام كل مذهب مختلفة عن المذهب الآخر، وإلا لكان عندنا مذهب واحد وانتهى الأمر والجدل.
بل هناك خلافات داخل المذهب الواحد مثل خلافات الإمام أبي حنيفة وتلميذيه أبا يوسف ومحمد وكان هناك تنابذ وخصومة بين أتباع هذه المذاهب. وفوق هذا وذاك كيف ستحل قضايا عصرية معقدة كالأراضي والتأمين والمرور والمصارف والعمل والتأمين الوطني بدون قانون وضعي؟
هل من المعقول ان تترك هذه الأحكام متفرقة ليختار القاضي الفطن منها حكمه، وماذا لو تناقضت الأحكام تبعا لاختلاف القضاة ونشأتهم وثقافتهم وبيئتهم؟ أوليس القانون الوضعي أفضل وأيسر؟
ومما زاد الطين بلّة ما قامت به السلطة الوطنية الفلسطينية منذ قيامها، عبر سياسيها وقادتها، من تغوُّل سياسي في المجال القانوني والقضائي. فنتيجة لعدم الخبرة القانونية والقضائية تمت محاولات عديدة لإلغاء قوانين جديدة ولكنها قديمة، وبث محاولات لاستزلام القضاء وإلحاقه بالسلطة التنفيذية وخلق حالة من التبعية تحت مقولة استقلال القضاء وعدم التدخل في شؤونه. وساعد في هذا الوضع الإمّعي ذلك التنافس الضار بين القضاة الرفيعين واستعانة بعضهم بالسياسيين لتحقيق مصالحهم الذاتية والذين لبوا النداء مسرعين. فكل وزير أو سياسي أراد أن يدخل التاريخ الفلسطيني عبر قانون جديد، فغير مهم جودة هذا القانون، وإن فشل السياسي فالفشل فشل القانون ولا يعزى للسياسي.
وتلا ذلك سيل القرارات بقانون وفق المادة 43 من القانون الأساس لعام 2003 نظرا لغياب السلطة التشريعية. والكارثة أن رجال السلطة التنفيذية رفضوا تنفيذ أحكام قضائية ونصبوا أنفسهم رقباء على السلطة القضائية ذاتها. ولعل ما يجري وما جرى، هو نتيجة متوقعة لغياب النصيحة القانونية السديدة، والراي القانوني الموضوعي غير المسيس ، وفقد روح احترام القانون الوضعي والتعامل معه كأداة يخدم العمل السياسي والسياسيين فقط لاغير. فضلا عن ان نقابة المحامين خلال أدوارها المتعاقبة، لعبت دور المشاهد واكتفت بذلك الدور النظري، ولم تطمح لتقيلد دور نقابات محامين دول مجاورة، فقد كانت تعلم مسبقا أن السياسي هو من اتى بالنقابي لا هيئته العامة، ففوزه كان أقرب للتعيين من الإنتخاب الشرعي.
للأسف تحت مقولات مختلفة ومصالح متعددة جرى تدمير دور القانون الوضعي في فلسطين بحجة أو بأخرى، مع أن جميع دول العالم تتبنى نهج القانون الوضعي بدون استثناء. فلا توجد دولة في هذا العالم المترامي الأطراف في العصر الحديث، لا تتبنى نهج القانون الوضعي، بغض النظر عن دينها ولغتها وموقعها ومساحتها وفكرهها وايدولوجيتها وثرائها أو اي اعتبار آخر.
والسبب في هذا التبني الشامل العالمي، هو الإلزام القانوني في القانون الوضعي الذي بدونه يغدو القانون مجرد نصح وإرشاد. فكل قاعدة اجتماعية ليست قانونية وضعية تفتقد للإلزام مهما كانت أخلاقية أو دينية او سياسية. فيجب أن تتحول القاعدة الإجتماعية إلى قاعدة قانونية حتى تصبح ملزمة وينصاع لها الجمهور وبدون ذلك التحويل لن يتم الإنصياع. المهم ان يوضع القانون الوضعي ويصاغ وفق مصلحة الوطن وليس وفق مصلحة فئة منتفعة لكوننا آنذاك نغدو في ما يسمى الإنحراف التشريعي.
لذا يبدو مستغربا بل مستهجنا أن ترفض فئة تنفيذ القانون وبخاصة في زمن الطوارىء. فلا يوحد الأمة غير القانون، ولا يرتقي بالأمة غير القانون، ولا يدافع عن الضعيف غير القانون، ولا يأخذ الحق من القوي غير القانون، ولا يعيد الحق إلى نصابه غير القانون، ولن يرد الفساد غير القانون، ولا يلزم غير القانون، ولن يرتقي الشعب الفلسطيني بغير القانون الوضعي من خلال محاكم عادلة تحق الحق خلال فترة قصيرة وسلطة تنفيذية تحابي القانون وقضاته، فهذا واجب الجميع وليس واجب واحد، لكن أسوأ الفساد هو فساد الأفضل!