كل الذين شاهدا وراقبوا النظام المصري وهو يتهاوى تدريجيا على وقع المظاهرات والاعتصامات المليونية، كانوا يعتقدون أن ربيع مصر وثورته سوف يقودان إلى بناء دولة عربية ديمقراطية مدنية، تمكن مصر والدول العربية تباعا من الانتساب إلى عضوية نادي الدول الديمقراطية، مؤذنة ببزوغ عصر الحداثة في المنطقة بعد عقود من المخاضات العسيرة.
مما لا شك فيه أن القوى الثورية في مصر قد حققت إنجازات مهمة، بدءا بالإطاحة بالرئيس حسني مبارك وحزبه الذي سيطر على الحياة السياسية في مصر لعقود، وانتهاء بخلق ديناميكية سياسية غير مسبوقة هي أقرب إلى ورشة إعادة البناء للدولة المصرية. ولكن بعد تحقيق بعض النجاحات، وبعد أن توارت الجماهير من ميدان التحرير، بدأت عملية الانقضاض على أهداف الثورة التي أطلقها الشباب، وخاصة في إقامة دولة ديمقراطية مدنية.
بداية، بدأ المجلس العسكري الذي يحكم مصر حاليا بترتيب الأمور الداخلية للنظام. وبالرغم من أنه طرح نفسه كحام وحارس للثورة وأهدافها، إلا أنه بدأ بالانقضاض التدريجي عليها من خلال سلسلة من الإجراءات والقرارات التي بات من الواضح أنها تهدف إلى إعادة ترتيب الأوراق بدلا من استبدالها. فقد جاءت صياغة الدستور والاستفتاء عليه لتؤكد تحالفه مع القوى المحافظة في المجتمع، وعلى رأسها التيار الإسلامي الذي تم اقصاؤه تماما من قبل النظام السابق، بطريقة تسمح بوصول القوى الإسلامية والمتحالفة مع النظام الجديد في المرحلة التالية. أما بالنسبة للحكومة المؤقتة التي أصدر المجلس قرارا بتشكيلها وتعديلها عدة مرات، فقد جاءت استجابة لضغط الشارع، ولكن في واقع الأمر ليس لها سلطة حقيقية مستقلة عن المجلس العسكري. وبعد التباطؤ في البدء بمحاكمة مبارك، أدرك المجلس، وتحت ضغط الشارع، أنه لا بد من المباشرة بمحاكمة مبارك ورموز النظام السابق بعد أن أعطاه فرصة طويلة لترتيب أوراقه.
أما القوة الأخرى والتي تكاد تكون الأقوى والأكثر تنظيما، فهي الحركة الإسلامية، وخاصة جماعة الإخوان المسلمين. فبالرغم من انخراطها الفاعل مع شباب الثورة، والدور المهم الذي لعبته في إسقاط النظام الحاكم، إلا أن خطابها وسلوكها بدءا بالتراجع عن دعم فكرة الدولة المدنية الديمقراطية التي دعمتها بخجل في المرحلة الأولى من الثورة، وبدأت تنحو أكثر نحو برنامجها التقليدي الساعي لإقامة دولة دينية، وإن كان بنسخته المصرية. قبل الثورة لم يكن طموح الحركة الإسلامية أكثر من الاعتراف بها رسميا، والسماح لها بالمشاركة العلنية في الحياة السياسية، ولم يكن يوما ببرنامجها القيام بثورة على النظام السابق. لذلك، فقد جاءت الثورة المصرية هدية من السماء للجماعة، التي برزت كأكبر قوة سياسية بعد الثورة، وبدأت معالم الانقسام تظهر بينها وبين القوى الثورية الأخرى حول شكل الدولة المستقبلية في مصر. ولذلك، فهي تجد نفسها أقرب للمجلس العسكري منها للقوى الثورية الشبابية.
أما القوى الشبابية، وإن كانت هي التي أطلقت شرارة الثورة، فأغلبها قد بدأ بتنظيم نفسه بعد الثورة، وتبدو الآن بأنها الحلقة الأضعف في معادلة القوة التي تتقاسمها مع المجلس العسكري والقوى الإسلامية.
إن المؤسسة العسكرية كانت جزءا لا يتجزأ من النظام السابق، ومن المرجح أن قياداته (التي يشكل أغلبها المجلس العسكري) كانت مستفيدة من النظام السابق، وتريد أن تحافظ على تلك المكاسب مستقبلا.
إن الذي يحدد مسار ربيع مصر الآن هو المجلس العسكري، والذي سيحاول أن يعيد إنتاج نظام يختلف عن النظام السابق نسبيا، ولكن ليس جذريا. لذلك، يمكن القول إن نتائج الربيع المصري لا تختلف عن انقلاب قصر موسع، وهي حتما أقل من نتائج ثورة، وعلى الأقل في هذا الفصل من كتاب الثورة.
ربيع مصر: أكبر من انقلاب وأصغر من ثورة
أخبار البلد -