منذ قرنين ونيّف من الزمان, ساد في الفكر السياسي مبدأ الشعب مصدر السلطة, وتم تعميد هذا المبدأ في الدساتير الأوروبية والأمريكية تباعاً, وبعدها انتشر في الدساتير التي وضعتها الأمم والشعوب لدولها. ولما كان الشعب, بسبب كثرة عدده في دول العالم, لا يستطيع أن يجتمع لممارسة السلطة, كما هو الحال في بعض كنتونات سويسرا التي لا يزيد عدد الناخبين فيها عن بضعة آلاف, فقد توصل الفكر الإنساني إلى قواعد أصبحت تنص عليها الدساتير وهي, أن يختار الشعب نواباً عنه في انتخابات حرة ونزيهة, لممارسة السلطة باسمه, عن طريق إعطاء الثقة للحكومات ليكون وجودها وممارستها لسلطاتها أمراً دستورياً, ومراقبة أداء تلك الحكومات ومحاسبتها, وإصدار التشريعات التي يطبقها القضاء على الحاكم والمحكوم على حد سواء. وإذا كانت الشعوب قد انتزعت هذا المبدأ من يد السلطان المطلق ودفعت في سبيل ذلك ضحايا ودماء, فإن هذه الشعوب استطاعت حماية المبدأ حتى الآن, وبذلت الضحايا والدماء أيضاً لتحقيق هذه الحماية.
وعملاً بمبدأ الشعب مصدر السلطة, فقد فصلت دساتير النظام البرلماني بين السلطة وبين المُلْك, وأصبحت السلطة, كل السلطة, يمارسها الشعب وفقاً لما سبق, في حين أصبح الملك رمزاً للدولة. ولذلك, لم يعد مقبولاً لدى دول العالم, وبشكل خاص دول النظام البرلماني, ومنها الملكيات الدستورية, أن تنص دساتيرها على وجود مجلس تشريعي بالتعيين, لأن الأعضاء المعينين لا يجسدون إرادة الشعب, بل يجسدون إرادة الحكومات التي عينتهم.
وإذا كان الدستور الأردني لعام ,1952 قد نص على وجود مجلس أعيان عدد أعضائه لا يزيد على نصف أعضاء مجلس النواب, وأن يكون أعضاء المجلس معينين, ليمارس هذا المجلس سلطة التشريع, وكان يتم تبرير هذا التعيين بأنه لسد النقص في الكفاءات التي قد تسفر عنها الانتخابات النيابية, فإن سوية الشعب الأردني الآن من حيث الثقافة والتعليم, وارتفاع نسبة حملة الشهادات الجامعية فيه التي تزيد عن بريطانيا وأمريكا ودول أوروبا, قد اختلفت عن سوية هذا الشعب عام ,1952 وبالتالي لم يعد لتبرير التعيين أي أساس.
وهكذا, فإنه إذا كانت هناك إرادة جادة للإصلاح, فلا يجوز أن يمارس السلطة, مجلس لم ينتخبه الشعب, وقد آن الأوان لتصبح عضوية مجلس الأعيان بالانتخاب من الشعب كمصدر للسلطة. وقد يكون في إعطاء أمثلة من بعض دساتير النظام البرلماني, في موضوع مجالس الأعيان, وما هو مستقر فيها, ما يبين الكيفية التي التزمت فيها دول هذا النظام, وعلى وجه الخصوص الملكيات الدستورية, بمبدأ الانتخاب الذي يجسد إرادة الشعب:
ففي مملكة بريطانيا نجد أن لديها مجلس اللوردات, وهذا مجلس غير منتخب, وترجع أصوله لعام ,1295 عندما اجتمع أول مجلس للتشريع, وانقسم في مراحل لاحقة إلى مجلس العموم (النواب) المنتخب من الشعب, ومجلس اللوردات الذي يتكون وفقاً لمنهجية مؤسسية, من رجال الدين, وأصحاب الألقاب الوراثية حيث ينتقل اللقب إلى الابن الأكبر بعد وفاة الأب, وأصحاب الألقاب العمرية حيث ينتهي اللقب بوفاة صاحبه. وبالرغم من القيمة التاريخية لهذا المجلس والأسلوب المؤسسي للعضوية فيه, إلا أنه بسبب عدم انتخابه, فقد ضاقت بريطانيا ذرعاً به وأصبح عبئاً على الشعب الانجليزي, فأخذ بتقليص سلطاته, وأصدر مجلس العموم المنتخب من الشعب قوانين (ذات طبيعة دستورية) خلال القرن العشرين, يحدد بموجبها فئات القوانين التي لا يجوز لمجلس اللوردات أن يعترض عليها أو يعدل فيها. وأخيراً ففي 7/3/2007 بحث مجلس العموم موضوع إلغاء مجلس اللوردات ليحل مكانه مجلس منتخب يسمى مجلس الشيوخ البريطاني (Senate of the United Kingdom), وذلك من أجل أن يتعرف على توجهات الشعب الإنجليزي من خلال نوابه, ويرتب على هذا التوجه مقتضاه في المستقبل, فكانت النتيجة أن صوت (337) لصالح التوجه الجديد و(224) معارضة. وأعتقد أنه في ضوء ما تقوم به اللجان المكلفة بهذا الموضوع في الوقت الحاضر, فلن يطول الوقت على بريطانيا حتى تلغي هذا المجلس, رغم قيمته التاريخية, وتأخذ بالتوجه الجديد. ونلاحظ هنا أنه بالرغم من الفارق الكبير بين الحرية والاستقلالية التي يتمتع بها أعضاء مجلس اللوردات في بريطانيا, وتلك التي يتمتع بها الأعيان في الأردن, فإن بريطانيا وجدت أنه لم يعد لهذا المجلس غير المنتخب مكان في سلطتها التشريعية مع كل ما قدمه لهذه الدولة العظمى من خدمات.
وفي مملكة بلجيكا التي أخذنا دستورنا عنها, فإن دستورها ينص على أن يتكون مجلسها التشريعي من مجلسين, مجلس نواب يتكون من (150) نائباً, ومجلس أعيان يتكون من (71) عيناً, ويختار الشعب البلجيكي كل واحد من المجلسين بانتخابات حرة ونزيهة. وفوق ذلك نص الدستور على أنه لا يجوز أن يزيد عدد أعضاء مجلس الوزراء عن (15) وزيراً, علماً بأن عدد سكان بلجيكا (11) مليون نسمة.
وفي مملكة هولندا التي يبلغ عدد سكانها (15) مليون نسمة, ينص دستورها على أن سلطتها التشريعية تتكون من مجلس نواب عدد أعضائه (150) عضواً, ومجلس أعيان يتكون من (75) عضواً, وكل واحد من المجلسين يتم انتخابه من الشعب وفقاً لانتخابات حرة ونزيهة. كما ينص دستور بلجيكا على أن عدد أعضاء مجلس الوزراء لا يجوز أن يزيد عن (15) عضواً.
وفي مملكة إسبانيا التي تتكون من (48) مليون نسمة, ينص دستورها على أن مجلس النواب يتكون من أعضاء عددهم ما بين (300 - 400) نائب, ومجلس شيوخ بواقع (4) أعضاء عن كل مقاطعة/إقليم, وكل واحد من المجلسين ينتخبه الشعب وفقاً لانتخابات حرة ونزيهة.
وبعد: فإذا كان الإصلاح في الأردن يهدف إلى الوصول إلى مجلس نواب يُعبّر عن الإرادة الحقيقية للشعب الذي انتخب أعضاء هذا المجلس, فلماذا نصادر إرادة الشعب, بالإبقاء على مجلس أعيان غير منتخب.
ويكفيني هنا القول, إن وجود مجلس أعيان معين كجزء من السلطة التشريعية, هو أمر يشكل في الوقت الحاضر, وصمة عار في جبين مبدأ الشعب مصدر السلطة, وسُبّة في وجه الديمقراطية التي نسعى إليها. وأتمنى على المصلحين, أن يجعلوا مجلس الأعيان مجلساً منتخباً.
أ.د محمد الحموري يكتب : مبدأ الشعب مصدر السلطة يستوجب مجلس أعيان منتخبا
أخبار البلد -