بداية هذه القصة مهداة إلى صديقي وأخي الدكتور نضال العزب.
الطبيب والإنسان.
اضطر أبي الحبيب لبيع أثاث المنزل بعد شعوره بعدم القدرة على العمل المضني وباع أيضاً الخزانة الدمشقية وجهاز أمي الذي أحضره من تركيا وباع قطعة أرض بعبدون ليدفع رسوم الجامعة وأصبحت أمي تعمل بحياكة الثياب وبيعها وحيكت لي ثوب التخرج وحرصت على حياكة أول ثوب أبيض لطبيب يعشق مهنته وحلمه.
وكان أبي فقير الحال ويتمنى أن يصبح ابنه طبيب ليباهي به العال وأبناء الحي ويعالج الناس عند ضعف الحيلة وأمي كذلك .وكان تخصصي ،،،نسائية وتوليد.
ما أن تخرجت من الجامعة كان منزل أبي لا يوجد به أي قطعة أثاث والحمد لله ومضت الأيام بحلاوتها ومرارتها إلا أن أصبحت بفضل الله طبيب مشهور يشهد له الناس بالخلق الرفيع والسمعة الطيبة إلى أن وصلت شهرتي الوطن العربي.
وبالمناسبة مختار الحي ولفيف من الأصدقاء والمقربين تبرعوا لي بأول سماعة طبيب لأمارس هذه المهنة والمهمة المستحيلة.
فدعيت لأول مؤتمر بعد سنوات مضنية لجامعة السودان لألقي أولى محاضراتي هناك وبدأت أجهز حقائبي السوداء بعناية وخصوصاً بأني أغادر وطني ولأول مرة ولا أخفيكم سراً بأن رحلة الطائرة كنت أحسب لها ألف حساب ولسوء حظي لا يوجد طيران مباشر ويجب أن أهبط بمصر ومن ثم أطير مرة أخرى للسودان وكنت أخاف أن أتأخر عن هذا المؤتمر الهام بالنسبة لي ولمكانتي المهنية ولبلدي الأردن.
كان الإقلاع هادئاً بعض الشيء ولكنه بعد مضي نصف ساعة أخذت الطائرة بالتأرجح والمطبات الهوائية أفقدتني الشهية وأوقعت كوب الشاي على ثيابي فأشار الكابتن بأن الطائرة ستهبط بمطار عسكري هبوط اضطراري وهذا الكلام سيفقدني الوقت للوصول إلى السودان بالوقت المتفق عليه ولسوء حظي هاتفي النقال لا يعمل دولي وطلبت منا السلطات المصرية المشي على الأقدام لحين قدوم الباص المخصص لنقلنا لمطار القاهرة الدولي.
وأصبح وجهي يشابه الليمون بلونه الأصفر وكونها أول مرة شعرت بالضياع وما أن وصل الباص المخصص كنت على وشك الهلاك من سوء الجو هناك من غبار وأتربة وأصبحت الطائرة جاهزة للإقلاع مرة أخرى وكان أكبر همي أن أحضر هذا المؤتمر وما أن وصلنا لمطار القاهرة بلغونا بأن طيران السودان تأجل لتردي الأحوال الجوية وهنا وبهذه اللحظة الهستيرية قررت الذهاب هناك على متن تاكسي رغم أنه متهالك إلا أنني سأصل بنهاية المطاف وقد دفعت مبلغ لا بأس به لأصل بالوقت المحدد وطلبت من السائق مضاعفة السرعة لأضاعف له المبلغ المتفق عليه وكان سعيداً بهذا إلا أن الأقدار عاندتني وكعادتها ،،،لتتعطل المركبة بوسط الصحراء وأصبحت المسألة معقدة بدون ماء ولا طعام وتحتاج المركبة ليوم كامل لعمل اللازم وقررت متابعة المشي لتتعثر خطواتي وأنفاسي من قلة الراحة وبعد المشي المضني شاهدت من بعيد منزل متهالك آيل للسقوط بداخله ضوء خافت يكاد يكون لفانوس أوشك زيته على الانتهاء،،، وما أن قرعت الباب،،، بصوت خافت وأنين لسيدة أوشكت على الموت السريع
لأطلب منها الماء والطعام فكانت تقدمه بدون مقابل وسألتها هل يوجد هاتف أرضي عندكم لأطمئن أهلي،،، فقالت لي هنا لا يوجد أي خدمات فما بالك بتلفون ضاحكة والدمعة بعيونها فقلت له ما بالك يا أختي وقالت متألمة وباكية تزوجت منذ ثمانية عشر عاماً ولم أحصل على الأطفال وباليوم الذي أصبحت به حامل أفتقد للعلاج والرعاية الصحية فذهب زوجي منذ فترة لإحضار طبيب متخصص ليشرف على علاجي ولم يعاود لغاية هذه اللحظة فجلست باكية أطلب من الله قدوم طبيب اسمه (نضال العزب ) من الأردن الشقيق هذا الطبيب الذي وصلت شهرته إلى هنا من أشخاص كانوا في الأردن ذكروا لي اسمه لينقذني ولينقذ طفلي الأول الذي انتظرته طويلاً،،، سمعت هذا وغرغرت الدمعة من عيوني واحترقت أجفاني فقلت لها قد استجاب الله دعائك أختي الفاضلة أنا الطبيب (نضال العزب ) من الأردن تقطعت بي كل السبل لأصل إلى السودان وتأخرت الطائرة وفي نهاية المطاف تعطلت المركبة بعمق الصحراء وتعذبت من قلة الماء والطعام تلك المركبة المتهالكة التي كانت تقلني لأصل هنا ولهذا المنزل بالتحديد فأنت امرأة مباركة ليسمع رب العباد دعائك،،، فقد عاندت الدنيا لأصل السودان ولكن قدري أن أصل هنا مشياً على الأقدام ولم يكتب لي ذلك المؤتمر.
وقام الطبيب الإنسان بإجراء فحص أولي لهذه السيدة ليجد بأن الجنين تسارعت نبضات قلبه فوق 180 ضربة بالدقيقة واستعرض هذا الجنين ليضغط على الكلى وما سببت هذه الأوجاع من نزف وفقر دم وعمل ما عمل ليصل إلى الماء الساخن وبعض الأدوات البدائية،،، ومع أولى صرخاتها بتلك الليلة الزمهريرية،،، قرر الطبيب أنأ ينقذ حياتها وحياة جنينها الأول بعمل تلك العملية ليأتي إلى هذا العالم الصعب الضيف العزيز الذي أطلقت عليه اسم (محمد) على اسم أشرف الخلق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ليباركه الله،،، وقام بالآذان بأذنه وقام بتغسيله وكانت السيدة بغاية السعادة الممزوجة بالتعب واختلط الفرح والحزن معاً آه لهذا المنظر الذي كان يساوي كنوز الأرض وما عليها،،، لتصل للسعادة المطلقة من هذا الكرم والخلق لهذا الطبيب الذي بعثه الله لمنزلها المتهالك الذي لا تصله مركبات ولا طائرات ولا كهرباء ولا ماء.
وقام بإعطائها مجموعة فيتامينات كانت معه بعضها لاسترداد بعض الدماء التي نزفت منها وفي هذه الإثناء جاء زوجها ليجد هذا الطبيب بداخل منزله فبكى من هول المفاجئة وشاهد وسمع من زوجته ما حصل ليقع من فرحته أرضاً وقبّل ولده محمد وقام بعمل الطعام بعدها لهذا الطبيب الإنسان.
فسأل الطبيب ما تكلفة علاج زوجتي والعملية التي قمت بها أتمنى أن أدفع لك كل التكاليف وعناء وصولك ،،، فقال له الطبيب على الفور إيصالي إلى أقرب مطار ليتسنى لي العودة لوطني الحبيب فقط لا غير.
وهنا وبعد كل هذا التعب قال الدكتور نضال لهذا الرجل يا (أبو محمد) أنا أسعد إنسان هذا اليوم على وجه البسيطة فقد كرّمني الخالق وأرسلني هنا لأعمل عمل يكون بميزان حسناتي ان شاء الله فالطب هو أسمى رسالة بالوجود،،،لا بالمال ولا الجاه ولا بالمنصب فالطبيب هو من أكثر الناس حساسية وعرضه للأمراض الفتّاكة ،،،الطب ببلادنا مهنة صعبة ومردودها من المال سيء ولكن تبقى تلك الرسالة وذلك القسم الذي أقسمته بخدمة الوطن والناس بدون مقابل فما أروعه من عمل رغم قلة الراحة وقلة الاسترخاء ويبقى أن أقول بأن الله أراد كل هذا لغاية معينة وحكمة،،، أحمد الله على كل شيء.
الطبيب المناوب
هاشم برجاق
الموقع الرسمي للكاتب