بعد مرور مئة يوم على حكومة البخيت، ورغم ما شابها من أخطاء جسيمة على رأسها شاهين قيت، يسجل لها قرارها الشجاع بوقف التعيينات في المؤسسات المستقلة، وإلغاء بعضها على أمل إلغائها كلها، وإعادة هيكلة رواتب الدولة، ومثلما ينتقد الناس الأخطاء عليهم أن يمتدحوا الإيجابيات، ويعززوا القرار الصائب، ولعل قرار الحكومة هذا سيسجل لها في تاريخ الدولة الأردنية في مجال الإصلاح الإداري، وإزالة التشوهات في سلم الرواتب؛ مما سيترتب عليه بالضرورة إصلاحات كثيرة من أهمها الإصلاح الاجتماعي، وتعزيز الانتماء للوطن لما يوفره لأبنائه من عدالة في لقمة عيشهم التي يدور حولها اهتمام كثير من المواطنين.
لقد كان من أسباب كثرة الشكوى، والإحباط عند أبناء الوطن الواحد عدم توفر العدالة بشكل سافر ومستفز في مجال الرواتب والامتيازات، ففي حين تجد أستاذ الجامعة- مثلا- الذي عمل في الخدمة لمدة تزيد عن خمسة وعشرين عاما وبأعلى رتبة أكاديمية لا يزيد راتبه عن ألف وخمسمئة دينار، نجد أحد طلابه الذي تخرج للتو يأخذ أضعاف راتبه لأنه يعمل في مؤسسة خاصة، كل هذا يحدث في البلد نفسه، وتحت ظل ومسمع الحكومة نفسها! فكان أن هاجرت الكفاءات، وفسدت مؤسسات الوطن، وزاد الاحتقان الشعبي الذي وصل إلى درجة الغضب، وتعاظم السخط الاجتماعي، فكان من أهم نتائجهما العنف المجتمعي بصورة ملحوظة في العام الماضي، وكثرة الاعتصامات والمظاهرات هذه السنة.
ساهم وجود رجل على رأس وزارة تطوير القطاع العام بخبرة الساكت وقدراته باعتبار عمله في ديوان الخدمة المدنية لمدة طويلة في تطوير القطاع العام لاسيما مع ما أعلن من وجود إرادة سياسية حقيقية باتت ملزمة للحكومة في ظل تسونامي التغيير الذي يجتاح العالم العربي.
إن قرار الحكومة بمعالجة التفاوت في الرواتب، وتغوّل المتنفذين على المؤسسات الخاصة ذات الرواتب المتورمة، ومنها ذات الأربعين مديرا لعشرين موظفا على حساب الشعب الفقير قرار شجاع بامتياز؛ لأن كثيرا من المتأثرين سلبا بهذا القرار هم من المنتنفذين وأبنائهم وأنسبائهم وشللهم، وبالتالي فإن الحكومة ممثلة برئيسها تستحق الثناء والدعم الشعبي الكافي لتشجيعها على اتخاذ القرارات التي تصب في مصلحة الوطن والغالبية العظمى من المواطنين.
بالتأكيد سيحتجّ على القرار المنتفعون منه، واحتجاجهم مبرر لكن المسؤول عن الضرر الذي لحقهم هو من غرر بهم بإنشاء هذه المؤسسات دون التنبه إلى الضرر المترتب عليها، وأنها شكل من أشكال الفساد، وأي قرار إصلاحي سيعترض عليه المتضررون منه، فالإصلاح له ثمن وطالما أننا نريد الإصلاح، فعلينا جميعا تحمل تبعاته إذ لا يعقل أن نطالب بقانون إصلاحي يخدم تطلعات كل واحد منا، والمهم الآن حسن التطبيق وعدالته، فلا نسمع عن استثناءات لشركات ومؤسسات، فنعود إلى المربع الأول.
إن الوطن أكبر من المجاملات، والفتنة عمياء لا تفرق بين فاسد وبريء، فنحن اليوم بحاجة إلى تخليص الوطن من الورم السرطاني المتمثل بالفساد والمحسوبية، وما كان هو شكل من أشكالهما.