نعلم جميعاً بأن فصل الدين عن الدولة في المجتمعات الاوروبية حدث نتيجة لظروف تاريخية، تمثلت في هيمنة الكنيسة المسيحية على مفاصل الدولة في العصور الوسطى، وما نتج عن ذلك من تصادم مع السلطة المدنية لحكام وملوك أوروبا آنذاك، ومن ثم مع المفكرين العلمانيين، الذين انحازوا إلى جانب السلطة المدنية في مواجهة السلطة الدينية للكنيسة، فعاشت أوروبا حروباً أهلية كانت سبباً في انتهاء مرحلة الحكم الديني للكنيسة وطغيان الفكر الفلسفي العلماني، الذي جعل من فصل الدين عن الدولة من أهم المبادئ الأساسية التي تقوم عليها الدولة الحديثة وفقاً لنظرية (العقد الاجتماعي) القائمة على تنظيم العلاقة مابين الحاكم والمحكوم.
لقد أصبح فصل الدين عن الدولة منذ عصر النهضة في أوروبا من القضايا المسلم بها في الفكر الغربي السياسي، ومن ثم في الفكر السياسي العالمي الدائر في فلك الحضارة الغربية، لكن يبقى السؤال هل هذا الفصل أو المنع هو(منع تحريم)؟ أي أنه لا يجوز على (المتدينين) إن صح التعبير الحق في ممارسة أو مشاركة أصحاب الفكر العلماني في العمل السياسي (الدولة العلمانية) أم أن الأسس الديمقراطية القائمة على العدل والمساواة وحق المشاركة السياسية لجميع الفئات والأطياف الفكرية والاجتماعية سمحت للمتدينين المشاركة في العمل السياسي، باعتبارهم جزءاً لايتجزأ من نسيج المجتمع الأوروبي، وهل يمكن لنا القول أن المسوغات التاريخية لهذا الفصل يمكن أن تكون مقبولة لدى المجتمعات غير الأوروبية وغير المسيحية الأخرى بعد أن أصبحت الديمقراطية هي المنهج الفكري الوحيد للدولة الحديثة على المستوى العالمي؟ وهل تقبلت تلك الدول هذا الفصل، هذا ما سوف نحاول توضيحه من خلال دراستنا هذه.
* فصل الدين عن الدولة في المجتمعات الغربية
إذا ما ابتعدنا عن جدلية المصادرالفكرية للديمقراطية في أوروبا، فلابد من الإقرار بأن فلاسفة ومفكري الديمقراطية الحديث في الغرب، قد استمدوا كثيراً من نظرياتهم من العهد القديم (الفلسفة الاغريقية)، ومن ثم الفلاسفة والمفكرين المسلمين في العصور الوسطى وصولاً إلى عهد النهضة الاوروبية، و نحن نعلم أن تطور مفهوم فصل الدين عن الدولة في العالم الغربي المسيحي بدءاً لأسباب عديدة ومتراكمة، من أهمها تصادم مصالح سلطة الكنيسة مع سلطة الملوك والامراء في أوربا (السلطة الدينية والسلطة المدنية)، فقد سعت الكنيسة طوال القرون الوسطى وما قبلها للمحافظة على مكتسباتها الدنيوية بالهيمنة على مفاصل الدولة ووقوفها ورفضها لجميع أفكار الحداثة التي طرحها المفكرون المدنيون (العلمانيون)، وانحياز هؤلاء إلى السلطة المدنية (الأمراء والملوك) بعد حروب وثورات طاحنة، جوهرها القضاء على الحكم الديني للدولة, بعد أن أصبحت تشكل عائقاً أمام تقدم الشعوب فجدد العلمانيون أمثال: (مونتسكيو، هوبس، جان لوك ،جان روسو، ومكافيلي) وغيرهم، دعوتهم إلى تغيير شكل العلاقة بين الحاكم والمحكوم (العقد الاجتماعي) حتى أصبح مبدأ الفصل ما بين الدين والدولة بعد الثورة الصناعية والثورة الديمقراطية في أوروبا من المبادئ الأساسية التي يرتكز عليها أي نظام ديمقراطي في الدول الغربية. ولكن يبقى السؤال كما قلنا سابقاً؛ هل تم فعلياً فصل الدين عن الدولة في النظم الديمقراطية الغربية؟ وما هي الأسس الديمقراطية التي استطاع من خلالها المجتمع الاوروبي تجنب الصراعات الفكرية الدينية والطائفية واستيعاب جميع التيارات الاجتماعية والفكرية.
* المواطنة كأساس للديمقراطية الغربية
لقد عدّ أصحاب الفكر التنويري أن تحقيق مبادئ الحرية والمساواة والعدالة وغيرها من المبادئ الديمقراطية في المجتمعات الغربية والتنوع الفكري لا تكفي لوحدها لتحقيق الاستقرار والازدهار للدولة ما لم تؤدي في مجملها إلى هدف أسمى، ألا وهو (المواطنة) القائمة على المساواة في الحقوق والواجبات كأساس للدولة الحديثة، فما دام المواطنون الأوربيون لا ينتمون إلى دين أو مذهب فكري واحد، وما دام الجميع متساوون في الحقوق والواجبات، فلقد اعتبر إلتزام الدولة بمعتقد ديني أو فكري واحد إجحاف بحق المواطنين المنتمين إلى معتقدات دينية وغير دينية أو فكرية أخرى، لذلك كان لابد من المساواة بين جميع أطياف المجتمع في الحق بالمشاركة (التعددية الفكرية) دون قيد أو شرط (حرية المعتقد)، على أن تكون المواطنة هي القاسم المشترك لجميع فئات المجتمع دون تمييز بينهم على أساس الدين أو المعتقد أو العرق أو اللغة أو اللون.
* المتدينون وحق المشاركة السياسية
بعد أن تجسدت مبادئ الحرية والعدالة والمساوة لدى وجدان المواطن الغربي واعتبارها -أي تلك المبادئ المحرك الاساسي والفكري للدول الأوروبية وارتضاء وإيمان الجميع بهذه بهذه المبادئ (دولة القانون)-، فلقد أصبحت مصطلحات الاقصاء والتهميش والتمييز من المحرمات، فممارسة أصحاب الفكر الديني للعمل السياسي أصبح مقبولاً ولم يعد يشكل اي عائق او خوف في تلك المجتمعات، بعد قبولهم بالديمقراطية المدنية كأساس لهذه المشاركة، وبالفعل فلقد أصبحت الأحزاب ذات المرجعية الدينية منتشرة في جميع أنحاء الدول الغربية والتي تشير صراحة إلى قبولها بالديمقراطية والعلمانية في برامجها وحتى في تسمياتها وتخليها عن المنهج الديني كأساس للدولة، حتى أصبحت تشكل قوة لا يستهان بها في النظم السياسية لتلك الدول. بل إن بعض الأحزاب الدينية، في بعض الدول الاوروبية استطاعت تولي رئاسة الدولة والحكومات، منها على سبيل المثال:
(الحزب الديمقراطي المسيحي) في ألمانيا الذي ترأسه السيدة (أنجيلا ميركل) والذي نشأ على يد الكاثوليك البافاريين، وقد نشأت أحزاب دينية ديمقراطية عديدة في أوروبا كرد فعل محافظ للتيارات «الليبرالية» وأصبح يطلق على تلك الأحزاب تسميات عديدة كالأحزاب اليمينية أو المحافظة، نظراً لطبيعتها الدينية وتحفظها على بعض الحريات أو الممارسات الديمقراطية. ولكن ذلك لم يمنع بعض الأحزاب الدينية من الإنغماس بالعمل الديمقراطي ، بل والنص صراحة على الديمقراطية في تسمياتها الحزبية, إضافة إلى تسميات أخرى (كالإشتراكية والليبرالية والاجتماعية) وغيرها من التسميات التي تدل على قبولها المطلق باعتبار الدين جزء لايتجزأ ولا يتعارض مع المفاهيم العلمانية للدولة الديمقراطية في بلدانهم وهي – بحكم طبيعتها – تسعى لأن تكون محايدة تماما في مسائل «طبيعة الحكم السياسي»، فهي تقبل العمل بجميع اشكال النظم الحاكم (ملكية أو جمهورية أو رئاسية، برلمانية)، وتتبنى في برامجها الحزبية في الشق الديني سبيل الخلاص الأخلاقي والمادي لشعوبها مع تأكيدها على أهمية التراث المسيحي.
ويرون أن الاقتصاد في خدمة الإنسانية، وليس العكس، وإن كانوا لا يرفضون الرأسمالية من حيث المبدأ؛ ويرون أهمية واجب الدولة نحو مواطنيها. كما أنهم عادة محافظون اجتماعياً، وبالتالي يعارض معظمهم الإجهاض والزواج المثلي. وقد تحولت بعض الأحزاب في أوروبا، في العقود الأخيرة، تدريجياً نحو الجناح اليميني لليبرالية الاقتصادية التي تنادي بتقليل دور الدولة الاقتصادي.
* فصل الدين عن الدولة
في المجتمعات الإسلامية
على النقيض مما حصل في المجتمعات المسيحية الغربية، لم تشهد أي من المجتمعات الإسلامية المختلفة على مر العصور منذ عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، إذا ما استثنينا (حروب الردة) أي دعوى لفصل الدين عن الدولة أو رفض للاسلام كمعتقد أو منهج (فكري اجتماعي اقتصادي سياسي للدولة)، ولم يكن الإسلام يوماً محل خلافٍ أو سبباً لدى المواطن في الدولة الاسلامية سواء في عهد الخلافة أو بعدها للدعوى لقبول أي معتقدٍ آخر يدعو إلى فصل الدين عن الدولة. بل على العكس ثبت تاريخياً أن ابتعاد الخلفاء أو الزعماء المسلمين عن تطبيق المنهج الديني كان السبب الأساسي لإنهيار الدولة الاسلامية (الصراع على السلطة)، فمن الإنصاف ومن باب المقارنة، وإذا ما ابتعدنا عن جدلية الخلاف حول بعض نصوص القصاص في الشريعة الاسلامية التي لا تتلاءم وقوانين العقوبات في النظم القانونية الوضعية، فإن المنهج الإسلامي منذ استتباب الدولة الإسلامية وتوسعها قد تفوق على جميع أشكال النظم الديمقراطية الغربية الوضعية في هيكلة الدولة وفقاً لمبادئ منهجية فكرية و إجتماعية وسياسية واقتصادية وادارية متكاملة تستند في مضمونها إلى القرآن الكريم والسنة النبوية، القائمة على أرقى مبادئ العدالة والمساواة، ونحن هنا لسنا بصدد الحديث بالتفاصيل، فيكفينا الرجوع إلى تاريخ الحضارة الإسلامية لمعرفة كيف استطاع المسلمون الإبداع وإغناء العالم بنظم وهياكل بناء الدولة الحديثة القائمة على التنظيم و الفكر والإبداع والعلم، وأن أغلب العلوم الفكرية التي يتغنى بها الغرب في أغلب الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والادارية والعلمية قد استُمدت من الحضارة الإسلامية، إما من خلال المفكرين المسلمين أو من خلال العلاقات الدولية التي كانت قائمة مابين دولة الخلافة الاسلامية ودول العالم المختلفة آنذاك بل ان الدولة الاسلامية استطاعت ان تضم في ثنايها مختلف الاعراق الانسانية في آسيا وافريقيا واروبا دون تمييز على أساس الدين أو العرق أو اللون أو اللغة.
وحتى لايفهم ما قلناه بطريقة خاطئه، فإننا لاننفي أن التاريخ الاسلامي قد شهد صراعات وقتالاً وانقساماتٍ داميةٍ مابين المسلمين، إلا أنها كانت صراعات على السلطة والنفوذ، فلم يكن الخلاف مع الدين أو رجال الدين في المجتمعات الإسلامية هو سبب إنهيار الدولة الإسلامية، بل أن جميع المؤرخين يؤكدون أن الابتعاد عن المنهج الفكري الاسلامي كان السبب في ما آلت اليه الحضارة الاسلامية. فلم يكن لرجال الدين أية سلطة دينية على المسلمين، وانما كانت سلطة معنوية في مجال التوعية والإرشاد والإغناء الفكري، اذا ما استثنينا دورهم في مجال القضاء، لأن الأحكام الدينية كانت هي مصدر القوانين، فكان القضاة من الفقهاء وعلماء الدين باعتبار ان الفصل في جميع الخلافات يتم وفقاً للشريعة الاسلامية.
إن الدعوى إلى فصل الدين عن الدولة في العالم الإسلامي بعد انهيار الخلافة العثمانية لم يكن وليد ثورات ورفض وتمرد للمجتمعات الاسلامية ضد الحكم القائم على أساس ديني، وإنما كان لتوظيف أصحاب الحكم انفسهم للدين كوسيلة لشرعية وجودهم في الحكم وللهيمنة والاستبداد فقد أدت (الشرعية الدينية) بهذا المفهوم. إلى صراع بين الحكام المسلمين وتوظيف المذهبية والطائفية والعرقية كوسيلة لبقاء حكمهم فكانت نتائج هذا الصراع بطبيعة الحال هي الانهيار والتفكك والتشرذم.
وفي تلك الاثناء وبعد إنهيار السلطة الدينية في أوروبا وانتصار الثورة المدنية في العالم الغربي، مروراً بالهيمنة الاستعمارية الغربية للعالم شهد العالم طغياناً للفكر الغربي على كافة المجتمعات الأخرى الدينية واللادينية في مختلف دول العالم، فمنذ منتصف القرن السادس عشر برر الأوروبيون استعمارهم للدول في العالم الإسلامي وغيره بذرائع الدعوى لنشر الديمقراطية والنهضة الفكرية، فاستغلت أوروبا انهيار دولة الخلافة الإسلامية (العثمانية) واستبدادها لتتمدد في العالم الإسلامي في ظل انهيار واضح للمنظومة الهيكلية للدولة العثمانية و تمرد العديد من الشعوب المنطوية تحتها، فكانت الدعوى الزائفة والمتكررة (حق الشعوب في تقرير مصيرها) (المسمار الاول) في نعش انهيار الدولة العثمانية وتجزؤها لتحل محلها الدولة (المدنية).
بعد (الحرب العالمية الأولى والثانية) وهيمنة الاستعمار الغربي على الدول الإسلامية، في ظل التخلف والانحطاط الفكري والاستبداد الذي كانت تعاني منه تلك الشعوب ،عملت الدول الاستعمارية على نشر وفرض الأفكار العلمانية في المجتمعات الإسلامية باعتبارها الوسيلة الأفضل للرقي والتقدم الحضاري لاسيما بين الطبقات المتعلمة، وحتى بين الطبقات الأخرى التي وجدت فيها وسيلة للتخلص من حكم الاستبداد الذي عانت منه إبان الحكم العثماني السابق.
بعد تزايد دعوات التحرر الرافضة للاستعمار وانتشار الثورات بين الشعوب الإسلامية وغيرها من شعوب العالم، حرصت الدول الاستعمارية قبل خروجها وعلى وجه الخصوص في العالم الإسلامي الإبقاء على نفوذها ورفضها لأي شكل من أشكال التحرر والعودة إلى الدولة الدينية، لاسيما أنها كانت تتخوف من الحركات الإسلامية التي تدعوا إلى إعادة الحكم الإسلامي، فعملت على تحييدها وتخويف الناس منها، بل أنها قامت باستغلالها وإدخالها في الصراع العالمي إبان الحروب العالمية الأولى والثانية ومابعدها في وقف المد الشيوعي (اللا ديني) للمنطقة.
* الأحزاب الإسلامية والديمقراطية
لم يكن أمام الحركات الإسلامية من خيار إلا القبول والدخول في لعبة الديمقراطية والمشاركة السياسية، فتحولت من حركات تحرر إلى أحزاب سياسية، فقبلت ظاهريا المشاركة السياسية والديمقراطية على أساس فصل الدين عن الدولة، بهدف تطويع وتوظيف أدوات و وسائل الديمقراطية كوسيلة لسعيها في الوصول إلى الحكم، إلا أنها لم تخفٍ حقيقة برامجها ومراجعها ومواثيقها القائمة في أغلبها على أساس ديني. - على خلاف الأحزاب الدينية في الغرب - فسعت إلى تطبيق المنهج الديني ليتواءم والديمقراطية مستغلةً، بذلك الأدوات والوسائل التي وفرتها الديمقراطية مثل: قوانين الانتخاب والأحزاب السياسية وغيرها من القوانين، وبذلك نجد أن الأحزاب الدينية الإسلامية المنتشرة في العالم العربي والإسلامي - بفضل تنظيمها وشعبيتها- تمكنت منذ منتصف القرن الماضين، من استغلال ضعف شرعية الانظمة السياسية الحاكمة مثل لأحزاب العقائدية (القومية) وسخط الشعوب عليها بعد توليها للسلطة لفترات طويلة وممارستها لشتى أنواع الظلم ،وفشلها في ايجاد الحلول الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لمجتمعاتها مكن ذلك في الآونة الأخيرة بعض الأحزاب الدينية من الوصول إلى الحكم في بعض الأقطار، وتشكيل الحكومات كالمغرب (حزب العدالة والتنمية) أو في مصر حزب (الحرية والعدالة) الذراع السياسي للإخوان المسلمين، وحركة النهضة في تونس تركيا (حزب العدالة والتنمية) أو لعب دوراً محورياً في الدول التي لم تصل فيها للحكم بحيث أصبحت ركيزة أساسية في النظام السياسي للدولة إلا أنه وإذا ما استثنينا حزب العدالة والتنمية في تركيا لم تستطع تلك الأحزاب ان تنجح في فرض واحترام وجودها في بلدانها لاسباب خارجية وداخلية عديده من أهما طغيان وانتشار الجماعات الدينية المتطرفة مثل داعش وغيرها وشكوك مجتمعاتها بقبول الأحزاب الدينية لمفهوم أن الدولة تقوم على المواطنة وليس الدين.
* أزمة الأحزاب السياسية الإسلامية
العربية وحركات التطرف (الديني)
بعد انهيار بعض الأنظمة السياسية في الوطن العربي في ظل مايسمى (الربيع العربي) لم تستوعب بعض الأحزاب أو الجماعات السياسية الإسلامية في الوطن العربي سواءً تلك التي استطاعت الوصول إلى السلطة أو غيرها من الأحزاب الدينية أنه بعد مضي ما يقارب مئة عام على انهيار الخلافة الإسلامية العثمانية وانتشار الفكر الديمقراطي واعتياد أغلب فئات المجتمعات العربي على المنهج الفكري الوضعي سلوكياً وفكرياً، قد أصبح من الصعب عليها تقبل ما هو خلاف ذلك، فهي مازالت تعاني من هيمنة الفكر العدائي (نظرية المؤامرة) لكل ما هو ليس اسلامي، ولم تاخذ بعين الاعتبار أن رفضها للتنوع الفكري سوف يولد تصادم قوي مع مصالح القوى العلمانية الداخلية والخارجية، وكذلك حتى على المستوى الاجتماعي والفردي، لم يكن من السهل إحداث تغير جذري في سلوكيات الناس فكان من الأجدر بتلك الأحزاب الدينية في العالم العربي التعامل مع مبدأ التدرج الزمني في تطبيق الأحكام الشرعية.
* «إسرائيل» كنموذج لفصل الدين
عن الدولة في الديانة اليهودية
لابد من الاعتراف أنه من الصعوبة والتعقيد بمكان الاستشهاد بنماذج للحكم اليهودي بالتاريخ القديم، لذلك سوف نحاول دراسة النموذج (الإسرائيلي) في فلسطين المحتلة لبيان طبيعة موقف الديانة اليهودية من مفهوم فصل الدين عن الدولة. والحقيقة فإن دراسة النظام السياسي (للدولة العبرية) يعدّ النموذج الأكثر غرابة وحيرة في موضوع فصل الدين عن الدولة. فمنذ نشأة «الكيان الإسرائيلي» على أرض فلسطين، شدد اليهود فيما يعرف بوثيقة الاستقلال عام 1948م على الطابع اليهودي والديمقراطي للدولة اليهودية، باعتبارها دولة يهوديه قامت بالأساس الانتماء الديني لليهودية، وهنا يظهر الطابع الأثني للدولة، ولكنها تعرف نفسها أيضا بانها دوله دمقراطيه حديثة قائمة على أسس ومبادئ الديمقراطية الغربية.
لقد سعت (إسرائيل) ومنذ نشأتها في فلسطين عام 1947م، على المواءمة بين البعد الديني العقائدي والفكر العلماني في نظامها السياسي، حتى تصبح مقبولة لدى الغرب وشعوبها وانظمتها الرافضة لمبدأ الدولة الدينية, فعملت على ترويج عقدت الذنب العالمي والغربي اتجاه ماتعرض له اليهود في أوروبا وألمانيا على وجه الخصوص وحقهم في وجود دولة يهودية معترف بها من قبل العالم يجتمع فيها جميع الشتات اليهودية في العالم، سواء كان متديناً أو متصهيناً أو علمانياً ما دام يدين باليهودية، ولن ندخل هنا في التفاصيل التي أدت إلى نشوء هذه الدولة بقدر ما يهمنا البحث في أسباب نجاح هذه الدولة المصطنعة بالعيش رغم المحيط المعادي له من الدول العربية، وكيف استطاعت رغم أنها دولة دينية اقناع العالم بانها واحة ديمقراطية في محيط من الدول المستبدة التي تكيل لها العداء.
لقد سعت (اسرائيل) ومنذ نشأتها إلى التاكيد على أن الإنتماء العقائدي ليهود العالم سواء في (اسرائيل) وخارجها دون إقصاء أو تهميش أو تخوين أسهم بشكل كبير في دمج التيارات الدينية والعلمانية في النظام السياسي للدولة دون أن يكون هناك أي تخوف من هيمنة لأحد على الآخر، بل أن هناك توافقاً فعلياً على أرض الواقع مابين تلك الأحزاب وغيرها من التيارات السياسية على طبيعة العلاقة بين الدولة والدين القائمة على اعتبار أنه كيان علماني بمضامين دينية.
إن ازدواجية الشعور بالخوف المستمر والتهديد الخارجي لدى اليهود ورفض المحيط العربي لهذا الكيان من جهة والرغبة في التوسع في الارض من جهة اخرى دفع المجتمع الاسرائيلي في كثير من الاحيان إلى تبني الفكر اليميني للأحزاب الدينية المتشددة، ليس كوسيلة ومنهج اجتماعي، بل كضامن للبقاء والاستمرار أمام المخاطر الخارجية والداخلية الكبيرة التي تواجهها الدولة، لذلك فإنه وفي ظل هيمنة الأحزاب الدينية على مفاصل الدولة وتوليها لاغلب فترات الحكم فإن مبدأ فصل الدين عن الدولة وإن قبل كأساس للنظام السياسي للدولة، لايشكل أي عائقِ امام الأحزاب الدينية للمشاركة في الحياة السياسية, وأن هناك توافقاً ضمنياً وجوهرياً بين جميع التيارات الفكرية في الدولة على تحقق مضامين الدولة اليهودية، كما أن النظام السياسي في إسرائيل استطاع توظيف جميع وسائل وادوات الديمقراطية القائمة على العدالة والمساواة في توفير الرفاهية الاقتصادية لمجتمعها جعلها في نظر الغرب وكثير من دول العالم جميع دولة ديمقراطية تستحق الدعم والبقاء.
لذلك يمكننا القول أن (إسرائيل) استطاعت المواءمة بين مفهوم الفصل والدمج بين الدولة العصرية والدولة الدينية، وأن أي دعوات لفصل الدين عن الدولة سوف تؤدي إلى انهيار السمات اليهودية للدولة، كما يعني ذلك تصفية المشروع الصهيوني.
إن نموذج الفصل بين الدين والدولة الذي رأى النور مع تفجر الثورة الفرنسية، لم يتم تطبيقه حتى في أكثر الدول الأوروبية تقدماً، وحتى تلك الدول التي تشدد بشكل خاص على الفصل بين الدين والدولة مثل الولايات المتحدة وهولندا وفرنسا لا يوجد في الواقع فصل فعلي بين الهوية الدينية والدولة. فعلى سبيل المثال: في الولايات المتحدة وعلى الرغم من وجود مواد قانونية في الدستور تنص على الفصل بين الدين والدولة، إلا أنه وعند بدء جلسات الكونغرس فإن أعضاءه يقومون بالصلاة، بمعنى أن الحياة العامة في أميركا تتأثر إلى حد كبير بالدين.
وفي بريطانيا تم الإعتراف بالكنيسة الرسمية للدولة، ومراسيم الكنيسة تتطلب مصادقة البرلمان، وفي السويد تعبر الكنيسة المحلية عن دين الدولة، على الرغم من الفصل الجزئي بين الكنيسة اللوثرية والدولة قبل عشرات السنوات، وفي إسبانيا تراعي الدولة تفضيل الدين المسيحي على بقية الأديان. وحتى حظر مأسسة الدين التي ينص عليها الدستور الأميركي، لم يمنع الكثير من المؤسسات الدينية من لعب دور فعال في الحياة السياسية، وكذلك فعلت (إسرائيل) كما فعلت غيرها من الدول الديموقراطية فسمحت بوجود مؤسسات وأحزاب قائمة في إسرائيل على أساس ديني، ولا يعد هذا مساساً بحقوق العلمانيين في الدولة.
وعليه يمكننا القول ان جميع التيارات الدينية في الغرب الحزبية وغير الحزبية منها تمارس حقها بالمشاركة السياسية استناداً للحقوق الحريات التي كفلتها دساتير تلك الدول بينما في العالم الاسلامي ما زالت العلاقة بين تلك الأحزاب والحركات الدينية والأنظمة السياسية علاقة قائمة على والشك والريبة والرفض، وإن كانت أغلب الدساتير تنص على حرية المشاركة السياسية.
الديمقراطية .. ما بين فصل الدين عن الدولة و فصل السياسة عن الدين
أخبار البلد -
الديمقراطية منهج فكري سلوكي اجتماعي سياسي اقتصادي، يعني في معناه المبسط (حكم الشعب) مصدره تشريعات وضعية وضعها الإنسان، أما الدين فهو منهج فكري سلوكي اجتماعي سياسي اقتصادي إلهي، وهو يعني في معناه البسيط (حكم الله)، فمصدر التشريع في الأول هو الإنسان أما مصدر التشريع في الثاني فهو الله سبحانه وتعإلى إضافة إلى السنة النبوية في الإسلام. ولكن يبقى السؤال هل هناك تعارض ما بين الفكر الوضعي والفكر الديني؟ ونحن هنا لانريد أن نذهب بعيداً في موضوع المقارنة، فالديمقراطية ترتكز على الإنسان والفرد وحريته، بصرف النظر عن حدود القيم والمجتمع والسلطة إلا في حدودها الدنيا.