التصدي لـ «داعش» واستيعاب اللاجئين السوريين وإدارة العلاقة مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وتطهير أجهزة الدولة من «الانقلابيين»، بعض من ملفات عدة يرغب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في معالجتها في شكل متزامن، علماً أن كل ملف كفيل بتفخيخ الأمن والاستقرار بمفرده، فما بالك إذا اجتمعت كلها على مكتب صاحب قرار فرد، ما يتطلب امتلاكه قدرة خارقة للصبر على الحمل الثقيل، ناهيك عن إيجاد حلول.
عندما وقعت المحاولة الانقلابية في 15 تموز (يوليو) الماضي، قيل إن أردوغان استغلها فرصة سانحة لتطهير أجهزة الدولة من خصومه أتباع الداعية الإسلامي فتح الله غولن اللاجئ الى الولايات المتحدة، لكن طول أمد حملة التطهير واتساع نطاقها، استدعى كلاماً آخر، أكثر خطورة، عن وقوع النظام التركي في «فخ» نصبه بنفسه، وهو «تحركه اعتباراً من العام 2011 في اتجاه أسلمة سياستيه الداخلية والخارجية، وتحويله تركيا مركز عمل للمجموعات الإسلامية في المنطقة»، كما ورد في تقرير سري أعدته الداخلية الألمانية عن الوضع التركي، أشارت فيه إلى أن فتح أنقرة ذراعيها للمجموعات الإسلامية شمل أيضاً «التعاون مع تنظيمات إرهابية».
بطبيعة الحال، قوبل هذا الكلام الألماني باستياء مضاعف من جانب النظام التركي الذي كان اعترض أساساً على اتهامه باستغلال المحاولة الانقلابية. ووصفت الخارجية التركية تقرير الداخلية الألمانية بأنه عبارة عن مجموعة «مزاعم» تشكل دلالة جديدة على «عقلية مشوّهة تحاول الإضرار ببلادنا، من خلال استهداف رئيسنا وحكومتنا»، «مزاعم تقف وراءها دوائر سياسية في ألمانيا معروفة بمعاييرها المزدوجة في الحرب على الإرهاب»!
واستدعى ذلك رداً من وزير الداخلية الألماني توماس دو ميزيير الذي قال لصحيفة «بيلد أم زونتاغ» إن «ما نُشر ليس سوى مقتطفات وجيزة من التقرير حول الوضع المعقد جداً» في تركيا التي اعترف بأنها «شريك مهم» في مواجهة أزمة المهاجرين ومكافحة الإرهاب. وجدد تأكيد أن تدابير كثيرة اتخذتها بعد المحاولة الانقلابية، «لم تكن متناسبة».
وسواء أكان النظام التركي في وضع يتيح له استغلال التطورات لتعزيز قبضته على الحكم وتطهير خصومه الذين يصفهم بـ «انقلابيين»، أو أنه يدفع ثمناً للحرب على «داعش» الذي خرج من القمقم، فإن في الحالين ثمة مخاوف جدية من انزلاق تركيا في دوامة عنف بعد «مجزرة العرس الكردي» التي حصدت عشرات القتلى معظمهم من الأطفال بتفجير شنه انتحاري هو طفل أيضاً لا يتجاوز عمره 12 او 13 سنة كما تفيد التقديرات.
اعتداء ينبئ بأن البلاد دخلت مرحلة «دفع ثمن» الحرب على «داعش»، فيما يتوقع كثيرون أن تتكبد في المقابل خسارة كبيرة من جراء إجراءاتها المستمرة لتصفية الخصوم السياسيين، في حملة لم تعد تروق لدول الغرب وخصوصاً الجيران الأوروبيين. وليس السجال التركي - الألماني بهذا المعنى سوى تعبير عن انزعاج برلين من مبالغة أنقرة في تصوّر وجود مؤامرة ضدها، وطلباتها المتكررة بالتحقيق مع أتراك مقيمين في الخارج، وتسليمها مَن تعتبرهم مرتبطين بغولن.
ويبدو الانتقاد الغربي لتركيا مفهوماً اذ وصل بها الأمر الى استدعاء مئات الديبلوماسيين العاملين في بعثاتها في الخارج للتحقيق معهم في علاقة محتملة بالمحاولة الإنقلابية. ومن البديهي في ظل «فوبيا» تتملك النظام التركي، أن تتضاعف الشكوك في قدرته على احتواء المشاكل المتكاثرة، وأن تتزايد التساؤلات عن الثمن الذي يتعين دفعه لخوض حروب على جبهات عدة، داخلياً وخارجياً، وما إذا كان الثمن في النهاية هو رأس النظام بحد ذاته.