ولكي نتجاوز هذا الواقع، ولكي لا نتحاور بالعموميات يصبح من المهم الاجابة على الأسئلة التالية: ما هي الأولويات الاقتصادية المقبلة؟ وما هو الدور المناط بالمجلس وكيف يمكن تفعيله؟ وبنفس الأهمية وإن لم يكن أهم، ما هي المعايير المناسبة لانتقاء المرشح القادر على التعامل مع الملف الاقتصادي؟
سأحاول الاجابة على هذه الاسئلة مساهمة في بلورة حوار حول برامج اقتصادية يلتزم بها المرشحون أمام ناخبيهم. وحيث اننا لسنا سذّجا حول الوعود الانتخابية والتي غالبا ما تتلاشى بحصول المرشح على مقعد، وندرك تماما ان كلام الليل غالبا ما يمحوه النهار، الا اننا ندرك أيضا أن الانتخابات السابقة أفرزت بعض المرشحين على درجة عالية من العلم والأمانة، وندرك أيضا ان دور الناخب لا يمكن ان يكتمل فقط عبر صندوق الاقتراع في يوم الاقتراع، ولكن عبر مراقبة أداء النواب ومساءلتهم ومحاسبتهم على أدائهم خلال سنوات عضويتهم ومحاسبتهم سلبا أو إيجابا في الدورات اللاحقة عبر صناديق الاقتراع، عندها فقط نبدأ في بناء الديمقراطية الفاعلة.
أما في الأولويات الاقتصادية، فغني عن القول أن النمو الاقتصادي المستدام الذي يوزع مكتسبات التنمية بعدالة ويشغل الأردنيين هو ضالتنا المنشودة. ولكن قد يتساءل البعض هل هذا ممكن؟ فاستيعاب الشباب الاردنيين العاطلين عن العمل يتطلب نموا اقتصاديا يتجاوز 7 % سنويا بدلا من 2.4 % التي ينمو بها الاقتصاد حاليا، فكيف للنمو الاقتصادي أن يقفز هكذا قفزة وخصوصا في ضوء الاوضاع الحالية المحلية والمحيطة؟ قد يبادر الكثيرون الى القول ان ذلك مستحيل وبالتالي الاستسلام للواقع وإعفاء أنفسهم من عناء المحاولة، ولكنه في الواقع ليس مستحيلا بل يتطلب أن تتظافر كل الجهود من أجل الالتزام بسياسة اقتصادية جريئة وشفافة وواضحة، سياسة تغلَب فيها المصلحة العامة على أي مصلحة خاصة، مصحوبة بآليات مناسبة للتنفيذ وأدوات للمساءلة والمحاسبة تتعاون عليها السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والقطاع الخاص والمجتمع المدني.
ليس مطلوبا أن نبدأ من الصفر وخصوصا ان لدينا رؤية الأردن 2025 ببرنامجها التنفيذي كبداية. وتتلخص أهم الاولويات الاقتصادية بما يلي:
سياسة مالية ونقدية حصيفة تضمن تخفيض المديونية والعجز عن طريق ضبط النفقات وكفاءة استخدام الإيرادات والالتزام بسياسة ضريبية تصاعدية عادلة كفؤة ومستقرة، وسياسة نقدية تعطي البنك المركزي استقلاليته في المحافظة على استقرار الدينار وإيجاد الحوافز لتمويل المشاريع الوطنية الكبرى والمشاريع الصغيرة والناشئة من قبل رأس المال الوطني والخارجي.
وكذلك سياسة استثمارية تذلل العقبات أمام المستثمر المحلي والخارجي وتحفز الاستثمار في القطاعات ذات القيمة المضافة العالية والمصدرة للسلع والخدمات والمشغلة للعمالة الأردنية في مناطق المملكة المختلفة، وتخفض كلف الانتاج من خلال الاستثمار في البنية التحتية ومشاريع الطاقة والمياه.
ثالثها سياسة توزّع مكتسبات التنمية بشكل عادل مرتكزة على التعليم، التشغيل، الصحة، والنقل العام والحماية الاجتماعية. فرأب الفجوة في نوعية التعليم أصبح يشكل التحدي الأكبر لتكافؤالفرص، وبرامج التدريب والتشغيل والريادة الموجه نحو الشباب وبالشراكة مع القطاع الخاص والجهات المانحة والمجتمع المدني هي أهم وسائل النمو والقضاء على الفقر، والتأمين الصحي الشامل يمثل العدالة الانسانية والحماية الحقيقية من الكلف الباهظة التي تتجاوز امكانيات الاسرة في حال مرض أحد أفرادها، والنقل العام الآمن والكفؤ يفتح آفاق العمل والتجارة لسكان المناطق الريفية والنائية، وأخيرا فأنظمة الحماية الاجتماعية مثل الضمان الاجتماعي وصناديق المعونة الاجتماعية تحمي المواطن في مراحل العوز والعجز والشيخوخة. من شأن تطبيق هذه الحزمة من السياسات التحول بهيكل الاقتصاد الاردني الى اقتصاد عادل ومنتج ومنافس ومنيع في وجه التقلبات الاقليمية.
أما عن دور مجلس النواب في كل ما سبق فيمكننا فهمه إذا ما استعرضنا الدور المناط بمجلس النواب في الملف الاقتصادي، حيث يمكننا أن ان نميز بين ثلاثة أدوار محورية للمجلس:
أولا، مناقشة وتفنيد الموازنة السنوية التي تقدمها الحكومة وإقرارها.
ثانيا، اقتراح وإقرار التشريعات بما فيها القوانين الاقتصادية واتفاقيات الامتياز.
ثالثا، مراقبة أداء الحكومة والوحدات الحكومية بما فيها الجوانب المالية وأثرها الاقتصادي.
فيما يعنى المحور الأول (الموازنة)، فقد اقتصر تاريخيا دور المجلس على مناقشة صورية، تعلو فيها الأصوات والخطابات الرنانة ولكن تخلو من أي أثر أو مضمون أو محصلة. وهذا يعزى جزئيا إلى عدم وجود مراجعة منهجية للموازنة بشكلها الكلي والجزئي وارتباطها أو عدمه بالخطط الاستراتيجية والبرامج المنبثقة عنها وإصدار ملاحق موازنة.
وفي المحور الثاني (التشريع)، لم يمارس المجلس حقه الذي نظمه الدستور بشكل صريح في المادة (95) بأن يبادر باقتراح قوانين، واكتفى دائما بدراسة مشاريع القوانين المقدمة من الحكومة، كما أن مساهمات لجانه الايجابية في نقاش مشاريع القوانين فقدت الكثير من أثرها تحت فوضى القبة وكثيرا ما "سُلقت" التشريعات بدون دراسة، ناهيك عن تغييب المجلس عن الكثير من القوانين المؤقتة والذي نأمل أنه أصبح جزءا من الماضي بعد تعديل الدستور بهدف الحد منها.
وفي المحور الثالث، محور الرقابة على الأداء، فلم تتمكن مجالس النواب المتعاقبة في القيام بدورها الرقابي لضعف ادوات الرقابة (مثل مؤشرات أداء محددة لكل وزارة ومؤسسة عامة مرتبطة بالاهداف الاستراتيجية الوطنية العليا) وضعف اليات المساءلة والمحاسبة، وهذا قد يكون الجزء الأخطر، حيث ان غياب الدور الرقابي على اداء الحكومات خلق فجوة حقيقية في مساءلة الحكومات المتعاقبة. وتبرز هنا فرصة مراقبة أداء الحكومة في تنفيذ خططها من خلال الموازنة الموجهة بالنتائج وبمؤشرات واضحة ومسبقة للأداء.
لهذه المحاور الثلاث (إقرار الموازنة، التشريعات الاقتصادية، والرقابة على اداء الحكومة والمؤسسات العامة) أدواتها والياتها التي تشخص المشكلة والحل، تضمن وصول المعلومة الصحيحة من خلال مؤشرات قياس معتمدة، توفر التقارير حول نسبة الانجاز وسير الأعمال وتقييم النتائج، وتسائل الجهات المختلفة عن أداءها بهدف تصحيح المسار. بدون هذه القدرة على المساءلة والمحاسبة ستبقى الرؤى والاستراتيجيات حبرا على ورق.
فهل سيرتقى مجلسنا الى مستوى التحدي؟ وهل سيلتزم بمدونة للسلوك تقي أعضاءه من تضارب المصالح والواسطة والمحسوبية؟ وهل سيفصح كل منهم عن سجله في التصويت عن طريق السجل الالكتروني الذي تم تركيبه ولم يفعّل حتى الآن؟
الإجابة ليست فقط في حوزة المرشحين ولكن في حوزة الناخب الواعي لأهمية صوته في انتخاب مرشح مؤهل لاستغلال الفرص والتصدي لتحديات أعلاه، ناخب يعي بأن دوره لا يتوقف بإدلاء صوته في صندوق الاقتراع، فدوره مستمر من خلال مسؤوليته في متابعة ومحاسبة ومساءلة نائبة ايضا.