لا أعرف ولا أعلم عن التسامح، أو على الأصح عن السماحة، وفي أسمى صورها، عند زعيم أو قائد، مثل تلك التي تحلى بها الحسين بن طلال، طيب الله ثراه. خطر ببالي هذا الأمر عندما فتح الصديقان عصام ومنذر قصة المرحوم عبدالله الريماوي مع الحسين، وتعيينه عضواً في المجلس الاستشاري بعد كل المعارضة المريرة التي قادها ضد الملك الحسين.
لقد دفعتني هذه المذاكرة إلى استعراض أو استرجاع سلوك الزعماء والأمراء والرؤساء والقادة والملوك العرب الذين عاصروا الحسين، فلم أجد عند أحدهم سماحة كالتي تميز بها الحسين ضد معارضيه والمتآمرين عليه؛ بمحاولات انقلاب أو اغتيال. لا أتحدث هنا عن سياسة الأردن الداخلية أو الخارجية الكلية أو الفرعية آنذاك، وإنما أقصر حديثي على سماحة الملك الراحل الحسين.
كان كثير من أولئك القادة يبطشون بالمعارضة، ويعلقون لأصحابها المشانق، أو يطلقون عليهم النار إذا قبضوا عليهم، بعكس الحسين الذي كان يطيح بهم بالسماحة، فيستعيدهم إليه، ويسلمهم مراكز حساسة، يستطيعون من خلالها التآمر عليه، لكنهم بـ"السماحة الحسينية" كانوا يصيرون من أشد الناس إخلاصاً له وولاء وانتماء لنظامه.
لم تحدث هذه السماحة مرة واحدة أو مع شخص واحد، لنقول إنها كانت صدفة أو عابرة، أو استثناء. كانت سماحة الراحل الحسين منهجاً أو موقفاً ثابتاً، وتعبيراً عن سمة ذاتية عميقة مع الجميع، وفي جميع الأوقات.
لقد كان لهذه السماحة تأثير المادة الفعالة (Active Ingredient) في الدواء الشافي، فقد شفت النفوس المعتلة في الأردن من سفك الدماء، وميزته عن غيره بالسلام الاجتماعي والسلامة وحسن البقاء.
وأميز هنا بين التسامح الذي يبدو في نهاية التحليل فضيلة خادعة، لأن صاحبه يحتفظ بالعصا وراء ظهره يهدد بها المتسامح معه في أي لحظة لا يعجبه بها سلوكه، تحت شعار: إن عدتم عدنا. أما السماحة، فهي غير ذلك؛ لأن السموح لا يحمل أي عصا، ولا يبدو عليه الاستنفار.
لقد عز نظير سماحة الحسين في عصره، وحتى في العصور الماضية. فبعد سماحة النبي مع قريش التي اضطهدته وهجرته، عندما سألهم بعد فتح مكة: ماذا تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم. فقال: اذهبوا فأنتم طلقاء؛ ثم سماحة ابن زائدة المعروفة، لا تعثر على مثل هذه السماحة في التاريخ العربي والإسلامي. فقد أمر الخليفة عبدالملك بن مروان الأموي بصلب المعارض عبدالله بن الزبير على باب الكعبة بعد ضربها بالمنجنيق، كما قام الخليفة العباسي الأول أبو عبدالله (السفاح) بتصفية بني أمية وأنصارهم جسدياً عن بكرة أبيهم؛ أي رضعاً وأطفالاً وشباباً ونساءً ورجالاً وكهولاً. كما اغتال الخليفة العباسي الثاني أبو جعفر المنصور قائد الحركة العباسية أبو مسلم الخراساني، التي أطاحت بالدولة الأموية، من دون محاكم.
أما السلاطين العثمانيون، فحدث عنهم ولا حرج. فقد كان كل واحد منهم عندما يعتلي العرش يقتل أولاده الزائدين عن الطفل أو الابن المحبوب، ويقتل أيضاً الأعمام والأخوال وأولادهم المنافسين له على السلطة. وقد كفت المسلسلات التركية عن هذا التاريخ ووفت، فلا حاجة للتفصيل فيه.
السماحة طاقة هائلة من التحمل، لا يقدر على حمل عبئها سوى الناس الاستثنائيون نحو أولئك الناس المختلَف معهم في الرأي، أو المتآمرين الفاشلين الذين يخططون في الظلام للشر ضدهم. والسماحة موقف أو اتجاه يلتزم به السموح نحو الممارسات الاستفزازية المستدرجة للعنف ضده، لكن السموح يبتسم ويستوعب فيهزم أصحابها ويذيبهم من الخجل والحياء. والسماحة قدرة غير محدودة على كظم الغيظ والصبر. والسماحة ثقة عالية بالنفس. لعل العفو عند المقدرة هي أحد أعظم تجليات السماحة. إنها التحلي بمواقف إنسانية سامية وكان الحسين فريداً فيها.
لم يعد التسامح ولا السماحة موجودين في غالبية الأنظمة والمجتمعات المسلمة، العربية وغير العربية. وإلا ما وقعت الحروب الأهلية والطائفية الإبادية في سورية والعراق وليبيا واليمن. لقد صار المسلم، العربي وغير العربي، شخصاً نزقاً لدرجة استعجاله أو استعداده إطلاق مدفع على ذبابة تسقط على أنفه.
السماحة في أسمى صورها
أخبار البلد -