تعرض مجتمعنا لانفجارات صامتة شملت معظم قطاعاته، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتعليمية ..الخ، هذه الانفجارات التي اصطلحنا على تسميتها بـ”الازمات” مرت دون ان ننتبه اليها كما يجب، ناهيك عن ان نواجهها بالشكل المطلوب، المشكلة ان عيوننا ظلت مفتوحة على الخارج، بما يحفل به من ازمات وصراعات ومخاطر فيما بقيت اوضاع الداخل واخطاره مهملة وغائبة او مغيبة عن اهتماماتنا ومعالجاتنا ايضا.
قبل ان تداهمنا نتائج الانتخابات البرلمانية ،( هل اقول قبل ان تصدمنا ؟) ، ولكي نفهم ما يحدث في بلدنا وما طرأ على "الشخصية” الاردنية من تحولات عميقة ومتسارعة، يفترض ان ننتبه الى مسألتين: احداهما ان الناس( خاصة فئات الشباب) الذين كانوا مشغولين فيما مضى بقضاياهم الخاصة خرجوا الى "المجال العام” وانهم بفضل انزياح "التغطية” عن أفهامهم اكتشفوا من جديد ذاتهم، وما حولهم، وأصبحوا بالتالي وجهاً لوجه أمام كمّ هائل من المعلومات والانطباعات - وأحيانا الاشاعات - ورغم حالة "الحيرة” والشك التي تنتاب بعضهم نظراً لرغبتهم في عدم تصديق "الواقع” أو محاولة هروبهم من استحقاقاته، أو أملهم في "اصلاحه” بأقل ما يمكن من ثمن، الا ان ثمة "وعياً” جديداً تشكل داخلهم، وأفكاراً كثيرة سقطت من اعتباراتهم لتحل مكانها أفكار جديدة.. صحيح - هنا - ان الوعي لم ينضج بما يكفي، لكنه كفيل بدفعهم من مقاعد المتفرجين الى ميادين "التغيير”.
لم أكن لأصدق ذلك بسهولة - وان كان صحيحاً نظرياً - الا بعد أن استمعت لعشرات الحوارات مع شباب ومع كبار في السن، متعلمين وغير متعلمين، بعضهم يعيش تحت وطأة الفقر وآخرون يخشونه، بعضهم يفهم في السياسة وآخرون دخلوا قسراً على خطوطها...، وقد خرجت بقناعة واحدة وهي أن ثمة "وعياً” جديداً وعميقاً وغير مسبوق يتغلغل داخل مجتمعنا، لدرجة شعرت فيها أن الناس قد تغيروا فعلاً، وان من واجبنا كنخب مسؤولة، أن نتغير أيضاً باتجاه فهم هذا الواقع الجديد والتعامل معه "بروح” جديدة.. لكن من المؤسف أننا لم نفعل ذلك حتى الآن، ولم نزل أمام حالة "انكار” لكل ما حصل.
أما المسألة الأخرى، فتتعلق بتصاعد لهجة "الغضب” الصامت احتجاجاً على واقع غير مألوف تزاوج فيه الفقروالعوزمع القهر والفساد، وكان يمكن لمجتمعنا - كما فعل سابقاً - أن يتكيف مع أوضاعه الاقتصادية الصعبة، وأن يبحث عن "خيارات” تؤمن له الحدّ الأدنى من الستر والرضى والقناعة، باعتبار "الفقر” جزءاً من تاريخه وطبيعة نشأته، لكن ما حصل هو أن "الفساد” مدّ لسانه للجميع، فاستفزهم، وجعلهم يشعرون في - لحظة ما - أن وراء ما يعانونه "وحش” انطلق من عقاله، ولم نجد أحداً "يلجمه” أو يحاسبه أو يردعه، مما ولّد لديهم حالة من "القهر” زادت وتصاعدت بسبب منطق التعامل مع الموضوع، سواء من جهة "الاستهانة” بالفقر وتداعياته، أو من جهة "السكوت” على الفساد وعوراته.
قبل ان تدق ابوابنا الثورات المضادة وقبل ان تخرج من حولنا "عفاريت” التطرف ،كانت حركة الشارع كفيلة باقناع المسؤولين ان يأخذوا الحيطة والحذر، وقتها لم يكن احد يجرؤ على ان يمد لسانه للناس، او ان يتورط في اتخاذ قرار يتصادم مع مطالبهم او حتى مشاعرهم، لكن الآن تغيرت الصورة للاسف، وبدل ان نستثمر في حكمة "المواطن " الذي وضع يده على جرحه وانحاز لامن بلده واستقراره، وزهد بالمطالبه في الاصلاح حين رأى البراكين حوله تنفجر، تجاهلنا ما فعله، وبدل ان نكافأه على ما قدمه، بدأنا نمارس لعبة تصفية الحسابات معه، وكأننا ننتقم من انفسنا، فأي منطق هذا الذي ندفع به الناس الى الجدار ( لكي لا اقول الى الشارع)، وكأننا استثناء في محيط ملتهب انفجر فيه التاريخ بكل مكوناته الدينية والجغرافية والسياسية، و "كفر” فيه الناس بكل شيء، حتى بحياتهم التي هي اغلى ما يملكون.
اذا كان لدى المسؤولين في بلادنا أية فسحة من وقت، ارجوهم ان يخرجوا الى الناس ، وان يسألوهم كيف يُدّبرون أحوالهم المعيشية، ومما يخافونه على مستقبلهم، أو ان يفتحوا "الانترنت” ليكتشفوا بأنفسهم ما يتردد على ألسنة الكثيرين من أسئلة وانتقادات - بعضها مفزع للأسف - نرجوهم ان يفعلوا ذلك اذا أرادوا ان يفهموا حقاً ما يحدث في مجتمعنا.
اعرف ان موسم الانتخابات البرلمانية اقترب ، ولم يعد امامنا فرصة كبيرة لتحسين الصورة ، واقناع الناس باخنيار الافضل ، ناهيك اصلا عن الذهاب الى الصناديق للاقتراع ، واعرف ايضا ان الانتخابات ستكشف عورات مجتمعنا ، وستفرز ما لدينا من ازمات ، وستضعنا امام مرآة مجتمعنا لنرى صورتنا بوضوح ، لكن لا بد ان نتحرك على الفور لنطوي صفحة الماضي ونطمئن الناس على ان المستقبل سيكون افضل ، وعلى ان خيارهم في الصناديق هو الذي سيقرر مصير الاصلاح ، ومصيرهم ايضا .
قبل ان تداهمنا نتائج الانتخابات..!
أخبار البلد -