كم منّا الذين يجرؤون على قول كلمة الحق حتى الصغيرة عداك عن الكبيرة، وما العوائق التي تمنعهم من قول الحق؟ وما مشروعيتها ؟ وما مستندها الوطني والقيمي ؟ لماذا نخشى من قول النافع؟
ولمّا أبرز الله أعظم جرائم بني إسرائيل وقرر لعنهم علق ذلك على امتناعهم عن قول الحق فقال: «لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ على لسان دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلك بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ، كانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ». المائدة (79)
توقفت عند حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: لا يَحْقرن أحدكم نفسه، قالوا يا رسول الله:- كيف يحقر أحدنا نفسه ؟ قال: يرى أمراً لله عليه مقال، ثم لا يقول فيه، فيقول الله عز وجل يوم القيامة: ما منعك أن تقول فيَّ كذا وكذا ؟ فيقول خشية الناس، فيقول: فإياي كنت أحق أن تخشى.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (الا لا يمنعن أحدكم رهبة الناس أن يقول بحق إذا رآه أو شهده، فإنه لا يقّرب من أجل، ولا يباعد من رزق أن يقول بحق أو يذكّر بعظيم).
إذن فخشية الناس ورهبتهم ومجاملتهم، ليس عذراً مانعاً عن قول ما يجب قوله أو فعل ما يجب فعله.
ولا أقصد هنا أعظم الجهاد الذي قد يستوجب القتل والإعدام أو التشريد والتنكيل، إنما ما دون ذلك من خسائر كفوات منافع من حطام الدنيا مادية كانت أو معنوية، أو حصول خسائر مادية ومعنوية مقدور عليها (فسالت أودية بقدرها)، وهي قضية نسبية فما احتمله أحمد بن حنبل رحمه الله لم يحتمله غيره من العلماء في محنة خلق القرآن.
نصح بعض الصحابة الكرام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يحدث الناس برحلته ليلة الإسراء خشية التكذيب.. لكن هذه الخشية لم تمنعه من أن يسرد ما جرى معه وإن كان صادماً للعقل والإدراك البشري حينذاك، وقد ارتد البعض ممن أسلم، مع أنه لم يطلب منه كتم عقائد ولا عبادات واكتفى بما ورد في القرآن الكريم.
أعرف الكثيرين من الأخيار الصادقين المخلصين اليوم لا يمنعهم من القول الواجب الذي يقتنعون به أو حتى الفعل الضروري اللازم في بعض القضايا الهامة والضَّرورية والتي ربما تكون منقذاً أو مخرجاً إلاَّ مخافة أن يقال عنهم كذا وكذا، ومخافة أن يتعرض الشخص أو الأشخاص للاتهام أو الذم والألسنة المتسرعة، وهو ما لم يمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل، حيث قالوا عنه ساحر ومجنون وشاعر وقاطع رحم ومفرق العرب.
ولربما يذهب البعض من هؤلاء الكرام للاستشهاد ببعض الأحاديث الشريفة ولكن في ظني أنها غير موضعها، مما يضرب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض بعضه دون قصد.
كقوله عليه الصلاة والسلام: (رحم الله امرءاً جب الغيبة عن نفسه).
أو قوله: (لولا حداثة عهد قومك بالكفر، لنقضت الكعبة، ولجعلتها على أساس إبراهيم).
لكنك لو تأملت هذه النصوص لوجدتها لا تتعلق بالصالح العام، أو بالمصلحة الكبرى التي لا يصح أن يقف أمامها أي اعتبار أو تخوف أو مجادلة، فماذا على الكعبة لو بقيت بحجمها ومساحتها الحالية وقد بقيت.
والفارق بيّنٌ وكبيرٌ بين الامتناع عن الفعل أو القول مخافة أن يقولوا، وبين مراعاة أحوال الناس والخشية عليهم لا الخشية منهم لئلا يكون فتنة عليهم كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: (ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لم تبلغه عقولهم إلا كان على بعضهم فتنة). رواه مسلم أو خوفاً عليهم من أن يقعوا في جريمة – القذف كما في حديث أم المؤمنين صفية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: على رسلكما إنها صفية بنت حيي، يعني زوجه. رواه البخاري
كما لم يمنعه من اعطاء بعض فقراء المهاجرين والمؤلفة قلوبهم من غنائم جنين، ولم يعط الأنصار - الخوف من اعتراضهم أو اتهامهم فقال لهم بعد أن وجدوا في أنفسهم عليه وقالوا يعطي قريشاً ويمنعنا، ولا زالت سيوفنا تقطر من دمائهم؟
ولم تمنعه الخشية من اتهامهم وقد (فعلوا) أن يقول لهم من لقي العباس بن عبد المطلب فلا يقتله، فقال بعضهم: نقتل أبناءنا ونتركه!!
وهكذا فالشواهد كثيرة..
إنه خط دقيق فاصل بين الحالين يدركه المبصرون ويخلط فيه المتسرعون.. بين ترك العمل مخافة أن يقولوا، وترك النافع إلى الأنفع مع تحققه والتأكد منه، وبين تجاوز أن يقولوا ما شاءوا، أو ما يترتب عليه ضرر للفاعل أو القائل مع تحقيق الأنفع من أجل الأمة أو المجموع العام.
ولا شك أن قول الناس واتهامهم فيه ضرر وأذى، ولكن يجب أن يحتمل الضرر الشخصي الأقل لتحقيق النفع العام الأعظم والأكبر، والقواعد الفقهية الثابتة متعددة في هذا الباب ومنها: (الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف).
إنَّ التحول من المعتاد المألوف الذي تربى عليه الكبار ونشأ عليه الصغار مستهجن فطرياً وهو الانطباع الغرائزي الأولي، لكنه ليس المعتبر والأحق بالاتباع بالضرورة، وقد تكون مفارقته هي الأولى، مع ضرر يجب أن يحتمله البعض، حتى لو تبرعوا بعرضهم وبفوات بعض مصالحهم واحتسابها لله تعالى ثم للنفع العام.
هذه محاولة للفهم قابلة للنقاش والتصويب، وهي قضية حية وقائمة وليست افتراضية.
اللهم اهدنا لما اختُلف فيه من الحق بإذنك.
توقفت عند حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: لا يَحْقرن أحدكم نفسه، قالوا يا رسول الله:- كيف يحقر أحدنا نفسه ؟ قال: يرى أمراً لله عليه مقال، ثم لا يقول فيه، فيقول الله عز وجل يوم القيامة: ما منعك أن تقول فيَّ كذا وكذا ؟ فيقول خشية الناس، فيقول: فإياي كنت أحق أن تخشى.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (الا لا يمنعن أحدكم رهبة الناس أن يقول بحق إذا رآه أو شهده، فإنه لا يقّرب من أجل، ولا يباعد من رزق أن يقول بحق أو يذكّر بعظيم).
إذن فخشية الناس ورهبتهم ومجاملتهم، ليس عذراً مانعاً عن قول ما يجب قوله أو فعل ما يجب فعله.
ولا أقصد هنا أعظم الجهاد الذي قد يستوجب القتل والإعدام أو التشريد والتنكيل، إنما ما دون ذلك من خسائر كفوات منافع من حطام الدنيا مادية كانت أو معنوية، أو حصول خسائر مادية ومعنوية مقدور عليها (فسالت أودية بقدرها)، وهي قضية نسبية فما احتمله أحمد بن حنبل رحمه الله لم يحتمله غيره من العلماء في محنة خلق القرآن.
نصح بعض الصحابة الكرام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يحدث الناس برحلته ليلة الإسراء خشية التكذيب.. لكن هذه الخشية لم تمنعه من أن يسرد ما جرى معه وإن كان صادماً للعقل والإدراك البشري حينذاك، وقد ارتد البعض ممن أسلم، مع أنه لم يطلب منه كتم عقائد ولا عبادات واكتفى بما ورد في القرآن الكريم.
أعرف الكثيرين من الأخيار الصادقين المخلصين اليوم لا يمنعهم من القول الواجب الذي يقتنعون به أو حتى الفعل الضروري اللازم في بعض القضايا الهامة والضَّرورية والتي ربما تكون منقذاً أو مخرجاً إلاَّ مخافة أن يقال عنهم كذا وكذا، ومخافة أن يتعرض الشخص أو الأشخاص للاتهام أو الذم والألسنة المتسرعة، وهو ما لم يمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل، حيث قالوا عنه ساحر ومجنون وشاعر وقاطع رحم ومفرق العرب.
ولربما يذهب البعض من هؤلاء الكرام للاستشهاد ببعض الأحاديث الشريفة ولكن في ظني أنها غير موضعها، مما يضرب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض بعضه دون قصد.
كقوله عليه الصلاة والسلام: (رحم الله امرءاً جب الغيبة عن نفسه).
أو قوله: (لولا حداثة عهد قومك بالكفر، لنقضت الكعبة، ولجعلتها على أساس إبراهيم).
لكنك لو تأملت هذه النصوص لوجدتها لا تتعلق بالصالح العام، أو بالمصلحة الكبرى التي لا يصح أن يقف أمامها أي اعتبار أو تخوف أو مجادلة، فماذا على الكعبة لو بقيت بحجمها ومساحتها الحالية وقد بقيت.
والفارق بيّنٌ وكبيرٌ بين الامتناع عن الفعل أو القول مخافة أن يقولوا، وبين مراعاة أحوال الناس والخشية عليهم لا الخشية منهم لئلا يكون فتنة عليهم كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: (ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لم تبلغه عقولهم إلا كان على بعضهم فتنة). رواه مسلم أو خوفاً عليهم من أن يقعوا في جريمة – القذف كما في حديث أم المؤمنين صفية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: على رسلكما إنها صفية بنت حيي، يعني زوجه. رواه البخاري
كما لم يمنعه من اعطاء بعض فقراء المهاجرين والمؤلفة قلوبهم من غنائم جنين، ولم يعط الأنصار - الخوف من اعتراضهم أو اتهامهم فقال لهم بعد أن وجدوا في أنفسهم عليه وقالوا يعطي قريشاً ويمنعنا، ولا زالت سيوفنا تقطر من دمائهم؟
ولم تمنعه الخشية من اتهامهم وقد (فعلوا) أن يقول لهم من لقي العباس بن عبد المطلب فلا يقتله، فقال بعضهم: نقتل أبناءنا ونتركه!!
وهكذا فالشواهد كثيرة..
إنه خط دقيق فاصل بين الحالين يدركه المبصرون ويخلط فيه المتسرعون.. بين ترك العمل مخافة أن يقولوا، وترك النافع إلى الأنفع مع تحققه والتأكد منه، وبين تجاوز أن يقولوا ما شاءوا، أو ما يترتب عليه ضرر للفاعل أو القائل مع تحقيق الأنفع من أجل الأمة أو المجموع العام.
ولا شك أن قول الناس واتهامهم فيه ضرر وأذى، ولكن يجب أن يحتمل الضرر الشخصي الأقل لتحقيق النفع العام الأعظم والأكبر، والقواعد الفقهية الثابتة متعددة في هذا الباب ومنها: (الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف).
إنَّ التحول من المعتاد المألوف الذي تربى عليه الكبار ونشأ عليه الصغار مستهجن فطرياً وهو الانطباع الغرائزي الأولي، لكنه ليس المعتبر والأحق بالاتباع بالضرورة، وقد تكون مفارقته هي الأولى، مع ضرر يجب أن يحتمله البعض، حتى لو تبرعوا بعرضهم وبفوات بعض مصالحهم واحتسابها لله تعالى ثم للنفع العام.
هذه محاولة للفهم قابلة للنقاش والتصويب، وهي قضية حية وقائمة وليست افتراضية.
اللهم اهدنا لما اختُلف فيه من الحق بإذنك.