لا شك في أن محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا طرحت تساؤلات عن اليوم التالي، وعن شكل المشهد السياسي في البلاد.
من هذه الأسئلة، هل سيواصل أردوغان نهجه السياسي والمؤسساتي كما كان الأمر قبل 15 تموز (يوليو) بعدما ارتفع رصيده الجماهيري؟ أم أن مرحلة جديدة من التعاطي ستبدأ مع المجتمعات السياسية والعسكرية والمدنية والإعلامية؟
ساعات المحاولة الانقلابية كانت مليئة بالدروس والعبر لتركيا حيث الديموقراطية ما تزال غضة وناشئة وتحتاج إلى ترسيخ نفسها أكثر، لأن الديموقراطية في مرحلة ما بعد الحداثة السياسية لم تعد مجرد صناديق اقتراع، فهذه الصناديق يمكن أن تنتج نظاماً غير علماني كما هو الحال في باكستان، أو نظاماً ذا صبغة شمولية في ممارسة الحكم كما هو الحال في مصر، أو نظاماً عنصريا كما هو الحال مع إسرائيل، أو نظاماً فيه احتكار لكامل السلطة كما هو الحال في تركيا.
والديموقراطية بحسب تعريف عالم الاجتماع الفرنسي آلان توين، هي حكم الأغلبية شرط أن تتحول أغلبية اليوم إلى أقلية غداً وتخضع لقانون لا يعبر عن مصالحها، لكنه لا يمنعها من الدفاع عن حقوقها الأساسية.
لم تكن المحاولة الانقلابية من أجل إعادة إنتاج هيمنة المؤسسة العسكرية على المؤسسة السياسية كما ذهب البعض إلى ذلك، أو محاولة لإعادة إعطاء دور للجيش في الشأن السياسي يوازي دور المؤسسات السياسية، فهذا أمر تجاوزته التجربة الديموقراطية التركية، لأن هذه التجربة وعلى الرغم من الثغرات التي تعتريها تجاوزت مسألة السيطرة العسكرية على المؤسسة السياسية.
لقد أصبحت هذه المسألة خارج المفكر فيه لدى المؤسسة العسكرية بعد التطور الحاصل في هذه المؤسسة من جهة، وعلاقة هذه المؤسسة مع مثيلاتها في الغرب لا سيما الاتحاد الأوروبي من جهة ثانية، وكان للانقلاب التركي ضد نجم الدين أركان في نهاية تسعينيات القرن الماضي مفاعيله السلبية على المؤسسة العسكرية، سواء في علاقتها مع نظيرتها السياسية والشعب التركي، أو في علاقتها مع الدول الغربية التي تعتبر الانقلابات العسكرية نمطاً وأسلوباً للدول المتخلفة، لا يستقيم مع دولة تعلن راية الحداثة وتتبنى أيديولوجيا الغرب السياسية، وتنزع إلى أن يكون لها مقعد بين هذه الدول.
أن تقف المؤسسة العسكرية إلى جانب الحكومة والرئيس المنتخبين وتعلن في اليوم التالي أنها تضع نفسها رهن الدولة والشعب، فهذا انعكاس للتحول الحاصل في الذهنية العسكرية، وأن تتوحد القوى والأحزاب السياسية ضد المحاولة الانقلابية رغم عداوتها لحزب «العدالة والتنمية» وأردوغان، فهذا أيضاً انعكاس للتحول الذي أصاب المجتمع السياسي التركي، وأن يتوحد الشعب على اختلاف توجهاته وراء الحكومة المنتخبة، فهذا أيضاً انعكاس للتحول الحاصل في المنظومة الاجتماعية.
ولذلك، يمكن وضع العملية الانقلابية في إطار السيطرة على السلطة والصراع على نمط ممارسة الحكم، بعبارة أخرى إن المحاولة الانقلابية كشفت مدى الاستياء من السياسة الشمولية وإن كانت مشرعنة ديموقراطياً.
لعل تصريح رئيس الوزراء بن علي يلدريم، حين وعد ببداية جديدة من التعاون مع الأحزاب الرئيسية الأربعة، ثم تصريح الرئيس اردوغان حين شدد على عدم التأخير في تطبيق عقوبة الإعدام للانقلابيين وأن الحكومة ستناقش الأمر مع أحزاب المعارضة، يحملان دلالة هامة على ضرورة تغيير أسلوب الحكم.
هذان التصريحان يوضحان الدرس الكبير الذي خرج به حزب «العدالة والتنمية» من المحاولة الانقلابية، بحيث يمكن القول إن تجربة الساعات الست لعبت دوراً فاعلاً في تأطير الثقافة السياسية والديموقراطية للنخبة الحاكمة، وقد تطلب الأمر هذه الهزة العسكرية الكبيرة لإدراك أن الفوز الانتخابي لا يعني الهيمنة السياسية، وأن المعارضة السياسية يجب أن تكون شريكة في اتخاذ القرار وإن كانت خارج السلطة حين يتعلق الأمر بقضايا ذات أبعاد استراتيجية.
ستكشف الأيام والأسابيع المقبلة مدى هذا التحول في الثقافة السياسية، وستكون أمام الحزب الحاكم تجربة دقيقة، فإما أن يؤسس لمرحلة جديدة في تاريخ الديموقراطية التركية، أو يضع نفسه في مأزق سياسي ستظهر نتائجه مستقبلاً.
على النخبة الحاكمة إعادة قراءة علاقتها بالمجال العام، وخصوصاً المجال الإعلامي الذي تعرض لأزمات خلال السنوات الماضية، ومن مكر التاريخ أن تكون الوسائل الإعلامية التي تعرضت لضربات على يد أردوغان هي الوسيلة التي من خلالها أوصل صوته إلى الشعب التركي.
وعلى النخبة الحاكمة إعادة ترتيب العلاقة بينها وبين القوى السياسية والعسكرية من خلال تعزيز الأطر القانونية والديموقراطية، وحتى محاكمة الانقلابيين يجب أن تتم وفق القانون وبتوافق سياسي وعسكري كامل.