يقدم سيد قطب في كتابيه «في ظلال القرآن» و «معالم في الطريق» التصور الإسلامي الحركي والمعاصر للجهاد، ويمكن عرض تصوره للجهاد بعباراته تقريباً بحدود ما تتيحه هذه المساحة أنه تقديم الإسلام إلى العالم، ولأجل ذلك يجب إزالة الأنظمة والسلطات التي تحول بين الناس وبين البيان للمعتقدات والتصورات. فمنهج هذا الدين هو «إزالة الطواغيت كلها من الأرض جميعاً وإقامة مملكة الله في الأرض» ولا علاقة للجهاد في الإسلام بحروب الناس اليوم ولا بواعثها ولا تكييفها كذلك، فهذا الدين بما هو إعلان عام لتحرير الإنسان يعني الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها، والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه للبشر بصورة من الصور، ذلك أن الحكم الذي مردّ الأمر فيه إلى البشر، ومصدر السلطات فيه هم البشر، هو تأليه للبشر، ومملكة الله في الأرض لا تقوم إلا بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة، وأن يكون مرد الأمر إلى الله وفق ما قرره من شريعة مبينة، وإلغاء القوانين البشرية.
وكان أسوأ من هذا «البيان النازي الإسلامي» هــو الجهود العلمية والمؤسسية الرسمية أو التي برعـــاية الحكومات على مدى مئة وخمسين عاماً لتقديم وصياغة النظام السياسي والاقتصادي للدول المعاصرة وفق «الشريعة الإسلامية» وتقـــديم فقه وتصورات إسلامية للواقع المعاصر كما هو مقتبس من الغرب، والحــال أن عالم العرب والمسلمين تتنازعه سلطة استـــبدادية واحتكارية توظف الدين وجماعات سياسية تثور الدين والشعوب، وفي الحالتين فقد ألغيت إرادة المواطن الإنسان الحرّ، ولم يُعترف به قادراً بنفسه على معرفة وتمييز الصواب والخطأ واكتشاف وتطبيق حلول عقلانية لمشكلات الدولة والمجتمعات. وفي ذلك فقد أفسدت السياسة ودمرت الثقافة الشعبية وحولتها إلى حراك خطير مملوء بالكراهية والقسوة، وكان الصراع بين السلطات السياسية والجماعات الإسلامية السياسية والقتالية في حقيقته هو أيهما (السلطات أم الجماعات) الأحق بإقامة مملكة الله في الأرض والأقدر على ذلك!
واليوم فإن الأنظمة السياسية تستنفر مواردها والمعونات الدولية لمواجهة التطرف والعنف، ليس بالنظر إليه أفكاراً ومعتقدات خاطئة وخطيرة تؤسس للكراهية والعنف، وتهدد السلم الاجتماعي، أو باعتباره محصلة لسياسات وبيئة اقتصادية واجتماعية وتعليمية أنشأت التمرد والتطرف والحرمان والفجوة بين الطبقات، ولكن بالنظر إليه خروجاً على احتكار السلطة للفتوى والمعرفة، فالتطرف حرام او خطأ، فقط لأن المفتي أو وزير الاوقاف أفتى بذلك!
إن المعتقدات معلومات ومعارف ومواقف تعكس تفاعلنا مع العالم، نعتقد أنها صحيحة، ونقدم بها أنفسنا باعتبارها جزءاً من هويتنا، كما نستعين بها على حماية وجودنا واستمرارنا، ومواجهة الأخطار والتهديدات، وفي ذلك فإنه يتساوى في التعصب والاستبداد متدينون وغير متدينين، حكومات ومعارضات، وأصحاب اتجاهات سياسية وفكرية من كل مصدر واتجاه كما يتساوى في ذلك أيضاً متعلمون وأكاديميون مع شباب وفتيان أو أشخاص محدودو التعليم والمهارات، لأن الشعور بالأخطار والتهديد يجعلنا نشعر دائماً بأننا على صواب، ويحق لنا أن نفعل كل شيء لحماية أنفسنا وبقائنا، وليس مهماً بعد ذلك أن تكون صحيحة أو خاطئة هذه المعتقدات بما هي في الحقيقة وسواء كانت دينية أو قومية أو سياسية أو طائفية أو نخبوية شعور بالخوف أو حاجة إلى تعزيز البقاء والمكتسبات، ولا فائدة ولا أهمية للجدل العلمي والديني حول هذه الأفكار والمعتقدات.
فالعلم بما هو مجهود إنساني للوصول إلى تصور وتطبيق أفضل في المعرفة والحياة يظل بما هو كذلك قابلاً لإثبات الزيف، بل لا يكون علماً إلا إذا كان قابلاً لإثبات خطئه، ما يجعله بالضرورة غير يقيني وعرضة للتغير المستمر، ولكن المخاوف والمشاعر المنشئة للمعتقدات وما يتشكل حولها من سلطات وجماعات لا تتغير تقريباً ولا يمكن إثبات خطئها، والكثير الذي تعطينا إياه المعرفة العقلية والعلمية لا يشكل دافعاً ولا يصلح إلا في حالات قليلة لا أهمية لها لدعم المعتقدات أو نقضها، وسنظل قادرين على نحو لا نعيه او لا نعترف به على تضخيم الأدلة العقلية والعلمية التي تدعم معتقداتنا والقبول بها بسهولة، وتجاهل الأدلة المناقضة أو إخضاعها لشك فلسفي عميق، لدرجة أن المراقب تدهشه هذ القدرة المعرفية والفلسفية لإثبات وتأييد مقولات تعطيل العقل وعجزه!