من الغريب أن يرتفع صوت في المشهد السياسي والإعلامي اليوم، يطالب بتأجيل الانتخابات النيابية، بينما مؤسسات الدولة، وفي مقدمتها الهيئة المستقلة للانتخاب، منشغلة إلى أبعد مدى في التحضير والإعداد، من أجل عبور هذا التحدي الوطني المهم.
تيار المحافظين وأنصار "الصوت الواحد"، ومعهم بعض المسؤولين الرسميين المتخوفين من الانتخابات، عادوا مرّة أخرى لمحاولة التشكيك في إجراء الانتخابات، وإعادتنا إلى "نقطة الصفر"، عبر إدعاءات غير منطقية، مثل الصعوبة في تشكيل القوائم، أو عدم معرفة المرشحين والمواطنين بقانون الانتخاب، أو القائمة الكبيرة المقلقة لحزب جبهة العمل الإسلامي (جماعة الإخوان المسلمين الأم)، وغيرها من حجج تصل بنا إلى نتيجة واحدة؛ أنّ قانون الصوت الواحد هو الوحيد المناسب للبلاد!
فضلاً عن أنّ هذا الاقتراح ليس عملياً ولا منطقياً، ومجرد طرحه يحمل تشكيكاً في قدرة الدولة على خوض هذا الامتحان المهم، والبديل عن إجراء الانتخابات سيكون عودة مجلس النواب السابق، فإنّه يقدم صورة سلبية عن الدولة والتخطيط السياسي في ظل أزمة اقتصادية كبيرة، ما يجعل من مجرد طرح هذا السيناريو العجيب الغريب أشبه بالفنتازيا السياسية!
الحجج التي أسمعها غير مقنعة بحال من الأحوال. فتشكيل القوائم مسألة بدهية في أي انتخابات في العالم، وإذا كانت هناك معوقات ومشكلات في تشكيلها، فإن ذلك نابع، أولاً، من بقايا تأثيرات "الصوت الواحد" الذي فتت المحافظات والدوائر والأصوات، ما انعكس على أداء مجلس النواب وصورته سلبياً. وثانياً، من عدم قدرة نواب سابقين أو مرشّحين حاليين على الالتقاء مع آخرين، وهذه مشكلتهم وليست مشكلة الدولة و"الهيئة" أو حتى الناخبين.
أمّا المعرفة بالقانون، فهي أيضاً ذريعة واهية، وعيب أن تطرح أمام شعب نسبة التعليم فيه من أعلى النسب في العالم العربي، ويمتاز أبناؤه بثقافة سياسية معروفة وعريقة، وليست المسألة بذلك التعقيد. وسنجد اهتماماً كبيراً لدى الناس بمعرفة القانون خلال الأيام المقبلة، وكيفية التصويت، ومعرفة المبادئ التي تحكم احتساب الأصوات.
الانتخابات القادمة تمثّل امتحاناً مهماً للدولة؛ على صعيد إظهار قدراتها السياسية في إجراء انتخابات نزيهة، وعلى صعيد إيمانها بالدستور وبالعملية الإصلاحية، وعلى صعيد احترامها لرأي المواطنين والشارع، وعلى صعيد قدرتها على إعادة الشرعية والحيوية للعبة السياسية بعدما افتقدتها خلال الفترة الأخيرة نتيجة ضعف مجالس النواب.
وأيضاً قبل ذلك، تأتي أهمية الانتخابات على صعيد محورية وجود مشاركة شعبية وتمثيل سياسي واسع، والبلاد تمرّ بمنعطفات تاريخية؛ من زاوية المتغيرات الإقليمية المحيطة، ومن زاوية الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة والارتفاع الكبير في نسب البطالة واتساع الفجوة بين الفقراء والأغنياء، وانتشار حالة الإحباط والغضب في أوساط اجتماعية نتيجة الظروف الراهنة، ومن زاوية تراجع الآمال المعلقة على المساعدات المتوقعة من الأشقاء، أو من مخرجات مؤتمر لندن.
كل تلك العوامل تدفع إلى أهمية وجود مجلس نواب قوي، يضم المعارضة السياسية والقوى المختلفة تحت القبة، ما يؤطر الخلافات في مسار اللعبة السياسية وليس خارجها، كما حدث سابقاً خلال فترة الحراك.
من يطالبون بتأجيل الانتخابات هم ذلك التيار الذي مايزال يمارس حالة إنكار لأهمية الإصلاح وضرورة التطوير والتجديد، وحالة إنكار لخطورة الأزمة الاقتصادية وللأزمات الثاوية المرعبة، بداية من انتشار التطرف، مروراً بالمخدرات، وصولاً إلى البطالة والفقر والتذمر الاجتماعي.
في المقابل، فإنّ الانتخابات ستسمح بتأطير النقاش والحوار، وإعادة الثقة بمؤسسات الدولة، كما إعادة تدوير الزوايا الحادة في خطاب المعارضة، ووضع الدولة أمام التحدي الحقيقي في إثبات قدراتها وكفاءتها في مواجهة التحديات بدلاً من الهروب منها!
سيناريو تأجيل الانتخابات!
أخبار البلد -