بعد ذلك عرف الانسان ان اليوم يمكن تقسيمه الى ساعات والساعات الى دقائق والدقائق الى ثوان كما اخترع جاليليو التلسكوب وقام بتوجيهه الى الكواكب والنجوم. تطورت الأمور ففي العام 1872 تمكن العالم البريطاني «بريدج» من صنع آلة تصوير لا تتعدى مدة فتح عدستها الجزئين من الالف من الثانية واستطاع من خلالها تصوير حصان وهو يعدو ولاحظ ان الحصان في بعض اللحظات لا يلامس الارض بأي من قوائمه الاربعة. أما بالنسبة للذرة فقد احتاج العالم حتى القرن العشرين لمعرفة خصائصها ولكن احداً لم يتمكن من دراسة ما يدور بداخلها فالذرة اصلاً صغيرة وحجمها يساوي واحد على مائة مليون من السنتيميتر فما بالك وانت تنظر الى جزيئات عندما تتحطم او تتحد فان الروابط الكيميائية تحصل خلال اقل من واحد من مليون على مليون من الثانية.
وهكذا، وبينما نحن في غيبوبتنا وجهلنا، تأتي انتَ من مصر، كالفارس على جواد ابيض تحمل رايتك الخفاقة لتقول للعالم انك قد اخترعت آلة تصوير، تستخدم اشعة الليزر،تستطيع تسجيل ميلاد الجزيئات داخل الذرة في زمن اسميته انت«الفيمتو»واخبرتنا ان النسبة بين الثانية والفيمتو هي النسبة ما بين 32 مليون سنة والثانية.
كيف تسنى لك ذلك ايها الفتى الاسمر ذو الشعر الاسود الخشن والعينان الواسعتان،انت الذي حملت قدماك تراباً من تراب مصر، مصر التي انجبت العقاد ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وطه حسين، انت الذي سبحت في الترعة وشربت من ماء النيل، تأتي لتقول لنا انك قد صوبت تلسكوبك، ليس نحو النجوم، بل نحو اشياء تتحرك داخل الذرةففزت بجائزة نوبل ثم قمت بالرد على ذلك العالم الامريكي الذي قال لك:»كيف حظيت بهذه الجائزة رغم جينات التخلف العربي التي تحملها؟» فتقول له:»جيناتي هي نفس جينات اجدادي العرب والفراعنة ولكن اميركا اعطتني الفرصة والفرصة مضمونة للمجتهد».
أما انا فانني اقول، والله يشهد على ما اقول، انني تابعتك في حلك وترحالك...احببت فيك طفولتك وانت تدرس تحت ظلال الاشجار، وانت تذهب الى المسجد، ثم وأنت تمشي في الشارع الموازي للنيل وتجلس على الدكة الخشبية مع صاحب الدكان هناك وهو يُحَضر لك اغراض المنزل التي طلبتها امك. ها انت تعود لتأكل مع افراد عائلتك جالساً على الارض حول «الطبلية» وابكي انا عندما اشاهدك وأنت تقبل يدي والديك قبل الذهاب الى النوم. كنت تلهو وتلعب مثل كل الاطفال في سنك ولكنك كنت على قناعة تامة ان سبيلك الى التقدم والنجاح هو ان تتعلم من العباقرة وان تحذو حذوهم. احببت أنت الموضوعات التحليلية وكنت تكره الحفظ والصم وكنت تحترم مدرسيك وتلعب كرة القدم في فناء المدرسة باستخدام كرة «الشراب» القماشيةالمصنوعة من الجوارب القديمة الملفوفة فوق بعضها البعض. كان المذياع الى جوارك دائما وكنت تبحث فيه عن صوت «ام كلثوم» وهي تغني «غنيلي شوي « و «رق الحبيب». في العام 1967 ورغم ظروف النكسة، نجحت في امتحان التوجيهي المصري وتم قبولك في كلية العلوم التي تقع في حي الشاطبي، في مدينتي، مدينة الاسكندرية. كنت معك بروحي وانت تنطلق بالقطار من دمنهورفي السادسة صباحاً الى الاسكندرية لتعود في الثامنة مساءً. رغم كل الظروف تحصل على ماجستير في علم الضوء بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف ويتم تعيينك معيداً في الكلية. كنت اضحك انا عندما اراقبك وانت تعد العشرين جنيهاً (معاشك الشهري) ثم تدسه في جيبك وتبتسم.
تمنحك الجامعة مكتبا كان في الحقيقة مخزناً للزبالة والمهملات، حَشَرّتَ فيه انت مكتباً وكرسيين واسميته «المخزن» وعنه قلت في كتابك،»عصر العلم»:رغم الصراصير والجرذان فقد احببت فيه الخلوة والحرية. تابعتك وانت تتصل مع جامعات اميركا وتخبرهم عن افكارك لرسالة الدكتوراة المستقبلية فجاءك القبول من جامعة بنسلفانيامع اعفاءك من رسوم الدراسة وتوفير معاش شهري بالاضافة الى منحة لاجراء الابحاث. تذهب لمقابلة رئيس جامعة الاسكندرية لاخباره واخذ موافقته فيمنعك الحارس «الفراش» الواقف على الباب ويقول لك: هل تعتقد بانك تستطيع مقابلة رئيس الجامعة بهذه البساطة؟ تسافر الى اميركا ومعك أربعين دولاراًفتصادف الصعوبات الجمة في المجتمع الجديد، والبرد الشديد، وساعات العمل الطويلة، وصعوبة اللغة الانجليزية التي لا تتقنها. كنت دوماً تدرس اثناء الليل وعلى المنضدة امامك ترقد صورة والديك وزوجتك ميرفت وبناتك مها واماني وفي الخلفية تصدح ام كلثوم بالأطلال وغيرها.
رغم كل الصعوبات والعراقيل والمسؤوليات العائلية والاكاديمية والبحثية والتدريسية وفترات النوم القصيرة تحصل على درجة الدكتوراة في العام 1974 ثم في العام 1982 يتم تعيينك استاذاً للكيمياء في جامعة كالتك، وما بين بنسلفانيا وكاليفورنيا، تنفصل عن زوجتك.
أحس وكأنني كنت هناك معك في بيتك في كاليفورنيا عندما رن جرس الهاتف في الساعة الرابعة من صباح يوم 10 ديسمبر من العام 1999. رأيتك تثب من نومك مذعوراً فيجيئك صوت السكرتير العام للاكاديمية السويدية ليقول لك: «اسف للازعاج في مثل هذا الوقت المبكر من الصباح ولكنني احمل لك اخباراً سارة، لقد فزت يا سيدي بجائزة نوبل وسوف يعلم العالم كله عن هذا النبأ بعد قليل، وانا اقول لك: انه بعد عشرين دقيقة من الان لن تنعم بالراحة في حياتك». رأيت على وجهك علامات الدهشة والفرحة فها انت ابن مصر ، تصنع التاريخ. توقظ زوجتك الجديدة الدكتورة ديما ابنة الاديب السوري شاكر الفحام وتوقظ اولادك، نبيل وهاني،وتزف لهم البشرى وتتصل هاتفياً مع افراد عائلتك وعائلة زوجتك وتتصل مع زملائك وطلابك وفجأة تحيط بالمنزل افواج الصحفيين ومذيعي محطات الاذاعة والتلفزة. أضحك أنا فلقد صدق «السويدي» عندما قال انك لن تنعم بالراحة بعد الان.
رافَقتك روحي في رحلتك الى ستوكهولم لاستلام الجائزة... سيارة ليموزين لاستقبالك مع افراد عائلتك الاثني عشر، الاقامة في فندق جراند ، الجولات السياحية، حفلات العشاء والغداء... اسبوع اسطوري... ثم اللحظة الاهم، لحظة تسليم الجائزة في كونسرت هول حيث قابلت الملك كارل جوستاف والملكة سيلفيا اللذان وقفا لتحيتك. ها انت صبي مصر، ابن دمنهور ودسوق وكفر الشيخ والاسكندرية تستلم اعلى جائزة علمية في العالم على وقع موسيقى «اللحن المصري»للموسيقار شتراوس، كل ذلك واولادك هاني ونبيل مستغرقان في النوم. رافقتك وانت تذهب الى العشاء مع الملك في «السيتيهول»فتلاحظ الخزف النفيس وادوات المائدة المصقولة من الفضة وكؤوس الكريستال اللامعة فتدور عيناك في ارجاء المكان ويأخذك التفكير بعيداً الى جلسة «الطبلية» على الارض مع العائلة في دمنهور.
بالامس فقدنا الدكتور احمد حسن زويل، العالم الجليل المجتهد، عميد العلم والفيمتوكيمياء، الذي أفادت البشرية كلها من علمه والذي ادخل العالم كله في زمن جديد لم تكن البشرية تتوقع ان تدركه.
اخاطبك يا سيدي وانا اعرف انك طلبت ان يدفن جثمانك في مصر فأنت الذي قلت انك تدين بهذه الجائزة لخالقك ولعائلتك ووطنك وتَمنيت ان تكون جائزتك بمثابة درس لكل شباب العرب بأن النجاح يمكن تحقيقه من خلال العمل الجاد والتفاني في العلم.
سوف يتم تكريمك ياسيدي وسيطلق اسمك على الميادين والشوارع وسوف يقومون باصدار طوابع تحمل اسمك وسوف تنال النياشين والاوسمة ولكن ذلك لن يغير من طبيعة الامور في شيء فالذي فاز بجائزة نوبل هو الدكتور زويل، الاميركي الجنسية من جامعة كاليفورنيا،وكم من «زويل» هناك في العالم العربي تاه واختفى لعدم توفر المناخ العلمي المناسب الذي يدعم الابتكار والابداع.
ختاماً أقول: ارقد يا سيدي بين يدي الله... ارقد بسلام... ونحن هنا على الأرض نذرف الدموع... محبة لك وإحتراما.
«أرض ايزيس»
أخبار البلد -
منذ ان خلق الله جل جلاله الأرضَ وما عليها والانسان يتطلع نحو السماء للتعرف على الزمن وقياسه فاستخدم اشعة الشمس وعرف التقاويم الفلكية قبل ستة الاف سنة أما في عهد الفراعنة الذين بنوا الاهرامات فقد تركوا فتحة في بنائها تنفذ منها اشعة الشمس في ساعة محددة وفي يوم محددمن كل عام، الى مركز الهرم، حيث يضعون جثامين ملوكهم.