بقيت كثير من المسائل والقضايا الوطنية المهمة على الصعيد المحلي غير محسومة، ويسودها قدر كبير من الضبابية والتدليس الممنهج، ولم يتم تناول الحديث فيها بجدية وجرأة حتى هذه اللحظة، وأصبحت مع مرور الوقت سمة بارزة من سمات الخطاب السياسي لبعض القوى السياسية، وفي أجواء الانتخابات البرلمانية العامة يحسن تناولها وإعادة تجليتها على بساط أحمدي من أجل وضع اليد على الجرح والشروع بالمعالجة الجادة من أجل تحقيق شروط الشفاء، وليس من أجل المناكفة والمساجلة السطحية، ولا من أجل نبش الأخطاء أو التحريض؛ كما يحلو لبعض المصرين على الخطأ إطلاق الاتهامات.
كل من يريد دخول معترك الانتخابات البرلمانية، وخوض معركة التمثيل النيابي، إنما يرشح نفسه ليكون عضواً في السلطة التشريعية التي تعد من أهم سلطات الدولة وأعلاها شأناً في تقرير مصير الشعب الأردني والدولة الأردنية، وفيما لو نجح هذا المرشح واستطاع الحصول على مقعد برلماني؛ فقد أصبح مسؤولاً أمام الشعب الأردني، وأصبح محملاً بمسؤولية ثقيلة وكبيرة، تحتاج إلى قوة وأمانة كبيرتين، وانتماء وولاء عميقين للدولة ودستورها وقانونها وأنظمتها وقيادتها وشعبها، عن طواعية واختيار بلا قهر ولا إكراه.
بناء على المقدمة السابقة التي تحظى باتفاق العقلاء على اختلاف افكارهم وأديانهم واتجاهاتهم السياسية؛ فإنه لا يصلح لخوض الانتخابات من لا يشعر بالولاء والانتماء الحقيقي للدولة الأردنية، ولا يجوز بأي حال من الأحوال أن يسعى لحجز مقعد في السلطة التشريعية كل من لا يعترف بالدستور ولا يخضع للقانون تصريحاً أو تلميحاً، على المستوى النظري وعلى المستوى العملي، ويجب أن يكون منسجماً مع نفسه ومع ذاته أولاً، ومنسجماً مع رأيه وفكره ومعتقده ابتداءً وانتهاءً، ولذلك كل من يقول بجاهلية المجتمع والتشريعات، وكل من يرى الخضوع للدستور والقانون كفراً وخروجاً عن الملة، ومتناقضاً مع صريح النصوص، فعليه أن يكون واضحاً مع الناس والإعلام وأمام العالم كله وعلى رؤوس الأشهاد بهذا الرأي الذي لا يحتمل المداهنة، لأن من يدخل الانتخابات وهو يتبنى رأياً أو فكراً سياسياً لا يعترف بالدولة ولا بالدستور ولا القانون ولا النظام؛ فهو بدوره يمارس خداع نفسه وخداع الشعب الأردني والرأي العام، ويمارس التذاكي المرفوض بكل منطق وتحت أي مبدأ سماوي أو أرضي.
هناك فكر سياسي آخر ينطلق من منطلقات سياسية أخرى ليست دينية ولكنها تتفق معها بالنتائج، فهناك من لا يعترف بوجود الدولة الأردنية ولا بمستقبلها ولا بحدودها، ويقول بأنها كيان وظيفي، أو أنها عبارة عن امتداد لقطر عربي آخر شرقاً أو شمالاً أو جنوباً، أو أنه ينظر للأردن أنها مجرد ساحة أو مرفق لمشاريع غير وطنية، ولا يهدف من خلال الانتخابات إلّا الحصول على حصانة برلمانية تحمي خروجه على الدولة وتحمي تمرده على الثوابت الوطنية، ومن أجل استخدامها في خطابه السياسي لتقويض الأردن دولةً ونظاماً ومؤسسات، فهذا لا يخرج عن حدود الخيانة الوطنية الحقيقية قيد أنملة، ويناقض أبسط مقتضيات المواطنة وواجباتها وحقوقها.
هناك فرق كبير بين معارضة سياسية مشروعة ضد منهج سياسي وضد آراء ومواقف سياسية وضد الفساد من جهة، وبين معارضة فكرية وسياسية جذرية للدولة الأردنية وأصل وجودها ودستورها وقانونها وحدودها، فالمعارضة السياسية الوطنية ضرورة من ضرورات الحياة السياسية، ومن أبجديات العمل السياسي، ولا يستقيم العمل المجتمعي والانتماء الوطني إلّا بوجودها، لكن ذلك في حالة كون المعارضة جزءاً من الدولة ونظامها، وتعمل تحت مظلة دستورها وقانونها، وتحترم الإرادة العامة لشعبها؛ ليكون الاختلاف داخل الدولة وليس على الدولة.
ويجدر التنبيه في هذا المقام بكل وضوح أن الانتماء للأردن وطناً ودولةً ودستوراً وقانوناً هو من صميم الانتماء للعروبة والإسلام ، ومن يريد أن يصنع التناقض بينهما لا يعدو أن يكون جاهلاً أو مزايداً أو مارقاً أو متعصباً، قد أعماه جهله وتعصبه عن إدراك الحقائق التي لا تحتاج إلى إثبات..
هذه مسألة جوهرية وجذرية ومنها تكون البداية، وليست مسألة سياسية صغيرة وليست قضية فرعية يمكن تجاوزها أو السكوت عليها، وأعتقد أن السكوت عليها فترة من الوقت في السابق قد أغرى بعضهم بالعمل خارج مظلة القانون وخارج دائرة الانتماء للدولة وسلطتها الشرعية، ويأتي التهافت على المقاعد البرلمانية من هؤلاء في هذا الوقت من أجل تحقيق أغراض وأهداف ليست وطنية، ولا تنبثق من الاستعداد الوطني لتحمل المسؤولية في حفظ الدولة وحماية استقرارها، وإنما يأتي في سياق التذاكي والاستغفال الذي ينبغي أن لا يتم تمريره مهما كان الثمن، لأن مصلحة الدولة العليا فوق كل اعتبار.